1 ـ الدّرب؛ ملاحَة البَصَر:
على خلافٍ واضح من مشهد quot; الدار البيضاء، المتبدّية من الجوّ كما لو أنها مغروسة في بيداءٍ لا نهائية، فإنّ quot; مراكش quot; تجلّت لناظري من نافذة الطائرة، المُحلّقة، عروساً فاتنة، مصبوغة الوجنة والبشرة بإحمرار حيي ومتوشحة بفستان مخضوضر، مرقش بأحجارها الكريمة. هذه الحاضرة، العريقة، حقّ لها أن تفخر على أخواتها بنعت quot; مدينة المسرّة quot;؛ وهوَ النعت، المُحال إلى ساحتها الأشهر، quot; الفناء quot;، التي لا يدعها المنشدون تنام، أبداً. وعلى كلّ حال، فها أنا خارج قاعة المطار، ألتفتُ حولي بحثاً عن سيارة أجرة. ثمة مغيبٌ، منقط بغيوم رماديّة، خفيفة المحمل، مُضاءة من لدن شمس مستأذنة للتوّ في إيابها لملكوت ما وراء الأفق؛ شمس، لا بدّ أنها تولّت نهاراً صهرَ كلّ شيء بأتونها المُلتهب. عند محطة التاكسي، المحاذية لقاعة إستقبال المسافرين، خيّل إليّ، لوهلةٍ، أنّ مشادة ما بين السائقين، كانت في ذروتها. ولكنني أدركتُ فوراً أنها مجرد مناقشة محتدمة بين هؤلاء الأشخاص، الذين كانوا مترجلين من عرباتهم العتيقة، والمركونة بالمقابل في نظام صارم، يمتّ للحداثة والتمدّن: وإذاً، عليّ كان أن ألمّ بإحدى الخصال الطريفة لأخواننا، المغاربة؛ ألا وهيَ التحدّث جَمْعاً وبصوتٍ عالي النبرة حدّ الصياح! كانوا إذاً يتهاتفون بلغطٍ شديدٍ، قبل أن يهدأوا دفعة واحدة ما أن حاذيتُ موقفهم. وبما أنّ النظامَ صارمٌ هنا، كما سبقَ وألمحتُ، فإنّ الشخصَ الذي تقدّمتُ منه أرشدني إلى عربة تقف في أول الطابور، مُشيراً لي بإتجاه سائقها: quot; لا تنقده أكثرَ من مائة درهم..! quot;، قالها وهوَ يُشيّعني متبسّماً.
ذلك السائق، المُشار إليه، كان لحسن حظي إنساناً خلوقاً؛ ليسَ لأنه تمنع عن مجادلتي بشأن الأجرة المتوجّبة وحسب، بل وخاصّة ً لما سيتجشمه من عناءٍ وصبر خلال طريقنا، بحثاً عن عنوان النزل، المُفترض أنه كائنٌ في جهةٍ، معروفة، بقلب المدينة القديمة. على أنني، ومذ لحظة إنطلاقنا بالعربة، كنتُ على إكتراثٍ، كبير، بكل ما يصدفه بصري من موجوداتٍ وكائنات. من جهته، فالسائق وقد لاحظ إهتمامي هذا، الموصوف، فإنه راحَ في كلّ مرة يُشير بيده نحوَ هذه وتلك من المعالم التي نمرّ بها ـ كالبوابات التاريخية، الفاغرة أفواهها خلل السور العريق. سبع أفواهٍ لهذه الهولة العظمى، إذاً؛ شاءَ إحداها أن يزدردَ عربتنا الصغيرة ليسلمها، من ثمّ، إلى أخيه. عمائر عديدة، توحي بالعظمة، كان علينا أن نمرّ بها أيضاً. وإذ صادف نظري بناء في غاية الضخامة، فإنّ السائقَ الدليلَ لم ينسَ وسمه بـ quot; المأمونية quot;؛ متفاخراً بأنه أهمّ نزل الحاضرة: وكان عليّ أن أتفكر عندئذٍ، ما لو أنه الفندق نفسه، الفخم، الذي إحتفى في سبعينات القرن المنصرم بتصوير مشاهد من quot; الحبّ الضائع quot;؛ الفيلم الرومانسيّ، الرائع، المُتعهّد بطولته كلّ من سعاد حسني ورشدي أباظة.
