نفض الغبار عن quot;الإلياذةquot;:
الشاعر النمساوي راؤول شروت يعيد الحياة لملحمة هوميروس
صالح كاظم من برلين: الشاعر والكاتب النمساوي المثير للجدل راؤول شروت (1964) يثبت يوما بعد يوم قدرته على إثارة النقاش في الأوساط الثقافية والعلمية حول مواضيع تبدو كما لو كانت قد فقدت حيويتها بالنسبة للإنسان المعاصر: فها هوذا، بعد أن فتح النقاش على مصراعيه حول إمكانية تقديم quot;ملحمة جلجامشquot; للجمهور المعاصر في لغة جديدة تتناسب مع عصرنا الراهن، يقدم على ترجمة ملحمة quot;الإلياذةquot; الى الألمانية في لغة أقرب ما تكون الى اللغة المنطوقة، منها الى اللغة quot;الأدبيةquot; التي ميزت أغلب الترجمات السابقة لهذا العمل وأشهرها ترجمة يوهان هاينرش فوس (1751-1826) التي مازالت مهيمنة في سوق الكتب رغم صدور ترجمات لاحقة، بعضها ذات طابع حداثي خلال القرن الماضي مثل ترجمة عالم اللغات القديمة فولفغانغ شادَوالد ( 1900-1974)، وهي أول ترجمة تنتهك ما جرت عليه العادة في ترجمة هذه الملحمة عن طريق الإعتماد على الـ quot;Hexameterquot; الوزن التقليدي للملاحم اليونانية مبررا ذلك بالشكل التالي: quot;لغة الملاحم اليونانية تحتوي على كلمات طويلة تقابلها في اللغة اليونانية لاحقا وفي اللغة الألمانية كلمات أقصر بكثير من الأصل، لذا يجد المترجم الألماني، حين يترجم ما كتب على وزن الـ quot; Hexameterquot; نفسه مضطرا لتمديد وإطالة أبيات الشعر من خلال إضافة كلمات لا معنى لها ولم تكن موجودة في الأصل اليوناني فقط لغرض الحفاظ على الوزن..quot;ربما كانت هذه quot;الخطوة الثوريةquot; هي التي مهدت الطريق لاحقا لتوجه عدد كبير من المترجمين للتعامل من منطلقات جديدة مع النصوص القديمة، حيث أنها بينت أنه من الممكن تقديم الأدب الكلاسيكي في حلة جديدة دون المساس بجوهره،وإنما الكشف عن جوانب مهمة فيه غيبتها الترجمات التقليدية لهذه الأعمال. من هذا المنطلق فقد جاءت ترجمة شروت لـ quot;الياذةquot; هوميروس تتويجا لما سبقها من تجارب في هذا المجال، وذلك بما ينسجم مع أصول quot;الترجمة الخلاقةquot; التي بشر بها الأديب والمترجم الألماني المعروف هانس فولشليغر (1935-2007) ndash;ترجم أعمال جيمس جويس الى الألمانية- التي أرادها أن تكون عملية إعادة كتابة النص من منطلق إبداعي، تحافظ على طاقته التعبيرية آخذة بنظر الإعتبار خصوصيات اللغة المنقول إليها. وفي الوقت الذي أستمر شادوالد رغم ميله الحداثي أسيرا للنص الهوميري ولما تمليه عليه ضرورات البلاغة اليونانية مما دفعه للإبقاء على الطابع الشعري للملحمة من خلال إعتماده على quot;الشعر الحرquot; بديلا للـ quot; Hexameterquot;، نجد شروت يعتمد كليا على النثر في ترجمته، وقد يكون العامل الأساسي الذي دفعه لإختيار النثر هو تكليفه من خلال إذاعتي Hessen و Detschland Funk بوضع هذه الترجمة لتقديمها للجمهور في حلة إذاعية مناسبة على عدة حلقات، يتم نشرها كذلك في نفس الوقت على حلقات في مجلة quot;Akzente quot; الأدبية التي تصدرها دار نشر هانسر لتصدر لاحقا في كتاب صدر عن دار النشر ذاتها التي سبق وأن نشرت العديد من أعمال شروت النثرية والشعرية اضافة الى دراسته الموسعة حول هوميروس quot;وطن هوميروسquot;، حيث يروج لنظريته القائلة بأن هوميروس كان quot;كاتب يوناني يعمل مدونا في بلاط تابع