نقلت صحيفة الصباح العراقية يوم السبت الماضي عن ناطق باسم المجلس الأعلى قوله: quot;ان الرئيس (نوري) المالكي والسيد (عمار) الحكيم شددا على ضرورة التواصل بين القوى السياسية الفاعلة على الساحة العراقية، من اجل تحقيقِ تعاون مشترك يسهم في دعم العمليِة السياسية، وتثبيِت ركائز المشروعِ العراقي الجديد quot;.

بعد ذلك بأيام خرج علينا المالكي بقرار، كان متوقعا، يعلن فيه أنه لن ينضم إلى الائتلاف، وأنه سيخوض الانتخابات المقبلة منفردا، تحت واجهة دولة القانون.

وقبل أن نناقش قرار المالكي، ما له وما عليه، يكون لزاما علينا أن نصارحه برؤيتنا لطبيعة المشروع الوطني الذي ناقش تثبيت ركائزه مع عمار الحكيم في لقائهما الأخير.

فمهما تفاءلنا وحاولنا أن نشعل شمعة بدل أن نلعن الظلام، كما يطالبنا قادة أحزاب المحاصصة وأصدقاؤهم وبعض العراقيين المخلصين جدا لهويتهم الوطنية المهددة بالضياع، فنحن الجمهرة الواسعة من الكتاب السياسيين العراقيين، لا نستطيع أن نتساهل ونجامل وننافق فنغمض عيوننا عن النصف الفارغ من الكأس، ونتغنى فقط بنصفه الآخر المملوء بالدم والدموع والغش والطائفية والعنصرية والاحتكار والفساد.

فالمنصف المخلص من كتاب العراق ومثقفيه الديمقراطيين الوطنيين غير الانتهازيين لا يستطيع أن يبريء المشروع السياسي التحاصصي الحالي من الديكتاتورية التي تؤطر العملية السياسية برمتها وهو يشاهد ما يمارسه على أرض الواقع العراقي المر قادة الأحزاب المتحاصصة المشاركون في تأصيلها وتجذيرها، والحريصون كل الحرص على المحافظة على أسسها الطائفية والعنصرية، وإصرارهم على عدم تالمساس بها أو الإخلال بحصص كل منهم فيها، وعدم السماح بدخول أية دماء جديدة إليها فتشاركهم في صياغتها وتوجيهها، وقد تغير قواعدها وقوانينها المقدسة لديهم إلى أبعد الحدود.

ففي نظرنا وقناعاتنا لا تخرج الركائز الملموسة والثابتة للمشروع الذي أسمته صحيفة الصباح بـ (الوطني)، وقالت إن المالكي ناقش أمر تثبيتها مع الحكيم، برغم كل محاولات تلميعها وسترها وترقيعها، عن الصورة التالية:

- جمهورية الجنوب، ملكية خالصة ونهائية لائتلاف الأحزاب الموالية لإيران دون منازع. قد يختلف الفضيلة مع المجلس يوما، أو قد يتمرد التيار الصدري على الحكيم مرة، ولكن الجميع ملزم في النهاية بأن يستظل بالخيمة ذاتها. وهذه هي الركيزة الأغلى والأهم والأكثر سخونة لديهم، والتي لا يتهاون أي طرف من أطراف الائتلاف عن استخدام أقسى العقوبات وإنزال اوسخ العواقب بمن يحاول الإخلال بها، مهما بلغ الخلاف الداخلي فيما بين قادته وأحزابه ومكوناته.

ولن يجد معارضو هذه الهيمنة ثغرة ينفذون منها لتقويضها وخلخلتها، في المدى المنظور على أقل تقدير. فليس مسموحا، لا لانتخابات برلمانية ولا لانتخابات محافظات ولا لأية ضغوط عربية أو إقليمية أو دولية بأن تمس هذه الركيزة من ركائز المشروع.