سعياً بإتجاه مقصدنا، ولجَتْ سيارة الأجرة خلل إحدى البوابات، الكبرى، المنبثقة عن السور العتيق. رأيتُ أنها على جانبٍ من السعة والجدّة؛ بشكلها المقوّس، الأنيق، ولونها المؤطر بالبياض الناصع. quot; إنه باب دُكالة quot;، قال السائقُ مُسمّياً هذا الأثرَ، الذي عبرناه تواً. من جهتها، فذاكرتي إستحضرَتْ الإسمَ مُحالاً إلى الحيّ نفسه، المُتعيّن على النزل، المطلوب، أن يقع عنوانه في أحد دروبه. حيوية الذاكرة، كان يجب أن يُنشطها أيضاً عنوانٌ آخر؛ هوَ quot; دربُ الزاوية quot;، الكائن بمقابل المَعلِم، الكبير، الما لبثتْ عربتنا أن توقفت أمامه: مقام quot; سيدي دُكالة quot;، المُتمدد بطوله المديد، كما بلونه الأخضر، الزاهي ـ كتنين خرافيّ. والدرب هذا، الموسوم، كان عبارة عن زقاق ضيّق (أو quot; زنقة quot;، باللهجة المحلية)، ينفتح مباشرة على ذلك المقام الجامع. جادّة فرعيّة، حافلة بضوضاء المارة والمتسكعين سواءً بسواء، كانت تفصلُ مدخلَ دربنا عن الجامع. هذه الجادّة، تتسع هنا تحديداً مثل ساحة، رَحبةٍ نوعاً، حيث تتناثر الحوانيت على جانبيها، طبعاً بإستثناء الجهة اليمنى، المُحتبية تجاليد الوليّ quot; دُكالة quot;؛ هذا المُعتبَر، كما علمتُ لاحقاً، أجلّ الرموز الروحيّة في المدينة. مَدَدْ، إذاً، يا مولانا.. مدد.
دربنا الضيق هذا، المتصلُ بالجادّة والمظللُ بالعقود الحجرية، كان مرصوداً بالأبنية التقليدية، المُرتفعة الجدران كما أسوار الحصون المهيبة. هنا وحالَ وصولي بمعيّة السائق الكريم ـ المُحتمل إحدى حقيبتيّ ـ رأيتُ أنّ الزقاقَ المطلوب يضمّ أكثرَ من نزل (أو quot; رياض quot;، بحسب التسمية الدارجة). في صدر المكان ينتهي الزقاق بنزل ذي مدخل واسع، بهيّ الطلعة، قد إستعارَ إسمه، quot; الحمرا quot;، من النعت الذي عُرفتْ به مدينة quot; مراكش quot;؛ نسبة ً لتربتها، المائلة للحمرة. وها هوَ نزلنا، المقصود، يحملُ بدوره إسم المدينة ذاتها، ليُشكل هكذا توأماً سعيداً مع سميّه؛ النزل الآخر: فيما بعد، سيحيطني أحدهم علماً بأنّ هذا الإسمَ بربريُّ الجذر (أو أمازيغيٌّ، كما يُفضلون هنا القول)، وأنه مركّبٌ من مفردتيْ quot; مُورّا ـ كيش quot;؛ أيْ: quot; إمض ِ بسرعة! quot;. وسبب التسمية، أنّ المدينة بالأصل كانت واحة نخيل، مقفرة من الناس، بإستثناء قطاع الطرق الذين إعتادوا زمنئذٍ الإغارة على القوافل التجارية. وبأيّ حال، فبمحض المصادفة إنّ إقامتي المراكشية سيكون عليها التوزع بين ذيْنك الرياضَيْن، الموسومين، بما أنني قررتُ صرفَ النظر عن السفر إلى quot; الدار البيضاء quot;، كما كان وارداً في خطة رحلتي؛ بعدما جدَّ حدَثٌ، يمتّ لشأن شخصيّ. بيْدَ أنّ هذا حديثٌ آخر.
