في واقع الأمر يمثل حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا البرجوازية الحقيقية الأولى والتي وصلت الى سدة الحكم ولأول مرة في تاريخ الجمهورية منذ تأسيسها في عام 1923. البرجوازية التي حكمت تركيا حتى عام 2002 كانت طفيلية ومزيفة بكل معنى الكلمة.

في فترة الحكم العثماني كانت الصناعة والتجارة والفن والمسرح.....أي بإختصار الثقافة وعالم المال والأعمال كانت تقريباً بلا إستثناء بيد النخب الأرمنية واليونانية في عاصمة الإمبراطورية إستانبول وبقية المدن الكبيرة مثل إزمير وأضنة وقيصرة وجميع مدن البحر الأسود. وبعد مجازر الأرمن المعروفة في عام 1915 أصبح عالم المال والأعمال مع تلك الثروات الهائلة بلا صاحب. حدث ذلك بشكل غيرمتوقع. الدولة وجدت نفسها مرغمة على شغل هذا الفراغ الخطير والمفاجئ حتى لا تتوقف عجلة الحياة، فبدأت بتعويض الأمر عن طريق العناصرالتركية.

هؤلاء الأتراك الذين جيء بهم لم يكونوا مؤهلين لاعلمياً ولا أخلاقياً بل وجدوا أنفسهم يملكون المال والجاه بين ليلة وضحاها.

في بداية تأسيس الجمهورية هاجرالمواطنون اليونانيون أيضاً تركيا وإلتجأوا الى الدولة اليونانية. وبنفس الطريقة تم ملئ الفراغ بالمواطنين الأتراك غير المؤهلين. هؤلاء الأتراك ــ أي أثرياء السطو والنهب ــ أصبحوا عبيدأً لمن جاء بهم الى جنة الثروة والمال، أي عبيداً للدولة التي صارت ولية نعمتهم. ولم ينحدر أي واحد منهم من الطبقة البرجوازية الحقيقية ولم تكن لديهم تلك الثقافة والمستوى الفكري والعملي لملئ ذلك الفراغ.

الدولة حينها كانت تعني العسكر. ولهذا أصبح هؤلاء أغنياء السطو والنهب من أموال الأرمن واليونانيين عبيداً للعسكر. وهم كذلك حتى الآن. هذه الطبقة التي كانت في الواقع عبارة عن مجموعة من اللصوص والمحتالين، أصبحوا برجوازييّ الدولة ومركز الثقل فيها، بيدهم المال والثروة والإعلام يسرقون الدولة ــ التي أحاطوها بالقيود الجمركية لتحميهم من المنافسين ــ ليتقاسموها مع العسكر والطبقة السياسية والبيروقراطيين الكبار.

العسكر وهذه الطبقة كانوا خلف الستاردائماً، بينما السياسيون كانوا في الواجهة ويديرون عملية سرقة ونهب الدولة فيما بينهم.

في منتصف الثمانينات وصل الرئيس الراحل توركوت أوزال الى دفة الحكم. هذا الإنسان الجريء ــ الذي أغتيل بيد تلك العصابة ــ رفع القيود الجمركية في يوم واحد بشكل مثير للدهشة. بهذه الخطوة فتح الباب أمام الطبقة المتوسطة في الريف الأناضولي لكي تتصدر المشهد وتدخل الأسواق الخارجية دون أية عوائق، حيث تخلصت من عبودية المتحكمين في المدن الرئيسية. هؤلاء أصبحوا أثرياء حقيقيين بعرق جبينهم وليس كالسابقين من أثرياء الجثث والقبور والإبادة.

البرجوازية المزيفة كانت مقلدة للغرب quot;ترتدي أحدث اللباس. يجيدون الرقص مع نسائهم، ويعرفون تذوق النبيذ، ويقدمون التحية برؤوسهمquot; أي كانوا يعبدون ويقلدون الغرب في كل شيء، إلا ديمقراطيته وعولمته، لأنها ببساطة كانت ستهدد مملكتهم اللصوصية.
بالعكس من هؤلاء نجد أن البرجوازيين الحقيقيين يكرهون quot;تقليد الغرب في الملبس والرقص وشرب الخمر......الخquot;، إلا أنهم معجبون بالعولمة والديمقراطية الغربية، والتي هي بالذات كانت وراء وصولهم الى عالم المال والأعمال. هذه الطبقة هي التي تسعى للدخول الى الإتحاد الاوربي الذي حاربته برجوازية أثرياء الحرب.

هذه البرجوازية الجديدة بعد أن وصلت الى المستويات العليا وجدت نفسها قادرة الى الوصول الى السلطة أيضاً. وبذلك وجدوا ضالتهم في تلك النخبة ــ أي عبدالله غول ورجب طيب أردوغان وبولند آرنج....الخ ــ الذكية ذات الأيادي البيضاء والتي إنفصلت عن السيد نجم الدين أربكان، الذي عٌرف بالجبن وكان يصاب بالذعر والهلع أمام العسكرالذين طردوه من رئاسة الوزراء فيما يعرف بإنقلاب 28 شباط الأبيض 1997.

هذه النخبة بدورهاــ التي أسست حزب االعدالة والتنمية فيما بعد ــ عرفت أن البرجوازية الجديدة هي قاعدتها للوصول الى السلطة، وبعدها الإحتفاظ بها، وهو الأمر الذي حدث بالفعل في عام 2002 و2007 عند إكتساحها الإنتخابات. الشيء الوحيد الذي يربط هذا الحزب وقاعدته الآنفة الذكربالإسلام هو قيام النخبة بواجبات العبادة الإعتيادية من صوم وصلاة وإرتياد الجوامع واللباس المحتشم {وهذا هو سبب تسميتهم بالإسلاميين}.....الخ. ولجوء النخبة لمثل هذه العبادات كانت موضع الشماتة والإحتقارــ وعلى الملأ وفي وضح النهارــ من البرجوازية الكمالية. ليس لهؤلاء أية علاقة بالإسلام السياسي ــ الذي لايزال يمثله بقايا حزب الرفاه ــ الإيديولوجي المتخشب والذي أصبح خارج العصر. وهل هناك quot;حزب إسلاميquot; يستطيع القيام بدور الوساطة بين اسرائيل والآخرين؟؟؟.

حزب العدالة والتنمية يشبه الى حد بعيد أحزاب الديمقراطيين المسيحيين في الغرب. محافظون إجتماعياً ولكن ليبراليون في الإقتصاد والسياسة، ومتمسكون بالديمقراطية والعولمة التي هي في الواقع ولية نعمتهم {يمكن تسميتهم بـ الديمقراطيين المسلمين وليس بالإسلاميين}.

الدولة السرية متمثلةً بالجيش وبرجوازية السطو والسرقة وبيروقراطيو الدولة وعصاباتهم {التي في هذه الأيام يمثلون أمام المحاكم} المتجذرة داخل الدولة لم تستسلم بعد، بل هم يتحينون الفرص للإنقضاض على كل ماحدث من التطورالمذكور.

هناك تخوف دائم من حدوث إنقلاب حيث أن المتضررين لن يتخلوا بسهولة عن جنة الثروة والجاه، أي quot;الدولةquot;.

[email protected]