- جمهورية الوسط، وعاصمتها المنطقة الخضراء، ساحة مشاعة للجميع، ولكن لا مانع من أن يأكل فيها القوي الضعيف، خصوصا إذا كان هذا القوي من أرباب المليشيات المجاهدة، أو أحد المجاهدين الذين تقاسموا الجيش وقوى الأمن، وارتدى أتباعه ثياب رجال الأمن والجيش، وصار بإمكانهم أن يقتحموا منزل من يشاؤون، ويختطفوا من يريدون، باسم الأمن الوطني وباسم محاربة الإرهاب. إنها مجزرة لم تتوقف عن الدوران، ولن تتوقف، منذ سقوط نظام صدام حسين وإلى اليوم وإلى أن يشاء الله وأولو أمرنا الداخليون والخارجيون معا، مع الأسف الشديد. وبالتالي فالسلطة فيها، واقعا وعمليا، ثابتة أيضا للائتلاف نفسه، وحزبُ المالكي عضوٌ فيه حتى وهو خارجه، باعتباره أقوى أطراف المحاصصة، والحاصل على (تطنيش) الجبهة الكردستانية المتحالفة معه عن هذه الهيمنة، مع تطلبه هذا التطنيش (الديمقراطي) من التنازل عن بعض المواقع السيادية المهمة في المنطقة الخضراء للحليفين الدائمين المخلصين، البرزاني والطالباني، كوزارة الخارجية والماء ونيابة رئيس الوزراء، و17% من ميزانية الوطن والمناطق المتنازع عليها. أما السنة العراقيون العرب فلهم الكلام المباح، وبعض الفـُـتات من مقاعد برلمان لا يحل ولا يربط، وبضع مفخخات، وجمهرة من انتحاريين قتلة وجزارين يصولون ويجولون في مناطق سكنية (شيعية رافضة) أو (سنية عميلة للاحتلال) والعياذ بالله.

- جمهورية (شمال ستان)، فدرالية حتى العظم، وعندما ستنتهي صفقة تقاسم المناطق (المتنازع عليها) في كركوك والموصل وديالى، بالتفاهم مع الائتلاف ودولة القانون، سيغلق الشقيقان، برزاني وطالباني، هذه الجمهورية، رسميا، أمام حكومة المركز بالكامل، ويعلنان استقلالها، وعلى من يعترض أن يشرب من مياه الخليج الفارسي (وليس العربي). وغير مسموح، داخل هذه الجمهورية، لغير كاكا مسعود ومام جلال، الفوز بالانتخابات، واقتسام الوزارات والمؤسسات، والمتاجرة بالماء والهواء، وقبول الهدايا من دول صديقة قريبة وبعيدة، وعقد صفقات النفط والسلاح، وإيجار وبيع المكاتب للمخابرات الصديقة والشقيقة، واستقبال السفارات، واحتلال المزارع والقصور ومحلات بيع الخمور.

هذه هي حدود الجمهوريات الثلاث القائمة عمليا وواقعيا ضمن خارطة المشروع (الوطني) الذي بحث الحكيم والمالكي أمر تثبيت ركائزه يوم السبت الماضي، على ذمة صحيفة الصباح.

ومن القوانين المنظمة لثوابت تلك الركائز أن تتم لفلفة أي سرقة أو اختلاس أو تهريب أو اغتيال، قد ُيفتضح أمر أحد المجاهدين المتورطين فيها، بالتي هي أحسن، وعدم كسر عظم أحد من المتحاصصين، حتى إذا ضبط متلبسا، بل ينبغي منحه فرصة للهرب أو الاختفاء محملا بما خف حمله من أموال منقولة بالشاحنات. لأن الخير يجب أن يعم على جميع المجاهدين، والفضيحة يجب ألا تطال أيا منهم، وبأي ثمن وبأية حجة ووسيلة.

ومن تلك القوانين أيضا ممارسة التنافس بين أقطابها على المناصب والكراسي، بالحسنى وتبويس اللحى والعمائم، أي بدون الغوص عميقا في سلوك أي مجاهد شقيق، لا ماضيا ولا حاضرا، فخط الرجعة محفوظ لجميع المجاهدين.