2 ـ الرّياض؛ دوحَة الراحَة:
بابُ الرياض، الخشبيّ والمُتقن الزخرفة، آنَ له أن يستقبل الضيفَ المُضنك من السفر. رأيتني من ثمّ بمقابل شابّ بشوش الطلعة، فارع الطول، تلقاني بمزيدٍ من الودّ والترحاب. نبرته، كانت أليفة لسمعي. وحينما سألته، ما إذا كان هوَ من تكلم معي، هاتفياً، بشأن الحجز في النزل، فإنه أجابَ إيجاباً مع ضحكةٍ مَرحة، متطبّعة بخلقه الدّمث. الوقتُ عندئذٍ كان يتوغل في غلسة الغروب، المفعمَة بموجاتٍ من الهواء الساخن. وجدتني في صحن الدار، المُضاء بمصابيح خافتة الإنارة، والمنبعث منه أصواتٌ عديدة وبلغاتٍ مختلفة. كان المكانُ مشغولاً بالنزلاء السيّاح، العائدين ولا ريب من جولاتهم وتسكعهم عبرَ معالم المدينة وأسواقها، وقد إقتعدوا الآن على أرائك وكراس من الحديد المطروق، والمحدقة بطاولات مستديرة من المعدن نفسه. ما أن أخذتُ راحتي على أحد الكراسي، حتى لفتَ نظري فوراً ذلكَ القوس العجيب، الهائل الإرتفاع، والمنحوت في الحائط الحجريّ، المُصمّت، المُشكّل أحدَ الأركان الأربعة للرياض. في قلب القوس، ذي اللون الزيتونيّ، ثمة إفريز أفقيّ، دقيق، تسيل منه مياهٌ رقراقة، متحدِّرة بتدفق هيّن نحو حوض ضيّق، مستطيل الشكل، موجود بأسفل القوس. نخلتان يانعتان، منبثقة كلّ منهما من آنيةٍ فخاريّة، عملاقة، قد إنتصبتا على جانبيّ الحوض ـ كحارسَيْن مهيبين. فيما فخاريات اخرى، أقلّ حجماً، محتوية تعريشات الياسمين والورود، كانت تمكث عند قواعد الأعمدة الحجرية، السامقة، المُلبّسة بالسيراميك المُزخرف، الأزرق اللون.
ـ quot; مرحباً يا أخي، وأهلاً بكَ في وطنك الثاني..! quot;
إتجهتْ إليّ بالقول إمرأة سمراء، ثلاثينية العمر، موشّحة الرأس بخمار كامد. كانت قد خرجت تواً من المطبخ الصغير، الذي يقع خلف مجلسي مباشرة، محتفية ً بي على الطريقة المغربيّة: بمزيدٍ من مفردات المُجاملة وبقدح ململم، مذهّب، من الشاي المُعَطر بالنعناع والمُحلّى بشدّة. شكرتُ حفاوة المرأة، المُحتشمة، القائمة على تدبير شؤون النزل، فيما بصري يترصد ما يحيطني من أشياء. الرياض، القائم على دور ثلاثة، كان مربّع الشكل، تهيمن السماء المنجّمة على صحنه الأرضيّ هذا، المُعدّ باحته الوحيدة. ومفردة quot; رياض quot;، هيَ ولا شكّ جمعُ quot; روضة quot;؛ وعَجَبي من تبني الجمع لا المصدر في قاموس موطن الأطلس! على أنّ التسمية هذه، كما طراز البناء، ربما يمتّ كل منهما إلى أصل أندلسيّ، أثيل. وبما أنّ أمويي دمشق، طيّبي الذكر، هم من تعهدوا بدءاً تلك الحضارة الحيّة أبداً، التي عاشت قروناً في شبه الجزيرة الإسبانية، فلا غروَ إذاً أن تتشابه العمارة الكلاسيكية للرياض والبيت الشاميّ: هذا الأخير، بالمقابل، يفترق عن أخيه بأكثر من ناحية؛ كونه من دورَيْن فقط، ويتمتع بحديقة حافلة، فضلاً عن إنفتاحه على أكثر من باحةٍ، داخلية وسماوية على السواء، ودونما أن نسلوَ الإيوان الباذخ، المُعدّ مكاناً مفضلاً لقاطني البيت الدمشقيّ في الربيع والصيف. ولكنّ الرطوبة، العذبة، التي تهيمن مساءً على صحن الرياض، تجعل له نفس المهمّة، المنوطة بالإيوان. quot; شتاءً أيضاً، يجدُ المرء الدفء هنا، بينما البرودة تكون مهيمنة خارجاً quot;، تؤكد لي مدبّرة النزل. دقائق اخرى، وهذه السيّدة تعودُ إليّ ثانية ً؛ هذه المرّة، مبتسمة، وبيدٍ ممسكة الهاتف المحمول: quot; جماعتكَ على الخط! وقد سبقَ لهم هذا اليوم أن سألوا مرتين عن موعد وصولك quot;. كانت الساعة قد دنتْ من منتصف التاسعة، ولهذا تعذر اللقاءُ ليلتئذٍ. دونما مزيد من المُراغمة، وافقتُ أخيراً وعلى مضض على تأجيل موعد لقائنا إلى ظهيرة اليوم التالي.
