الشرنقة
علي النجار: هل تتحرر الحشرة، أية حشرة كانت، من ارث حاضنتها الأهم (الشرنقة). وإذا تحررت ظاهريا وانطلقت في رحاب كونها. من يحزر بالضبط ما الذي خلفه زمنها الشرنقي في ذاكرتها أو حتى في مسارات تحليقها. وان حسبنا الأمر عبثا، فهل هو عبث بشكل مطلق أم هو قابل لإعادة النبش في اثر مخلفاته ليس كجينات متوارثة. بل بما يسمح بمسح الأثر كسلوك مرتد لفضاء انغلاقه في حيز لا يترك للجسد من مجال للحركة ولا للحواس من يقظة إلا بعد انقضاء فترة اغفائته التي هي جزء حيوي من أزمنة نضجه. هنا وبالنسبة لأعمال السوداني لايهمنا إلا استرجاع هذا الأثر الغافي أو المستتر خلف غفوته الجبرية كمدخل لإشكالية بنائية أجساده المتفككة والمعادة تفكيكا لا بناءا.
هل الشرنقة زمن عدم أم بناء لزمن جديد. أم هي الزمن العراقي في دورة استحالته المعاصرة التي لا يبدو في الأفق انه سوف يرف له جناح. لقد تفككت بنيته الذاتية والتحتية وتشضت في مساحة كان من المفروض فيها أن تكون مشاعة للجميع. وان كنا نضن بأننا تعدينا ادوار استحالاتنا منذ أزمنة بعيدة. فما ذلك إلا وهم لا زلنا نكابر من اجل اكتساب قناعاته ولو بحدودها الدنيا. فلا الذي تعدى الخمسين عمرا منا ولا الذي تعدى الستين ومعظمهم من مخلفات الحروب أو السبعين وهم من مخلفات تداعيات الحرب الدراماتيكية الأخيرة على ندرتهم، استطاعوا الانفكاك مما لحقهم من قشرة شرنقتهم التي لوثتها غبار ومخلفات هذه أو تلك الحروب. وان كان احدهم دون رسما كما دونه احمد السوداني، لما كان الأمر يحمل بعضا من غرابته. لكن أن يدونه من لامس بعضا من مخلفات الأثر لا كله وبهذه الروح الفجائعية. فذلك أمر يدعونا إلا نبذ أمر حدوث المعجزات بل الأفضل لنا أن نبحث عن مسبباتها.
زمن الشرنقة زمن سوي لحاضنها وزمن غير سوي لما عداه. وما دمنا كبشر خبرنا أزمنته عبر رحلة حياتنا العراقية وبدون معجزات أو حتى البحث عن مسبباتها، منذ منتصف النصف الثاني من القرن العشرين وما قبله أحيانا، ورضينا بها حصنا للذات المعرضة للانتهاك. ولكونها من أصعب الفترات التي يحجب فيها الجسد وتطرد الحركة. فإننا مع كل ذلك لا نعدم تسلل وعي آخر إلى ذواتنا المحتجزة وعي مسترجع من مسارات مخلفاته المدروسة، تسلل إلى ذهننا مزيحا بعض الشيء جدران شرنقتنا وواهبنا حياة كانت مؤجلة وسط ظلماتها. وان تحررنا من هذه الظلمات بفضل ما وهبنا من نور الحياة وضوء الشمس. إلا أن لعنة الغاز الحجز الأول لا تزال ملتصقة بقشرة أدمغتنا بل حتى في نخاع عظامنا.
في هذا الزمن المتشرنق حيث الانغلاق دفأ وأمانا، الزمن ـ اللازمن لا بد فيه من أن تتماسك جزيئات الذات وتنمو وسائلها الأكثر حيوية في البحث عن الانعتاق ومناورة مصائرها الفضائية. لكن الانغلاق وكعتمة مفزوعة بالضجيج الآتي من الخارج انتهاكا لحرمة وحدته ليس له سوى الهذيان ما يبقيه مستقرا لاستيقاظ الروح على وقع إيحاء ألغازها، الهذيان وحده ما سيقترحه السوداني، لكنه هذيان عضوي حيث أعضاء الجسد وأجزاء المكان هي التي تصرح بما خبئه انغلاق الروح في شرنقته الأولى. مع ذلك فان ما تتنبأ به تفاصيله يتعدى كل الأحلام أو الأوهام الفنتازية فصخب الخارج وضجيج المفخخات هي التي صنعت تفاصيله البارزة.