ومنها أيضا أن يسد المتحاصصون آذانهم تماما عن شتائم المعارضين وتخريفاتهم، وأن يعملوا بكل الوسائل والأساليب على ترويض الجماهير العريضة، وتعويدها على قبول الأمر الواقع، حتى لو كان أمَرَّ مما شهدته في عهد الراحل العزيز أبي عدي. والزمن خير مداو ٍ ومعالج لأوجاعها وآلامها وشكاواها. وليس مهما أن تبقى الجماهير العريضة دون كهرباء أو ماء أو غذاء أو دواء. فهذا نصيبها من السلطة الوطنية. وحين يتجاوز حدود الشكوى واحد من أفراد تلك المجاميع البشرية الحاقدة الحاسدة فعلى المتحاصصين اجتثاثه على الفور، والتشهير بماضيه وماضي أسلاف أسلافه، واتهامه بالصدامية والقاعدية والوهابية والسمسرة وتجارة الرقيق، أوخطفه وتعذيبه، أواغتيال أحد أخوته أو أبناء أعمامه أو أخواله، إلى أن يبلع صوته، ويركع تحت أقدام خانقيه، طالبا الرحمة والمغفرة.

بعد كل هذه المقدمة المطولة يحق لنا أن نتساءل: هل إن قرار المالكي الأخير مجرد توزيع أدوار وتبادل مواقع بينه وبين فرسان الائتلاف، هدفها تثبيت ركائز المشروع الوطني، ذاته، والحفاظ على الهيمنة الطائفية ذاتها، خصوصا بعد أن تأكد للولي الفقيه أن أوراق كبار وكلائه في الائتلاف محروقة، عمليا، في الشارع الشيعي، أكثر مما هي الشارع السني، أم إن قراره صادق ونزيه ووطني فعلا، وقد يصبح بداية حرب مصيرية ونهائية بين ائتلاف طائفي فصّتله طهران على مقاس مصالحها المشروعة وغير المشروعة في العراق، وبين حزب الدعوة الذي ولد ونشأ وترعرع في الأحضان الإيرانية الدافئة، لكنه تمكن من تحرير نفسه وفكره وقواعده وووسع مداركه السياسية بفعل تجربته في الحكم، فقرر أن ينزع فكره الطائفي القديم ويستبدله بفكر وطني متحضر، فاختار السباحة المنفردة، طامحا إلى كسب كرسي الرئاسة باستخدام لافتة دولة القانون التي نفع سحرها في انتخابات المحافظات السابقة والتي منحته قوة كبيرة فاق بها منافسيه؟

وهل سيحقق المالكي نفس النتائج الباهرة السابقة في معركته الجديدة، فتمنحه الجماهير ثقتها مرة أخرى، رغم أنه لم يصدق معها ولم يف بوعوده الكبيرة السابقة لها، فلم ُيقم دولة القانون، ولم يتخل نهائيا عن طائفيته وارتباطه المزدوج بالإيرانيين والأمريكان، ولم يحقق الأمن، ولا وفر الخدمات الأساسية، ولم يمكن العدالة من الاقتصاص من الوزراء والمسؤولين الكبار في حكومته، وفي حزبه بالذات، ممن ثبت أنهم استغلوا مواقعهم وتلاعبوا بالمال العام؟

بعبارة أخرى، هل يؤرخ قرار المالكي لمرحلة جديدة من تاريخ العراق والمنطقة مختلفة عما سبقها من مراحل، أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا وأمنيا، أم إنه سيظل برغم كل شيء أمينا على ركائز المشروع الوطني التي بحث أمر تثبيتها مع الحكيم، قبل أن يعلن قراره الأخير؟


نتمنى بحق أن يكون المالكي هذه المرة هو السهم المشتعل المرتجى الذي يضيء بنوره ظلام السنوات السبع العجاف. ساعتها لن نقف على التل نتسلى ونتشفى، بل سوف نضع كل ما في قدراتنا من جهود خيرة ونزيهة وصادقة لنصرته على جميع الشرور، سواء منها العابر إلينا من غرب الوطن أو من شرقه، سواء بسواء.