جديس الحسن من تونس: تشتغل الباحثة التونسية الدكتورة ألفة يوسف على التراث الإسلامي نقدا وتفكيكا باستخدام أدوات عدة أهمها اللغة، وقد أنتج اشتغالها كتب عدة منها أطروحة الدكتوراه في تعدد المعنى للقرآن والذي ينشد تقديم جميع ضروب المعنى في القرآن من خلال المفسرين. يوسف التي تدعو إلى اعمال العقل ومراعاة الواقع في قراءة النصوص الأولية تعكس جهدا من جهود الأكاديميات التونسيات في دراسات التاريخ والحضارة واللغة العربية خصوصا في جامعتي سوسة ومنوبة بتونس، وهو جهد يضيق عليه النظام السياسي التونسي عندما يتجه لارضاء جميع الاتجاهات على حساب التفكير الحر الذي لايملك فيه المفكر حسابات السياسي حسب تعبيرها. quot;ايلافquot; التقت الباحثة ألفة يوسف وكان الحوار التالي:

-يلاحظ في تونس اشتغال الأكاديميات التونسيات على نقد وتفكيك التراث الإسلامي،فما هي بدايات هذا الاتجاه وهل تقوم الجامعات بتوجيهه وما هي أهم نتائجه على النظام السياسي والمؤسسات الدينية في تونس؟
- الجامعة التونسية هي المؤسسة التي منها تخرّج عديد الباحثات اللواتي يشتغلن في مجال تفكيك التراث الإسلاميّ. وكلّنا يعتزّ بالانتماء إلى فضاء الجامعة الذي يكفل قدرا أدنى من الأدوات المعرفية الأكاديمية ومن المناهج الرصينة في البحث لا سيّما أن المجال المشتغل عليه له مداخل متعدّدة أقلّها شيوعا المدخل الأكاديمي ربّما لاستعصائه على الجمهور. ولهذا الاتّجاه روّاد أبرزهما الأستاذان الدّكتوران هشام جعيط وعبد المجيد الشرفي اللذان فتحا آفاق طلبتهما على الأدوات المعرفية المختلفة لتناول مسائل التاريخ والحضارة. وترسّخ هذا الاتّجاه بوجود عدد كبير من الطلبة أنجزوا وينجزون أطروحات تحت إشراف الأساتذة المذكورين بما أصبح يسمح بالحديث عن مدرسة تونسية لقراءة التراث الديني. وهي مدرسة تحظى بالمواكبة وبالاحترام في كثير من الجامعات والمراكز الثقافية العربية والغربية. ولكنّها في الآن نفسه تجد احترازا كبيرا من المؤسّسات الدّينيّة في تونس باعتبارها مؤسسات تريد أن تحتكر الخطاب حول مسائل الدين تراثا وحضارة وطقوسا. والنظام السياسي شأن جل الأنظمة السياسية في البلدان النامية يحاول أن يتوقع بما يتصوّر أنّه يرضي الأعمّ الأغلب في نوع من الحسّ المشترك يسمّيه بالإسلام المعتدل يرفض التّكفير لا شكّ ولكنّه لا يجعل للتفكير الحرّ مجالا خصبا. فمن ذلك أنّ الدولة لم تعط تأشيرة لجمعية تهدف إلى نشر الفكر الحداثي ومن ذلك أنّ وسائل الإعلام قد تُفتح ولكنّها لا تُفتح إلا بمقدار ضئيل مدروس للأكاديميات التونسيات إذا رغبن في الحديث في هذه المسائل. والحق أن للسياسي منظورا وشواغل وتصوّرا مختلفة عن تصوّر الباحث والمفكّر الّذي حسابات سياسية ضيقة له.وعلى العموم يمكن أن أقول إنّه لا وجود لتضييق على الكتب المنشورة في تونس لا سيما بعد القرار الرئاسي سنة2007 بإلغاء الرقابة الإدارية على الكتاب، ولكن يبقى الكتاب متوجّها إلى فئة معيّنة ما فتئت تنقص في ظلّ الإعراض عن القراءة وانخفاض مستوى التعليم والمدّ الوهّابي عبر الفضائيات الدّينيّة. والأهمّ في رأيي أنّ العمل الأكاديمي لا ينشد بالضّرورة استجابة quot;جماهيريةquot; ولا سياسية وإنّما هو بحث دؤوب من أجل تفكيك التراث الإسلاميّ بما يترك للأجيال القادمة أثرا على قوم حاولوا أن يفكّروا.