للدولة الآشورية في منطقة قليقيا الواقعة قرب الحدود السورية..quot;، كما صدر له عن دار النشر ذاتها quot;ملحمة كلكامشquot;، وهو كتاب يحتوي على الترجمة المتوفرة لملحمة كلكامش وكذلك على النص الذيقام الكاتب بإعداده عن هذه الملحمة بطريقة تقترب من مزاج القاريء المعاصر وتحافظ في ذات الوقت على قوة النص القديم. وبفضل معرفة شروت باللغات القديمة وكذلك تخصصه بالأدب المقارن وجد عمله هذا صدى كبيرا في الأوساط الثقافية وبين الباحثين في اللغات القديمة الذين وجدوا فيه مادة غنية أحيت مجددا النقاش حول كيفية التعامل مع الأعمال الكلاسيكية التي لم تعد تجد لها رواجا بين القراء بسبب بنيتها اللغوية المعقدة. في هذا الإطار فقد تعرض عمل شروت لمواقف نقدية حادة بشكل خاص من قبل المختصين بالتاريخ القديم، وقوبل في الوقت نفسه بالترحيب من قبل المختصين بالأدب المقارن. ومن المؤكد أن هذا هو أحد الأسباب التي شجعته لاحقا في خوض غمار الملحمة اليونانية والبحث عن موقع طروادة الذي يتفق أغلب الباحثين بوجوده فوق quot;هضبة حصارلكquot; الواقعة في شمال غرب تركيا في محافظة شاناكاله، بينما يؤكد شروت بناء على زيارات قام بها الى هذه المواقع التاريخية أن هذا الأمر غير ممكن، حيث أن الميناء الذي يقع أمام هذه الهضبة quot;لا يمكن أن يتسع لآلاف السفن اليابانية التي تواجدت هناك وفقا لملحمة هومير أثناء حرب طروادة.quot; من هنا يستنتج شروت بأن هذه الحرب في حالة الإقرار بحصولها فعلا لا يمكن أن تكون أن حدثت في هذا الموقع، وللتأكيد على رأيه هذا يورد شروت العديد من الأحداث الواردة في الملحمة كاشفا أصولها التاريخية التي وردت في النصوص البابلية والآشورية القديمة. فبداية الملحمة تذكرنا كما يقول شروت بحصار quot;أورشليمquot; من قبل الملك الآشوري سنحاريب، ذلك الحصار الذي أنتهى كما يروي هيرودوت بـ quot;بلاء الجرذانquot;، بينما ورد في العهد القديم أنه أنتهى بكارثة أحلها ملاك مبعوثمن قبل الرب وسط جيش سنحاريب، أما هوميروس فانه يشير الى مجزرة يقوم بها الأله أبولون أبن زيوس، مستخدما عند حلول الليل سهامه القاتلة ضد الجيوش اليونانية تحت قيادة آغاممنون. ويشير الكاتب كذلك الى
العديد من الخطوط المشتركة بين ما ورد في quot;الإلياذةquot; وبين كثير من المخطوطات السومرية والبابلية والآشورية بما في ذلك أسماء عدد من الآلهة والأبطال، إضافة الى الأحداث التي يمتد بعدها التاريخي الى الحضارات الشرقية القديمة، مما يدل على إطلاع هوميروس على تراث تلك المنطقة أثناء كتابته للملحمة quot;مما يفند الرأي السائد بأن جذور الحضارتين الشرقية والغربية مختلفة تماما.quot; ويشير شروت للتدليل على مقولته هذه الى مقتل بيروكلوس quot;رفيق أخيلquot; الذي أندفع خلافا لنصيحة الأخير للهجوم على جيش طروادة ولقي حتفه على يد الأمير هكتور. فبعد هذه الحادثة يختلى أخيل في خيمته مع جثة رفيقه لفترة طويلة من الزمن ليشكو مصيره الى الآلهة، معبرا في الوقت نفسه عن حزنه وغضبه لما حل ببيروكلوس الشاب، مما يذكرنا بخلوة جلجامش مع جثمان صديقه أنكيدو، بعد موت الأخير نتيجة للجروح التي ألحقها به الثور السماوي وجزع كلكامش بسبب التعفن التدريجي الذي يلحق بجثة أنكيدو. أما بالنسبة لأخيل فأنه يحاول إبقاء جثمان بيروكلوس لأطول فترة ممكنة في رونقها، غير أن بيروكلوس يأتيه في