حياة الريس من تونس: عندما ذهبت لمشاهدة مسرحية quot; بوابة النجوم quot; تجليات رجاء بن عمار ـ لمسرح فو ـ في اطار مهرجان الحمامات الدولي في دورته ال44 لهذه السنة الذ ى تحتضنه دار سيبستيان بحديقتها الشاسعة الغناء: المركز الثقافي الدولي حاليا. قصدت مدارج المسرح الروماني حسب العادة لمشاهدة العرض فوجدته خاليا من الممثلين و من الجمهور و الوقت تمام بداية العرض: الساعة الثامنه مساء و لكني كنت اسمع اصواتا تتردد في ارجاء الحديقة الشاسعة و ممراتها المقفرة تنبعث من الدار اقتربت من دار سيبستيان استوقفتني لوحة قريبة من الارض في شكل سهم باتجاه الدار دفعني الفضول لقراءتها او لعل كلمة ـ موت ـ هي التي استجلبتني قرات:ليس المرعب في الموت انك لا تعرف الى أي عالم ستنتقل و لكن المرعب ان تصحو كل صباح لتتساءل quot; ماذا افعل انا في هذا العالم؟quot; استغربت وجود هذه الحكمة الفلسفية المرمية في ممر الحديقة الخلفية للدار ووقفت برهة و قد اخذني التامل في متاهات سؤال الموت ....و اذا بصرخة تدوي ورائي: quot; ماذا تفعلين انت هنا؟quot; التفت و قد كنت اظنني وحدي في هذا القفار لاجد الممثلة quot; رجاء بن عمارquot; مخلوعة ترتجف كمن كمش مخلوقا متسللا من كوكب آخر ليفسد عليه حرمة عتبات عالمه او كانني تجاوزت خطا quot; بوابة النجوم quot; كما ارادت ان تفاجئ بها جمهورها بعدما سيجت كامل المكان.....و اعلمتني في هلع ان الدخول اجباري من بوابة الدار البرانية امتثلت بسرعة اذ لم يبق على العرض الا دقيقتان و من الغباء مناقشة فنان في مسائل تنظيمية قبل العرض بدقيقتين و هوفي اشد حالاته توترا لكني كنت اتساءل: لماذا تريدني رجاء ان اقوم بكل هذه اللفة الكبيرة ما دمت قد وصلت الى الدار حيث العرض و لو من الباب الخلفي؟
من البوابة الخارجية كان الدخول انحناء خفيفة عبر فردة الباب اليمنى الصغيرة و الضيقة لتجد نفسك في نفق طويل مظلم امامك عسسا مكمّمي الافواه بلصقة طبية يرشدونك بايديهم فقط التي تتحرك ذات اليمين و ذات الشمال لنخرج بعد لاي على الحديقة.... يقودنا العسس الى مربع جحيمي به سعير نار تشتعل حول كومة حطب و امراة تلبس ثياب شفافة تكشف عن فخذيها و تنتحب في نواح مرير تستغيث باعلى صوتها و تندب مجيئها الى هذه الدنيا وتتوسل الرجوع الى رحم امها في ندم عبثي.
ثم يقودنا العسس المكممي الافواه في شئ من الصرامة و الوداعة في ممرات مسيجة ممنوعة من الحركة الحرة و قد وقعنا فجاة بين ايديهم و لا مفر لنا من التراجع او الخروج عن النظام و لكن احدا لم يكن يفكر بالهرب الكل ماخوذ بغرائبية الطقس و عجائبية المشاهد و الكل واقع تحت تاثير الدهشة التي تصنع الفرجة اليوم لنجد انفسنا في خيمة من القصب تترائى لنا من خلالها عجوز تجر جلبابا طويلا ابيض و تجروراءها كيس نفايات ضخم مربوط بحبل الى راسها المغطى بمنديل طويل ابيض ايضا و لكن اي بياض؟ كانت تثير الغبار حولها و هي تترك المقصف لتسير صامتة لا تلتفت لتغيب في طريق طويل ثم نجدها في غرفة مستطيلة مخنقة وسط غيمات دخان و اكوام زجاجات بلاستيكية فارغة و هذه الغرفة لا تحتمل الوقوف فيها لاكثر من دقيقة واحدة فنخرج مختنقين من عذاب او عقاب التلوث . على حافة سطح دار سيبستيان تجلس عروس جميلة ناعمة تتدلى طيات ثوبها الابيض حتى الارض ما يقارب الثلاثة امتار و هي تنثر وريقات الجيرانيوم ذات اليمين و ذات الشمال لهبات النسيم في حركات لا تكل و لا تنتهي.... تهب الفرح و لا يبدو على ملامحها احساس به هي اقرب الى الدمية منها الى حرارة و حيوية عروس يوم زفافها.