-مارأيك في مشاريع نقد التراث الإسلامي التي تنطلق من الغرب؟وكيف يؤثر انطلاقها من ثقافة غربية إسلامية على نتائجها؟
التقيت في كثير من الندوات بمن يشتغلون على الإسلام في الغرب من خلال رؤية تفكك النصوص وتحاول قراءة التراث الإسلامي وفق مناهج مختلفة. وأعتقد أن لمكان الإقامة دورا وإن يكن نسبيا في توجيه الأبحاث والدراسات من ناحية الباحث ومن ناحية المتقبل. فأما من ناحية الباحث فإن المقيم في الغرب لا يمكن أن ينفذ إلى واقع المجتمعات المسلمة إلا من خلال المجموعات المسلمة الموجودة في الغرب أساسا وهي مجموعات لها خصوصياتها وليس أدناها أن هذه المجموعات المسلمة تمثّل أقلّيات أغلبها يعاني وضعيات اجتماعية تحت المتوسّط. وعند كثير من هؤلاء المسلمين بالغرب يصبح الإسلام ملجأ للهوية والانتماء إزاء تغريب الآخر وإقصائه. لكن من اللطيف أن نلاحظ أنه منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر انتشر هذا التصور للإسلام -باعتباره ملاذا في مجال الهوية وسمات شكلية طقسية أساسا- خارج الغرب أيضا، وتجسّم لدى كثير من المسلمين في البلاد الإسلامية. أما من ناحية المتقبّل فدارسو التراث الإسلامي بالمراكز الغربية معرّضون أكثر من غيرهم لاتهامات بأنهم يخدمون quot;أجنداتquot; سياسية غربية وبأنهم يريدون بتفكيك النصوص وبالدعوة إلى إعمال العقل خلخلة الإسلام من داخله. وينسى هؤلاء المتهمون طبعا (ولعلهم لا يعلمون) أن قراءة النصوص وإعمال النظر فيها من صلب التراث الإسلامي نفسه (المعتزلة-الرازي- ابن رشد إلخ). ولعل ما يساعدهم على هذا التجاهل أو النسيان ما تبثّه بعض وسائل الإعلام من نظريات مؤامرة وهمية في جلها ضد الإسلام والمسلمين، في حين أن المؤامرة الكبيرة ضد الإسلام هي تلك التي يشارك فيها المسلمون أنفسهم بجهلهم وتخلّفهم الفكري والاقتصادي والعلمي.
وفي كل الأحوال فأنا اعتقد أن ما يقوم به هؤلاء الدارسون بالغرب هام جدا من المنظور الفكري والعلمي، ففي نهاية الأمر علينا أن نتذكّر دوما أن الاعتبارات السياسية آنية ومتحوّلة أما البحث الأكاديمي العلمي فيبقى أثرا للأجيال القادمة تتناوله بالنقد والنظر والتفكيك.

-هل تتم دعوتك للمشاركة في ندوات وإلقاء محاضرات حول بحوثك وكتبك من قبل مراكز (حكومية أو خاصة) و مؤسسات جامعية عربية وخليجية؟
دُعيت مرّات عديدة من قبل مؤسسات جامعية عربية ومنها الخليجية مثل مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الاسلامية في الدار البيضاء و مؤتمر المرأة العربية والمستقبل بدبي.ما بقي في ذهني من هذه اللقاءات وجود تواصل عربيّ في مجال الفكر والبحث العلميّ والقضايا الثقافية المشتركة. والأهمّ أنّه رغم حضور عدد من الحضور يحملون آراء مخالفة بل مناقضة أحيانا فإن الحوار كان دوما يدور في ظلّ الاحترام المتبادل والتسامح الفكري والوعي بأن الاختلاف قدر الإنسان. وقد كانت هذه اللقاءات مناسبة طيبة تبيّنت فيها أن الهموم واحدة رغم بعض التلوينات الجزئية. ويظل المشكل في كل البلاد العربية حسب رأيي في الهوة الكبيرة بين الخطاب الفكري وجمهور المتقبلين. أقول هذا وأنا على وعي عميق بأن قدر الفكر العميق أن يظل نخبويا ولكن فرق بين النخبوية والانفصال المطلق عن الواقع. لا يهمني أن يكون جمهور المتقبلين العرب قادرا على أن ينفذ إلى أعماق النظريات والمناهج الفلسفية والنفسية والاجتماعية مثلا ولكن يهمني أن يجدوا صدى للرؤى الفكرية في تبسيط دونما إخلال.