كل الشرانق آيلة للزوال، ليس عدما، بل تحررا للذات من محبسها الضروري والاضطراري. تتصدع الجدران وتتناثر شظايا. وتتصدع الجدران في رسومات السوداني، لكنها لا تتناثر هباء، بل من اجل أن تحجز أمكنتها احيازا لتشضي الأجساد على امتداد سطوحها، ولا فضاء خارجها. وتتصدع الأجساد أيضا بحثا عن بعض أعضائها التي أغفلتها فرشاة الرسم. فهل المصائر إغفالا كما تؤكدها الحوادث التي استقى منها الرسام تفاصيل وقائعه المتخيلة. وهل تظل هذه الحوادث كدرا يؤرقه مادامت لا تؤرق صانعي القرار صغارا وكبارا ومن مختلف الملل والنحل والمصالح داخلها وخارجها. وهل الفنان ضمير الأمة كما تعلمناه منذ الصغر. ربما فقه السوداني كل ذلك. وربما فقهته الصدمة. ومعظمنا مصدومين. واني أميل إلى ذلك فارث هذا الفنان الشاب منبعث من حوادث زمنه المعاصر لا من اطروحات ماضوية. وزمننا المعاصر تتحكم فيه صوره، والصدمة إن كانت ذاتية فغالبا ما تتحول إلى صور. وفنان مثل احمد السوداني تدرب على إتقان فنه الصوري لابد له من أن يدمج الصورة والصدمة الذاتية للصور العراقية المعاصرة. انه حقا فنان من هذا الزمان.
كمقاربات، تحال رسوم السوداني إلى كل من جيرنيكا بيكاسو وهلوسات غويا وشخوص بيكون (وكما ذهب أكثر من ناقد). ضمن هذه المجموعة المختارة من ارث الألم الإنساني المجسد، يتعذر علينا أن لا نقبل هذه الإحالة، وان نتقبلها في نفس الوقت. فمن حيث مغزى هيئاته العامة، هي تشير إلى ذلك. ومن ناحية أخرى هي لا تنتمي إليها كليا. بل تنتمي لعالم أكثر معاصرة، وبالضبط للوجه المرعب الخفي من هذا العالم وبتشخيصية ابعد من نمطية أعمال هؤلاء الرواد. فلا صرامة أشكال بيكاسو متوفرة في رسومه، ولا اهتزازات أجساد بيكون وشبحيتها، ولا لامعقولية كويا الفنتازية. أنها الحرب الكونية المعاصرة حيث يختفي مظهر السلاح تاركا الأجساد منصهرة أو مبعثرة. فعضو الجسد مبتور لا بسبب من هاجس التعبير، بل هو مبتور بالسلاح المعولم ومنتهك بخبرة مسارات مسابر أجهزته الدقيقة.
اشتهر كاظم حيدر بالاشتغال على مساحة اللوحة بما يوازي المشهد المسرحي، فالأشخاص المرسومة، رغم تسطيحها، تأخذ أمكنتها، سواء كانت مفردة أو مكتظة، بما يعادل وضوح تفاصيلها الخلفية والتي لا تتعدى وظيفتها كديكور مكمل لدراما المشهد. لكنه حين تصدى للتعبير عن الحرب (في زمن بداية الحرب العراقية الإيرانية)، فانه سمح لفعل التغير أن يجرد الأجساد ويراكمها على امتداد الحافة السفلى لسطح العمل. وليست هذه الأجساد إلا ما تبقى منها بعد السلخ. هذا الركام أعاد صياغته (احمد السوداني)من جديد بشكل صيغة فنية أخرى.