الحلم ليطلب منه ترحيل جثمانه الى العالم الآخر quot;هاديسquot;، شارحا له المعاناة التي قد يتعرض لها في حال إغلاق باب العالم بوجهه مما سيؤدي الى تعرضه لعذابات لا نهاية لها، إذ يصبح روحا هائمة لا تجد مكانا تستقر فيه. يرى شروت في هذا تقاربا مع اللوحة الأخيرة من ملحمة كلكامش، وهي لوحة أضيفت اليها في وقت متأخر، تدور حول نزول كلكامش الى العالم الأسفل للقاء صديقه أنكيدو، حيثيروي له الأخير معاناته في العالم الأسفل. إلا أن كل هذه الإستطرادات الواردة في ما كتبه شروت نفسه عن عمله في هذا المجال لا يمكن إعتبارها وفق عدد كبير من علماء الآثار والمؤرخين سوى مساهمة quot;إستفزازيةquot; لإحياء النقاش من جديد حول الإرث اليوناني القديم وإمتداداته الشرقأوسطية والآسيوية (بلاد ما بين النهرين) مصدرها شخص غير مختص بالتاريخ القديم، غير أن هذه الحجة تفقد مدلولها لكون راؤول شروت لم يتخصص فقط في الأدب المقارن، وإنما كذلك في اللغات القديمة، بما فيها اللغة اليونانية. وهو يرى أن عمله في مجال الأدب المقارن يمنحه quot;مساحة أكبر من الحريةquot; في التعامل مع النصوص القديمة من خلال مقارنتها بنصوص أخرى تعود لمراحل تاريخية متقاربة، دون التقيد بحدود quot;التخصصquot; التي تحدد مجال رؤية اغلب quot;المؤرخين والمنقبين عن الآثارquot;.
بعد نشر ترجمته على شكل كتاب يحتوي على قرص مدمج برزت العديد من الآراء النقدية، بشكل خاص فيما يتعلق بنقله للنص اليوناني، حيث أعتبر البعض أنه قدم ترجمة quot;سوقية مبتذلةquot; لهذا النص وذلك إستنادا الى نصوص كهذه: quot;تضاجع باريس مع هيلين في سريره بقوة جعلت أطراف السرير تهتز.quot;، بينما ورد في الأصل: quot;نامت هيلين مع باريس في السرير.quot;
في مكان آخر يتحدث أخيل عن البطل الطروادي أينياس كما يلي: quot;انه مثل حمار تلقى العديد من الضربات.quot;
أو quot;ما تكاد أن تنطق باسم الحمار حتى يأتيك راكضا..quot;وحين يعبر كبير الآلهة زيوس عن قلقه على مصير إبنه ساربيدون فأنه يقول في ترجمة شروت: quot;لا يعجبني سلوكه هذا..quot;
ربما كان مصدر هذه الإنتقادات هو quot;قدسية النصquot;، وهو أمر يستند عليه ويتدثر بألحفته ممثلو المدرسة التقليدية في الترجمة الرافضين للحداثة، أما الطرف الذي رحب بعمل شروت فهو ذلك الطرف الذي يريد التحرر من قيود التقليد متلفعا بمعطف الحداثة الذي لا يخلو من الثقوب.
كل ما قيل عن هذا العمل المهم في معالجة النصوص القديمة، سواء كان سلبيا أو إيجابيا، لا يمكن أن يقلل من أهميته في إطار النقاش المستمر في الخطاب السائد حول الترجمة الأدبية من جهة كونها عملية إبداعية هدفها إيصال النص المترجم الى القاريء بلغة تختلف بنيتها عن البنية التي كتب فيها النص الأصلي.
من الجدير بالذكر أن راؤول شروت قضى طفولته في تونس، حيث كان والده يعمل في السفارة النمساوية ممثلا لوزارة التجارة الخارجية، حيث تعلم اللغة العربية، ثم درس الأدب واللسانيات في نوروج وباريس وبرلين وأنسبروك التي قدم فيها أطروحة حول الحركة الدادائية تحت عنوان: quot;دادا في تيرول 1921-1922quot;، ثم عمل سكرتيرا للأديب والفيلسوف الفرنسي فيليب سوبو(1897-1990)، قبل أن يدخل مجال الإبداع الأدبي عن طريق روايته الأولى quot;فينيس تيرايquot; -1995- وquot;خمسينquot; -2000-، كما صدرت له ثلاثة دواوين شعرية.