-ضمن منظومة المفاهيم المتعلقة بحقوق المرأة كالعدل والمساواة، ما هي المفاهيم التي تنطلق منها د.ألفة يوسف في أبحاثها وما هي المفاهيم التي يصعب التوفيق بينها وبين المصادر الأولية الإسلامية ( القرآن والسنة)؟
الحق أني لا أستطيع أن أميز بين المصادر الإسلامية الأولية في تأويلها الشائع الذي انفتح عليه لاوعينا منذ الطفولة من جهة والمفاهيم المتعلقة بالحقوق والمساواة التي شكّلت جوهر ثقافتنا وتعليمنا. اجتمع كلا الأمرين في نفسي وأذكر أني في فترة المراهقة كنت أتساءل عمّا كان يبدو لي حيفا و تمييزا للذكور على الإناث في المصادر الإسلامية وأذكر أن الفكرة الأساسية التي كانت تتكرر في ذهني في تلك السن هي فكرة أن الإله لا يمكن أن يكون غير عادل ولا يمكن أن يحاسبك استنادا إلى انتماء جندري لم تختره.
وعندما تعمّقت في قراءة النصوص تبيّنتُ أنّ ما كان يبدو لي يبدو حيفا وظلما إنما مردّه القراءات الذكورية للنصوص عبر التاريخ. فالقرآن يتميّز بانفتاحه التأويلي وبتعدد مستوى قراءته ممّا وضّحه أحسن توضيح محمود طه عندما قدّم قراءة ثوريّة لمفهوم النسخ تعتبر آيات الفترة المكية الداعية إلى التسامح والودّ قابلة لأن تكون ناسخة لبعض الآيات المدنيّة وفق الأطر التاريخية التي تسمح بذلك. ومن وجوه الانفتاح التأويلي للقرآن تعدد معانيه الحاصل بالقوة وبالفعل. وقد حاولت توضيح أسس هذا التعدد لسانيا في كتاب quot;تعدّد المعنى في القرآنquot; (وهو أطروحة دكتورا الدولة) وحاولت توضيح بعض إمكاناته إجرائيّا في كتاب: quot;حيرة مسلمةquot;. إنّ العدالة والمساواة جوهر القرآن وجوهر سلوك الرسول صلى الله عليه وسلّم، وهذه القيم مفارقة إنسانية يمكن أن يختلف تجسيمها باختلاف المجتمعات وباختلاف السياقات التاريخية ولكنّها تمثّل الأفق الأخلاقي الذي يجمع الناس جميعها. إنّ مشكلنا اليوم هو أن لنا مسلمين بلا إسلام، لنا مسلمين لا يهتمون إلا بالطقوس على قيمتها ولا يقفون إلا عند دقائق الشكليات ويكادون يطلبون من الشيوخ صكوك غفران ويحتاجون إلى وسيط بينهم وبين الله في دين أساسه وثورته الكبرى أن المسلم لا يحتاج إلى وسيط في علاقته مع الله تعالى، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ليس إلا بشرا يوحى إليه. ومع هذا كلّه تجد جلّ المسلمين يهملون البعد الروحاني للإسلام فأين الأخلاق؟ أين الاحترام؟ أين العلم؟ أين التمدّن؟ لقد قمت بفريضة الحج وفاجأني ما رأيته من أوجه سلوك غريبة في مكان من المفروض أن تحلّ فيه الرّحمة والسّكينة. إن لساني يكرّر مع الإمام محمد عبده: أخلاقهم ديننا. وقلبي يدعو لنفسي ولكل المسلمين أن تعود لنا قيمة قرآنية أساسية وهي قيمة السكينة. فلا يمكن للمؤمن المطمئنّ إلا أن يؤمن بقيم العدالة والمحبّة والمساواة.

-صنفت نفسك في إحدى المقابلات التلفزيونية كعلمانية دينية، لماذا هذا الاتجاه؟ وهل يصح القول بأن مجلة الأحوال الشخصية التونسية التي منحت المرأة التونسية حقوقا وحريات لا تحظى بها بقية النساء في العالم العربي مثل: مشاركة الأملاك ومنع تعدد الزوجات هي من نتائج هذا الاتجاه؟
كثيرون لم يفهموا ما المقصود بكلمة: علمانية دينية. ولذلك سببان: السبب الأول أن سوء طرح مفهوم العلمانية لا سيما في بعض وسائل الإعلام المروّجة للوهابية (صراحة أو ضمنيا) جعلت العلمانية مقابلة للتديّن في حين أنّ العلمانية ليست عكس التديّن، إنها لا تهتم بدين الأفراد وإنما تقوم سياسيا على فصل الدين عن الدولة. أما السبب الثاني لسوء الفهم فهو أن كثيرا من العلمانيين المتطرفين يسخرون من المتديّنين ومن طقوسهم. ولذلك شاع الفصل بين المفهومين.