ليزا فتاح الترك هي الأخرى اشتغلت على انتهاكات الجسد. لكن بما يتوافق ومرجعيتها (التعبيرية الألمانية) التي تحافظ على صلادة الجسد وقسوة خطوط قسماته. وبالرغم من محاولاتها المستمرة لبعثرة الأجساد (الإنسانية والحيوانية) على مساحة أعمالها، إلا أنها بقيت محافظة على صلادة وتماسك أعضاء هذه الأجساد كوحدة نسيجية غير قابلة للتشضي حتى في محنتها التي قضت عليها (مرض السرطان). وان كانت تبعثر أشكال الأجساد قبل المرض، إلا أنها بعد المرض أسلمت جسدها لمرقده وسط مناضدها أو منصاتها الخشبية (المشرحة، آو سرير المرض) وبمشهديه مختلفة عما فعله السوداني، رغم تشابه بعض أدوات التنفيذ فيما بينهما. أنا اعتقد بان السوداني تلبسته حالة (كويا) في فترته السوداء حينما استفزته كل شرور المحيط وانتهاكات سلطة الدولة والكهنوت حد الهلوسة، وأنتج كلاهما رغم اختلاف الأزمنة وحوادثها، أعمالا كابوسيه بتفاصيل خارقة لكنها من صنع الحدث لا من خارجه. وان كان كويا تعدى زمنه برؤاه الكونية للشرور البشرية ومعادلها التعبيري الذي أورثه لفناني الزمن القادم. بينما علق الحدث بالسوداني من فضاء تراكمي لا يزال فاعلا على مساحة بلده الأصلي العراق. لذلك هو يتحرر بتقنياته من سلطة سطح الرسم ألعلاماتي إلا مفاعل معملي بوسائط مختلطة لإخراج مشهديته الدراماتيكية بتفاصيل أجساد هي بعض من نبض أرواح في النزع الأخير وهي مكومة أو مركونة في زوايا فضاءاتها المغلقة. فهل هو يتلصص على حوادثه أو فواجعه من ثقب الباب أم هو يلجأ الى تعليبها كبضاعة تشير لقساوة الشر البشري والقابلة للعرض بدون مقايضة.
لست ادري هل بإمكان احمد السوداني أن ينسى تاريخه الشخصي أو يزيحه جانبا، والذي هو تاريخ حوادث غير سوية من اجل أن يبقى محافظا على مساحة كافية لتأمل ما يصنع. أم أن الحدث سوف يحتويه لفترة زمنية أخرى. فالعمل الفني ومنه المعاصر غالبا ما يخضع للتأويل بمنطق عناصر صنعته لا من خارجها. وهو بهذا فن المادة (المتريال) في اغلبه. لكن مادة أعمال السوداني صورية تتعدى الحدس المادي ألأداتي وان كانت من صنع موادها. وهذا ما يسمح لنا بتناولها كقص يتعثر بجذر ميثولوجيا الخراب الإنساني الذي ضل طريقه وسط وسائط أو حوامل هي الأخرى اغترابية رغم معاصرتها أو معاصرتنا لها. فمن المعلوم أن الغالبية العظمى من ضحايا الحروب العراقية وتوابعها حدثت في فضاءات خارجية. بينما رسوم شخوص السوداني (الضحايا) صنعتها فضاءاتها الداخلية. أي بمعنى أنها لا تود أن تغادر صندوق دماغه بعد أن حرص على طراوة رؤاه الفاجعية عبر أزمنة الحروب العراقية المعاصرة التي شب على وقعها. وبهذا فانه يستدعي الحدث ويلجه تفكيكا بدل أن يقصد إليه ويثبت شهادته. ربما لكون الشهادات معظمها ملتبسة نواياه أو أهدافها في زمن الخداع ألمعلوماتي.
لا استطيع أن أطلق صفة العمل الملحمي على رسوم السوداني. فالعمل الملحمي يحمل الفعل ونقيضه. بينما هذه الرسوم نقائض فقط. فلا جسد مكتمل، وان كان مكتملا فهو معاق أو منصهر. ولا تفصيل ثابت، فالكل مهزوز أو مهزوم. لكن ما يضفي على الحدث (الواقعة) من طابع وثائقي هو منبت الحدث كمرجعية لصانعها. فالحدث إذا شخصي. لكنه يحمل الملامح الشخصية أو الذاتية الجمعية. فنحن وضمن فضاءات سطوح مساحاته وكعراقيين مشتبكين بالحدث نفسه. سواء كصناع أو ضحايا. لذلك فالسوداني يخترقنا في المناطق الأضعف من أجسادنا جروحا أو صلبانا ويدعنا متشبثين بها ولا من فسحة فضاء للمناورة. ولا بطل في هذه الواقعة فالغالبية أشلاء بعثرتها أقلامه وإصباغه. فالكمال حدث جمالي فريد. ولا من جمال لأجساد الضحايا. ما داموا خارج إطارهم الملحمي في زمن تعدى فيه الفعل البشري التصور الملحمي الفنتازي لتصور وقائع مخلفات الغاز او اليورانيوم وأشباهه المرقمة.
