فهد الشقيران من دبي: يتميز الإنسان عن بقية الكائنات بكون quot;الكائن الوحيد الذي يحوّل وجوده إلى ثقافةquot; هكذا يقول هيدغر، وهذه ميزة المشروع الثقافي الغربي منذ أصوله اليونانية، حيث ينشغل نحو إرساء حق الإنسان باعتباره الكائن الذي quot;يثاقف الوجودquot; بمعنى تحويل الظواهر إلى موضوعات قابلة للتشميل المفهومي، ذلك الجزء تحديداً هو الذي أكسب المشروع الثقافي الغربي كينونة جدلية، قادرة دائماً على إنقاذ فعل التثاقف الذي يكفل للإنسان حيوية التجاوز الدائم لمختلف أزمات المشكلات التي عرفها عبر تاريخه الذاتي-كما يعبّر مطاع صفدي-.
وإذا كنت تحدثت عن quot;ماهية التقنيةquot; لدى مارتن هيدغر، ومن بعده يورغن هابرماس، فإن للمشروع التقني تجلياته المنطبعة تأثيراً على الثقافة الغربية بكاملها، فلم تكن تلك المسألة quot;ثقاقيةquot; تجريدية، وإنما ساهمت quot;التقنيةquot; في رسم وطأة مشكلته مع التقنية. حيث انسحق تحت منظومة التقنية التي تؤلف أهم إنتاجاته، حيث نجده يحاول جهده من أجل استعادة سيطرته على التمييز الحاسم بين عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج، يتجلى هذا في تحول التقنية إلى quot;فخٍ لاقرار لهquot; يقع في جوفه دونما أمل في الخروج منه وهذا ماجعل بعض الفلاسفة المعاصرين ينظرون إلى التقنية وكأنها هي حقيقة المشروع الثقافي الغربي ومحركهُ منذ البدء وإن لم يكن على وعي بما سيجري له، وفي هذا يقول يورغن هابرماس: (إن من يتلقى ثقافة يصير في متناوله وسائل تخدمه في توجيه عمله، ويجب أن تكون هذه الثقافة شاملة بمعنى الشمولية الذي يضم أفق عالم قائم على تباين مجموعة أبعاد يمكن بحسبها تفسير النظريات العلمية وتحويلها إلى ممكنات عملية، أي إلى تفكير عن طريق الوعي بماهو ضروريمن وجهة عمليةإلا أن نموذج التجربة العلمية التي تأخذ بها اليوم المعايير المرتبطة بالنزعة الوضعية ليست قابلة لهذا التحويل العملي).
وحول نص هابرماس يتحدث مطاع صفدي: (إن قيام مفكر تاريخي بحجم هابرماس يكون كل همه تعديل استراتيجية الإنتاج التقني المعاصر يشكل أصح دليل على حيوية الغرب بالرغم من الصعوبات الهائلة التي تواجهه في مأزقه الأكبر مع التقنية هذا المأزق الذي يلزم الغرب العالم كله معه). وفي نظرة خاطفة نجد أن التكنولوجيا الغربية تساهم في اضمحلال الفرد وسحق حياته الشعورية واللاشعورية عبر كثافة السيطرة التقنية، فتحول الإنسان-بحسب هابرماس- إلى quot;أداةquot; ليكون في نهاية المطاف مجرد كائن quot;إجرائيquot; ndash;وفق تعبير صفدي- quot;مجرد كائن مرشح للإجراءاتquot; والخيار الوحيد المعروض أمامه أن يختار بين منظومات إجرائية معروضة يلعب بعضها بالنسبة للبعض الآخر أدوار البدايل المتناسخة عن ذاتها.
تطرح تلك الكثافة التقنية الإنسان quot;الإجرائيquot; بديلاً عن الإنسان quot;السلوكيquot; بهذه الصيغة يعبر صفدي/ ذلك أن الإجراء يعني تعاملاً مع الأدوات في حين أن السلوك يفترض تعاملاً مع الذات والآخر عبر الذات، أي مع الإنسان. كما أن الإجراء يقدم دلالة تحقيق فعل أو حركة في الواقع في حقل (الأشياء)! يبرهن على التحول صيرورة الإنسان من كائن يتعامل مع الذوات ويحقق سلوكيات. إلى كائن يتعامل مع دلالات تقتصر العلاقات إلى تعاملات إجرائية مع الأدوات فيتحول الإنسان إلى مجرد أداة لذلك. ومأزق هذا/وفق صفدي: quot;تراجع السلوكيات أمام الإجراءات لتتحول إلى علم أثريات للأخلاق في واقع ينقلب إلى معسكرات علوم تدريبية على تنفيذ ترميزات الإجراءات المطلوب إتقانها من مرشحي الإنتماء إلى تلك المعسكراتquot;.
لقد حاولت أعمال الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، أن توضح أثر التقنية في ضرب أواصر المشاركة، وعوامل التواصل الحر بين جماعاته ومجتمعاته، بقدر مانمت من وسائل الاتصال الآلية، لتباعد بين الإنسان وذاته وبين الجماعة والأخرى وتخضعهما معاً إلى نم نموذجي معمم يتشاكل ومنتجات العقلانية التقنوية.
وذلك النموذج تفرض التخثر الاجتماعي وتشل حركة quot;التواصلquot; البينية، وتخرج المجتمع عن إيقاع زمانه التاريخي وتلحقه بالزمن الفيزيائي الطبيعي لشدة مايقع من التباس كبير بين quot;المشاكلة/والمثاقفةquot;. لقد كانت التقنية بالنسبة لعصر التنوير الغربي كانت ذروة المثاقفة، لتنتهي في آخر المطاف إلة quot;تجسيد عبر مدنية الآلةquot; وسرعان ما اكتشف الفكر الغربي نفسه أنه في تحقيقه للمدنية افتقد الثقافة ndash;بحسب اشبنغلر- وذلك تجسيداً لتنبؤ نيتشه، ويكفي التقنية فصلاً وعزلاً أنها تمنع أية استعادة للمشروع الثقافي الغربي الأصلي. يحصر صفدي أيضاً المعاصرة بأنها (القدرة المتجددة على التمييز بين السلوك الذي يفرضه حس المثاقفة وبين الإجراء التي تشيعه آلية المشاكلة).
تتبدى مسألة التقنية فلسفياً عبر أبعاد كثيرة، وربما كان البعد الدلالي الاجتماعي الذي يثبط حس التواصل من أبرز ما أخذه هابرماس على التقنية، حيث تحول الإنسان إلى كائن أداتي، وهو نقد يأتي تتميماً لما بدأه أسلاف في مدرسة فرانكفورت خاصةً هربرت ماركيوز في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد) وهو الكتاب الذي سيصبح أحد المراجع الأساسية في تلمس جذور التسلط التي ترضّ المجتمع، ليصبح نقد quot;آثار التقنيةquot; جزء أساسيا لإتمام مشروح الحداثة، الذي يصر هابرماس-على عكس فلاسفة مابعد الحداثة- على أن quot;التنوير مشروع لم يكتمل بعدquot;.
[email protected]