الشاعر النمساوي راؤول شروت يعيد الحياة لملحمة هوميروس
الإلياذة تدور أحداث الملحمة خلال خمسة عشر يوما من حصار طروادة الذي أستمر عشر سنوات كما يروي هوميروس. وتبدأ الملحمة بنوبة غضب تصيب البطل اليوناني أخيل، بسبب إستيلاء قائد الجيوش اليونانية اغاممنون على غنيمته الحسناء بريسيس، مما يدفع أخيل لأن ينسحب من مواقع القتال مع جيشه، مهددا بالإنسحاب نهائيا من الحرب التي نشبت نتيجة إختطاف هيلينا، زوجة أخ أغاممنون، ميليناوس من قبل باريس شقيق هكتور وذلك إستجابة لما وعدته به أفروديت في أن يحصل على أجمل أمرأة على وجه الأرض في حالة تفضيله لها على هيرا وأثينا. في هذه الأثناء، وحين يشرف أغاممنون على خسارة الحرب يجد نفسه مضطرا للتوسل الى أخيل مقدما له العديد من الهدايا إضافة الى العذراء بريسيس لكي يساعده في الهجوم على جيش طروادة القوي الذي يقوده هكتور مدعوما من قبل الأله أبولو. غير أن أخيل يبقى مصرا على موقفه رغم كل الإغراءات ورغم تدخل العديد من قادة الجيوش اليونانية لإثنائه عن رأيه. غير أن رفيقه بيروكلوس يندفع لخوض الحرب مرتديا درع أخيل، مما يجعله يسقط ضحية لهكتور. بعد أن يتلقى أخيل خبر موت بيروكلوس يستشيط غضبا ويقرر الإنتقام من هكتور متناسيا خلافاته مع آغاممنون. وتشرف الملحمة على نهايتها بعد قتل هكتور من قبل أخيل والتمثيل بجثته، ومن ثم أستراجعها من قبل أبيه ملك طروادة عن طريق تقديم فدية كبيرة لأخيل. ضمن هذا الإطار يستعيد هوميروس الأحداث التي سبقت حرب طروادة وما نتج عنها لاحقا، أي الإستيلاء على طروادة عن طريق quot;حصان طروادةquot; الذي خطط له أوديس، ملاحقا أفعال الآلهة والبشر خلال هذه الحرب. |
بعد نشر ترجمته على شكل كتاب يحتوي على قرص مدمج برزت العديد من الآراء النقدية، بشكل خاص فيما يتعلق بنقله للنص اليوناني، حيث أعتبر البعض أنه قدم ترجمة quot;سوقية مبتذلةquot; لهذا النص وذلك إستنادا الى نصوص كهذه: quot;تضاجع باريس مع هيلين في سريره بقوة جعلت أطراف السرير تهتز.quot;، بينما ورد في الأصل: quot;نامت هيلين مع باريس في السرير.quot;
في مكان آخر يتحدث أخيل عن البطل الطروادي أينياس كما يلي: quot;انه مثل حمار تلقى العديد من الضربات.quot;
أو quot;ما تكاد أن تنطق باسم الحمار حتى يأتيك راكضا..quot;وحين يعبر كبير الآلهة زيوس عن قلقه على مصير إبنه ساربيدون فأنه يقول في ترجمة شروت: quot;لا يعجبني سلوكه هذا..quot;
ربما كان مصدر هذه الإنتقادات هو quot;قدسية النصquot;، وهو أمر يستند عليه ويتدثر بألحفته ممثلو المدرسة التقليدية في الترجمة الرافضين للحداثة، أما الطرف الذي رحب بعمل شروت فهو ذلك الطرف الذي يريد التحرر من قيود التقليد متلفعا بمعطف الحداثة الذي لا يخلو من الثقوب.
كل ما قيل عن هذا العمل المهم في معالجة النصوص القديمة، سواء كان سلبيا أو إيجابيا، لا يمكن أن يقلل من أهميته في إطار النقاش المستمر في الخطاب السائد حول الترجمة الأدبية من جهة كونها عملية إبداعية هدفها إيصال النص المترجم الى القاريء بلغة تختلف بنيتها عن البنية التي كتب فيها النص الأصلي.
من الجدير بالذكر أن راؤول شروت قضى طفولته في تونس، حيث كان والده يعمل في السفارة النمساوية ممثلا لوزارة التجارة الخارجية، حيث تعلم اللغة العربية، ثم درس الأدب واللسانيات في نوروج وباريس وبرلين وأنسبروك التي قدم فيها أطروحة حول الحركة الدادائية تحت عنوان: quot;دادا في تيرول 1921-1922quot;، ثم عمل سكرتيرا للأديب والفيلسوف الفرنسي فيليب سوبو(1897-1990)، قبل أن يدخل مجال الإبداع الأدبي عن طريق روايته الأولى quot;فينيس تيرايquot; -1995- وquot;خمسينquot; -2000-، كما صدرت له ثلاثة دواوين شعرية.
التعليقات