هل تمثل رسوم السوداني آلات حرب، أم حرب آلات، أم هي حطام كل ذلك. وان هي حطاما فهل هي قابلة للأنسنة بإحالة إلى شظاياها الإنسانية. أرى أن هذه الرسوم وحدت مابين الحطام معدنا قابلا للصدأ واللحم البشري الذي في طريقه للتعليب بما انه نثار غير قابل للاندثار بفعل رجة الفاجعة. وهو لا يني يوسع من مساحة مشهده الاستعراضي، بما أن الاكتضاض لعبته المفضلة في بعثرة أو لملمة فعل الصدمة
ومشاهد بهذا العنف بحاجة لأدوات تحرر التشخيص من مألوفيته كما فعلها خيرة الفنانين الحداثيين في قراءة تحليله لرسوم السوداني اقترح بعض نقاد الفن، إحالتها افتراضيا (وكما نوهت) إلى كل من (كويا و بيكون و بيكاسو و دي كوننك وآخرين ) لتحريرها حركة واحياز أعضاء الجسد وإطلاق فعل الانعتاق من إسار محدودية مجاله الحركي. لكن بالوقت الذي تحيلنا أعمال السوداني إلى العديد من هذه التجارب، فإنها أيضا تزوغ عنها لتخلق مسارها المتحرر هو الآخر. أما أمر هذا التأثر بهذا الفنان أو ذك، فلا أراه يؤثر على مستوى أداء تجربة الفنان المعاصر الذي اختلطت أدواته ومصادره ولتغني تجربته حد التحرر من كل تابو تأثري أو تأثيري قادر يوصله إلى مبتغاة كصنعة قابلة لمطاوعة أدواته المادية والذاتية. وهذا هو ما تعلمناه من تجربة هذا الفنان الشاب. وفن اليوم يصنعه الشباب كما هو الحال في السابق. وبعيدا عن (كويا) الذي صعقت روحه صدمة الحرب والكهنوت. فان (بيكون) ارشف للفعل الجسدي الجنسي الآخر في لحظة قهره. بينما بيكاسو مزق الجسد وأعاد بنائه وفق مزاجه الاقتحامي. بالوقت الذي تماهت أجساد (دي كونغ) برعشاتها الانفعالية المبهرجة.
أما السوداني فيبقى بعيدا عن كل ذلك بإرث جيل الحرب العراقي الجديد. والحرب خرافة تبتلع ما قبلها وتفكك ما بعدها. فهل عبث السوداني تفكيكا بأجساد هؤلاء ليصوغ جسد آخر.
تنبت أجساد السوداني على امتداد متاهاته المرسومة كالنباتات الطفيلية العشوائية. لقد فقدت بوصلة اتجاهاتها وضاعت وسط دهاليزها أو صحاريها. وان اكتظت في فضاءاتها المغلقة في أعماله الأولى. إلا أن ثمة عرضا أكثر انفتاحا على أكثر من فضاء حامل (الجدران والسقوف والأرضيات والصحارى) يتوزع بفطنة محسوبة أكثر من السابق رغم اختراقات هنا وهناك موصولة بالفعل التراجيدي.
لقد اشتغل السرياليون على تحرير الطاقة التصويرية من إسارها الفيزيقي بخليط من نسيج خليقي متعدد المصادر. ووظفوا الميتافيزيقيا لخدمة تصوراتهم وبما يغني مشهديتها الخيالية. السوداني هو الآخر وظف هذا الفعل الخليقي التجميعي ومزجه بشظايا الذات ونثار من أدوات الحرب. لكنه لم يوظف هذا الخيال عبثا للتصريف الميتافيزيقي فقط بل بما يخدم إحالته المباشرة إلى الواقع ألكابوسي الذي أنتجته أفعال الحروب العبثية. فالعبث ألعدمي مرصود في رسومه التي سدت منافذ السلامة بوجه قاطنيها وبات صراعهم من اجل البقاء مستحيلا بفعل آلية الفعل ألتدميري الذي يحوطهم. لقد تشرنقوا وسط فضاءاتهم الملغومة وبات الفكاك من آسرها سرا من أسرار الحروب الرقمية العاصفة التي رقمنت البشر أهدافا مشروعة لشراسة ألتها الصماء، مصيدة من حديد ونار.
مالمو
التعليقات