لهذا الصباح الألِق، العَبق، أُنيبَ أمْرُ كشفي لغزاً لغزاً سرَّ فتنة الرياض، المراكشيّ. هنا، كان عليّ أن أدركَ ذوقي، وحالما راحَ البصرُ يُحلق خلل صفق نافذة حجرة النوم، مرفرفاً فوقَ عارشة quot; البوغِنفيلا quot; (أو quot; المجنونة quot;، كما نسميها في الشام!). هذه العارشة الأثيرة لديّ، كانت ثمة بأوراقها الكثيفة وأزهارها الفاتنة، الأرجوانية، قد أرختْ خصلها من سطح البناء نزولاً حتى الدور الثاني. مُنتشلاً نفسي من ورْدِها المُستحبّ، تذكرتُ أنّ عليّ إدراك وجبة الفطور، التي من الواجب إحترام توقيتها الصباحيّ، المحدّد. كنتُ عندئذٍ في الشقة الصغيرة، التي أشغلها بالدور الثالث؛ في سريري، الوثير، المهيمن على معظم مساحة حجرة النوم، والمرتفعة قلانسه الأربعة المُدبّجة، الملوكيّة. إنتقلتُ أولاً إلى الحجرة الوسطى، كيما أحضر ملابسي. وهذه الحجرة تعتبر بمثابة الصالون؛ بأرائكها الوثيرة، المطوِّقة منضدة عريضة من خشبٍ مزخرف، وقطعتيْ بيرو قد حُفرَت نقوشهما بإتقان ورهافة. ثمة إكسسوارات عديدة، تحفل بها الشقة، وكلها على النمط المغربيّ، المميّز. قبل شروعي بطقس الإغتسال، قمتُ إلى باب الحمّام، الخشبيّ، فأغلقته تجنيباً لجسدي العاري من تيار المكيّف، البارد؛ وهوَ الجهازُ، الصخاب ليلاً ـ كأنما يشكو من توحّد حداثته بين هذه الكلاسيكيات! وإلى حوض الإغتسال، إذاً، المخوّل لنفسه الحقّ بإستحواذ ربع مساحة الحمّام، والمبنيّ من الإسمنت المتماهي بالبورسلين ذي اللون الأزرق. موقع الحوض، المركون بمقابل الباب، يُحيلنا إلى ذكاء منشئه، ورغبته في تنسيم المكان بالهواء العليل، المُقتر صيفاً، طالما أنّ عمارة ذلك الزمن كانت قد أسحقتْ بعيداً عن عصر الطاقة وملحقاته.