آتي الآن إلى التوضيح، أنا أعتقد أن القرآن كتاب الله تعالى وهذا إيمان فرديّ لا ألزم به أحدا. ويمكن أن أتصوّر جدلا مع من يؤمن بذلك أن القرآن ليس فحسب كتاب أخلاق ومعاملات اجتماعية وإنما هو كتاب سياسي وأن الإسلام شريعة يجب أن تطبّق. نفترض هذا جدلا ونتساءل: أي قراءة من قراءات الإسلام نطبّق؟ يكفي أن ينظر المرء في التاريخ الإسلامي ليتبيّن الصّراعات السياسية الكبرى والفتن المختلفة التي مرّ بها الإسلام السياسي، وما زلنا نعاني آثار هذه الفتن إلى الآن. لقد قلت مرّة في إحدى الندوات بتونس: إنه لا يوجد تشريع إلهي. وشبعت تهجّما وتكفيرا لأن الجماعة لم يكملوا باقي الجملة: إنه لا يوجد تشريع إلهي ولكن توجد تطبيقات بشرية للتشريع الإلهي. إني في هذا المقام أستحضر دوما قول الرازي: كل الفرق تسمي الآيات الموافقة لمذهبها محكمة والآيات المخالفة له متشابهة. وهذا دأب أهل الإسلام السياسي اليوم يعدون من وافقهم مسلما يريد خير الأمّة ويعدّون من خالفهم كافرا وصنيعة الغرب الصهيوني.
إن هذه الفكرة أساسية فإذا ما غدا تطبيق الشريعة متصلا بالبشر في اختلاف رؤاهم وتعددها من جهة وفي اختلاف ظروفهم التاريخية وسياقاتهم الزمكانية من جهة أخرى فها نحن إذن إزاء قوانين مختلفة متعدّدة لا يتجسّم الدّين فيها إلا في المعيش الفرديّ. أما اعتمادي لكلمة دينية في عبارة quot;علمانية دينيةquot; فتذكير بوعي أساسي وهو أن المخيال الاجتماعي في البلدان الإسلامية مسكون بالدين وإن اختلفت نظرتنا له. وحتى اللادينيون لا يمكن أن يتعاملوا مع الإسلام تعاملا حياديا لأنهم نشأوا في بيئة للأديان فيها حضور كبير من حيث التمثّل. فالقصد من عبارة quot;علمانية دينيةquot; أن علينا أن نعي بأن العلمانية الغربية في بيئة قطعت مع الكنيسة قطعا شبه تام (ولا أقول تام) لها خصائص مختلفة عن العلمانية التي نتصوّرها في بيئة ما تزال محكومة بالمخيال الديني.
وقد كانت لتونس فرصة كبيرة في تجسيم هذا المفهوم انطلاقا من صدور مجلة الأحوال الشخصية، وهذه المجلّة ليست قطعا مع الإسلام وإنما تقوم على اجتهاد في فهم أحكامه وقراءة نصوصه. ومن أبرز الاجتهادات ما خصّ تعدد الزوجات الذي مُنع على أساس أن شرط العدل مستحيل تحقّقه بشهادة قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُم، وعلى أساس أن تأويل المفسرين للعدل المستحيل باعتباره العدل في المشاعر ليس له مستند نصّي وليس إلا قراءة ممكنة للقرآن. كما نظمت مجلة الأحوال الشخصية الطلاق بقصره على القضاء وعدم تركه بيد الرجل وحده أما مسألة الاشتراك في الأملاك فتظل منظومة اختيارية يمكن للزوجين الانتماء إليها ويمكنهما رفض ذلك. ولكن الأهم من هذه التفاصيل جميعها أن مجلة الأحوال الشخصية وإن كانت مكسبا هاما بل أكثر من هام للمجتمع التونسي ولا للمرأة فحسب، فإنّها لم تغيّر المخيال والواقع الاجتماعيّين اللذين ما زالا قائمين على نظرة دونية للمرأة. وقد زاد هذا التصور الدوني مع انتشار الفضائيات السلفية التي تنظّر لضرب المرأة وطرقه والتي لا ترى المرأة إلا جسدا يجب شطبه وإلغاؤه. إن الهوّة الكبيرة بين القوانين والواقع ليست مدعاة إلى مراجعة القوانين بل إلى مراجعة آليات تطبيقها ذلك أن القانون ليس معلّقا في الهواء ويطبّقه بشر. وأضرب على ذلك مثالا فإذا ما اشتكت المرأة في تونس من العنف إلى الشرطة ورغم كل القوانين الموجودة فإنها قد تجد نفسها إزاء شرطي لا يشجعها على التقاضي أو يمارس ضدها العنف النفسيّ ولا سيما إذا كانت من بيئة فقيرة مفتقرة إلى أي ضرب من ضروب السلطة. إن افتخار الدولة التونسية بالقوانين المتقدّمة أمر منطقيّ ولكن هذا الافتخار قد يسكرها فينسيها أحيانا ضرورة العمل على أرض الواقع وعبر وسائل الإعلام لترسيخ صورة المرأة شريكا للرجل في التصوّرات والممارسة لا في الخطاب الرسمي فحسب.