ثم ندخل اكبر قاعة،مغلقة و حامية،بها اجساد بشرية هي اقرب الى الأ شباح مقمّطة وجوههم و ابدانهم في امتار سخية من الكتان الابيض الشفاف تُرى و لا ترى في عملية عكسية للشبح : البعض مصلوب الى الحائط و الآخر يتدلى مشنوقا من السقف امام
امراة مقتولة غارقة في دمائها وسط حوض استحمام وشحاد صامت لا يتحرك في برنس مشروخ جهة يده اليسرى في يده سيجارة لا تنطفئ كان الزمن توقف عندها ... الوان من إعادة القتل اليومي في مشاهد لا تنتهي لاشباه بشر يلاحقون اشياء لا يعرفونها.... وسط كل ذلك تقف صاحبة هذه التجليات الفنانة quot; رجاء بن عمارquot; في ثياب داكنة تلك التي رايتها به قبل العرض تحرك قدرا قديما فوق كانون على طاولة، ظهرها الى القاعة تحرك طنجرة ملوخية تفوح رائحتها وتتخلل القاعة الجحيمية رغم رائحة الموت التي تملا المكان و التي تخرج من عين المصلوب و المشنوق و المخنوق لتنشر الحياة في الارواح المقتولة يوميا تحت عربات الموت المتربص بانسان هذا العصر في كل مكان
هل احتفظت لنفسها ـ رجاء بن عمارـ صاحبة العرض و كل هذه المشاهد بلمسة التفاؤل هذه لتشّع من بين الارواح المغتالة و المقتولة؟
عندما خرجنا الى فيرندا الدار فاجانا سرير كبير به قوائم اربعة مرفوعة ليعلق بها جسد امراة من شمع في هيئة الخرفان المصلية في المآدب الفاخرة كان جسد الشمع يذوب قطرة قطرة على حطب نار تشتعل في قاع السرير و بجانبه رجل ضخم الجثة على راسه قبعة بلباس البطل الاسطوري quot; زوروquot; واقف مقتول الحركة يتفرج على الجسد الذي يشوى و يسيل قطرة قطرة على نار هادئة...
في ادغال الحديقة غرفة هاتف عمومي مغلقة بها جسد شاعر يتلوى و يتخبط في ضوء صاخب ويصرخ مكررا ابيات شعربين الفصيح و العامية تحكي قصة انتظاره لمواعيد لا تاتي ينتظر الصباح في ليل ابدي.
نرفع اعيننا لشجرة عملاقة من اشجار الحديقة الخرافية فتجد رجلا معلقا في قمتها يبحث عن مكان له في كوكب آخر و قد انفصل كليا عن الارض و لم يبلغ السماء
في آخر رقعة من رقع هذه المشاهد نصل كلنا: كوكبة المتفرجين بعد ساعتين من التنقل من مشهد الى مشهد في متاهات البستان التي لا يتسع المجال لذكرها كلها الى صوت مغنية كهلة كانها قادمة من الازمنة الغابرة و لكن ينبعث من حنجرتها الرخيمة لحنا فرنسيا مليئ بالتفاؤل و الحياة فيهبّ كل اموات و احياء المشاهد السابقة المشنوقين و المصلوبين و كل المعذبين في الارض يفرون من من جحيمهم اليومي ماخوذين بصوتها كانه الخلاص السحري كانه هجمة الحياة المباغتة من اعماق ليل المشهد و لا ادري كيف انخرط الكل في الفرح و التهنئة لاعضاء الفرقة الذي قارب عددهم الخمسين في عناق مع اصدقائهم من المشاهدين الذي مازالوا تحت تاثير الدهشة التي نجحت في صنعها رجاء بن عمار مع رفيق دربها الفنان المنصف الصائم
في خضم هذا الطقس الاحتفائي النهائي لهذا المسرح العجائبي التقينا ثانية انا ورجاء بن عمّار لكن غير لقائنا الاوّل:انا اهنئها بنجاح العرض و هي تعتذر عن ـ تحويل وجهتي ـ و تحاول ان تشرح لي... و لكنها فعلا غيّرت وجهة المُشاهد الذي كان ينتظر ان يجلس على كرسي و يتابع ربما ـ سلبيا ـ الفرجة فجعلته طرفا مشاركا يركض وراء الدهشة مستمتعا بلذة الاكتشاف وسط متاهات هذه الرحلة وسط عالم متلاش متارجح بين الادراك و الحلم و ربما غيّرت ايضا مفهوم الفرجة و معنى المسرح. و لكنها علّمتنا ايضا ان ندخل البيوت من ابوابها ابتداء من quot;بوّابة النجوم quot;.