كما أنّ السيراميك، الأزرق، هوَ عنوان العمارة المغربية، فالخزف يًعدّ طابعَها المنزليّ، الغالب على كلّ ما عداه من مواد؛ وبالأخصّ، على المائدة: هنا في وجبة الفطور، السخيّة، شُرِّعَ الخزفُ أدواتٍ مختلفة الإستعمال؛ مرطبانات دقيقة الحجم، ذات لون بنيّ، يفيض كلّ منها بأنواع المربى أو العسل؛ أقداح كبيرة وصغيرة، يغلب عليها بريق الأزرق الأطلس، تؤرّجُ عبقَ الشاي والقهوة والحليب؛ صحون عريضة المنكبين، مهيأة لتطلب الشهية من أصناف الجبنة والزيتون والزبدة والبيض. الفطور هذا، التقليديّ، كان لا بدّ له أن يتداخلَ مع تعديل طفيف، إفرنجيّ، جلباً لذوق السائح؛ من كأس عصير البرتقال، إلى فطيرة الحلوى، علاوة على الـ quot; البنكاكا quot; المُستجلبة من المطبخ الأوروبيّ. وإذاً، ما أن أوفيتُ معدتي حقها، وزيادة أيضاً، حتى بدلتُ مكاني. الديوان الخشبيّ، المصبوغ بالأسود، أضحى منذئذٍ مجلسي المفضل صباحاً؛ هوَ المنهمدُ بدِعَة في الجهة الأكثر رطوبة من صحن الدار، المحاذية لمسيل المياه، المنحدر من الجدار المقوّس: هنا، خلفي تماماً، يتصدّر الحوشَ جناحٌ على جانب من السعة، له صلة وثيقة بالظلال ما دام محجوباً طوال النهار عن كرة الشمس، الملتهبة. بعيدَ فراغي من قهوتي، الصباحيّة، ولجتُ رفقة فضولي إلى حرمة المكان هذا. كان الجناحُ عتماً قليلاً، لولا بصيص النور المتأتي من نوافذه والمتناثر على الأثاث. ثمة أرائك وطاولات يزدحم بها المكان، فضلاً عن عدد من الصناديق الخشبية، الأنتيكية، المحتوي بعضها كتبٌ ومجلات، سياحية، بلغات أوروبية غالباً. من بعد، ستمسي بعض هذه المنشورات سلوتي، الوحيدة، في حنيني الدائب للقراءة.
توقٌ مُلِحّ، كان يحثني على إرتقاء الدرج الحجريّ، الضيّق، المُفضي لسطح الرياض. في كلّ خطوةٍ رقيَةٍ كان ثمة فانوسٌ صغير، من معدن الحديد المشغول بدقة، يرافق صعود المرء إلى الأدوار العليا والمنتهية بالسطح ذاك: ربما هوَ تقليدٌ قديم، يُذكّرنا بزمن ما قبل الإنارة الكهربائية. عند الدور الثالث ـ حيث شقتي الفارهة ـ توقفتُ لألملم أنفاسي ولكي أتملى من مشهد الترّاس، المفصول عن الشقة بجدار واطيء ودرجتين عريضتين. هذا التراس يضمّ طاولة ً مستديرة، محاطة بعدد من الكراسي، وكذلك عدداً شجيرات الزينة؛ من مجنونة وياسمين وبوكسيا وجوري، المتجاورة مع أصص الخبيزة، المذهّبة الأزاهير. أصِلُ السطحَ أخيراً، فيما الوقت ما زالَ غير حارّ بعد. ها هنا خطفَ بصري مشهدُ quot; مراكش quot; القديمة، الساحر، الممتدّ حتى مركزها؛ حتى نجمته المنيفة، الباسقة: منارة quot; الكتبيّة quot;، أكبر مساجد المدينة وأهم معالمها الأثرية. هوذا الجامع الآخر، quot; سيدي دُكالة quot;، على مرمى حجر من موقفي، يشمخ بدوره بمئذنته العالية وقد توارى عنه غموضه، الذي أحاط عينيّ مساءَ أمس. أسعدني، ولا ريب، أن ألاحظ إهتمام الأهلين بالخضرة والزهور، والمتجلي جلياً بالعديد من الأغراس والأشجار والتعريشات والصبّار، التي تزمّل معظم منازلهم؛ سواء أكانت فقيرة أم موسرة. لكأنما الإهتمام هذا، الموصوف، هوَ تعويضٌ عن إفتقاد تلك المنازل للجنائن، والتي مبعثها ضيق المساحة المخصصة للبناء داخل أسوار المدينة القديمة. كنتُ أهمّ بمغادرة السطح، بعدما دهمتني الشمس بسهام أشعتها النافذة، لحظة وقوع بصري على سطح منزل عتيق، مجاور: مأخوذاً، تمعنتُ بأبهة أشجارالحمضيات والرمان، اليانعة الأوراق والمزدهرة الثمار. لم يكن قد جازَ لعلمي بعد، أنّ شقيقات الأشجار هذه ثمة؛ في قلب quot; مراكش quot; وحواريها، يزينّ الشوارع والجادات والدروب، علاوة على المنتزهات العامّة. كنتُ على موعدٍ، مُسبق، مع الأماكن تلك، بما أنني سأتوجّه من فوري إلى قلب المدينة، الخافق؛ إلى ساحتها، الأشهر؛ quot; ساحة الفناء quot;.
للرحلة صلة