-د. ألفة يوسف تدعو للعودة لمقاصد الشريعة التي حددها العلامة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه quot;مقاصد الشريعة الإسلاميةquot;، كيف سيشكّل علم المقاصد فارقا ملموسا في وضع المرأة المسلمة؟ و برأيك لماذا لم ينتج فقه جديد عن المقاصد مقابل الفقه القديم الذي لازالت تعمل به المؤسسات الدينية الإسلامية رغم قدم علم المقاصد وكونه مستنبط من النص القرآني في أغلبه؟
- اهتمّ بالمقاصد كثيرون أذكر منهم الشاطبي قديما وابن عاشور حديثا...وهي مدخل إلى الإسلام يخشاه اليوم كثيرون. ذلك أن مراعاة المصالح والكليات بما يضمن انسجام أحكام الشريعة مع بعضها البعض لا يهتمّ بالتفسير الحرفي وإنما يتخذ روح الشريعة منطلقا وأفقا. ولو اعتمد المفسرون اليوم على نفي الضرر ورفعهِ وقطعهِ. ولو فهموا أن جوهر الإسلام هي الكليات الشرعية الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، لما سمعنا فتاوى يعتبرها الجمهور مضحكة مثل فتوى إرضاع الكبير. وما يجهله كثير من الناس أو لعلهم يتجاهلونه أن هذه الفتوى لم يأت بها الشيخ من فراغ بل هي تستند إلى قراءة حرفية لنصوص تقدم على أنها نصوص صحيحة. ويمكن أن تؤدي بنا القراءة الحرفية للنصوص إلى ما هو أخطر من إرضاع الكبير، يمكن أن تؤدي بنا إلى عودة الرق باعتبار أن لا وجود لنص يحرّمه. فإذا كان للإنسان أن يمنع ما أباحه الله لأنه لا يتلاءم مع روح الشرع كما هو الشأن بالنسبة إلى الرق، فلماذا لا يمنع تعدد الزوجات استنادا إلى روح الشرع القائم على حفظ الألفة والمودة بين الزوجين مثلا.
إن بعض المؤسسات الدينية لا تستند إلى المقاصد لأن الاستناد إليها يفقدها سلطتها بل مشروعيتها. فالمقاصد تلتقي مع القيم الأخلاقية الكبرى التي يجمع عليها الناس، ووفق مقاصد الشريعة تكون المرأة شريكا للرجل ويكون التعليم والتفكير والحكمة بالمعنى الرشدي للكلمة من جوهر الشريعة. فإذا اعتمدوا المقاصد فمن سيضطلع عبر الفضائيات والمؤسسات الرسمية بدور الوسيط بين المسلم وخالقه ومن سيوزع صكوك الغفران ومن سيربح ملايين الدولارات بفضل سيطرته على عقول البسطاء؟.

-في كتابك quot;الإخبار عن المرأة في القرآن والسنة quot; تدعين إلى إعادة النظر في ما ذكر عن المرأة في المصدرين الأوليين وعدم التوقف عند ظاهر الخبر، لماذا برزت الحاجة مؤخرا لقراءة تتجاوز الظاهر؟ وما هي الآليات التي ترينها مناسبة لفهم أساس وخلفية هذه الأخبار؟
اعتمدت في ذلك الكتاب القراءة التاريخية المقامية للأخبار عن المرأة. فقد جمعت كلّ ما قيل في المرأة في القرآن والسّنّة. وقارنته بما كان موجودا في الجاهلية زمن نزول القرآن. وميّزت بين ما تشابه وما اختلف محاولة البحث في أسباب التشابه والاختلاف انطلاقا من غرس النص في بيئته التاريخية. وبيّنت فيما بيّنت أن القرآن والسنة شكّلا في بعض المواضع ثورة كبيرة فيما يخصّ حقوق المرأة. فمن ذلك أن المرأة لم تكن في الجاهلية ترث شيئا بل كانت هي نفسها متاعا يورث والقرآن منحها نصف الميراث يعدّ ثورة كبرى رفضها صحابة الرسول بل وصل بهم الأمر إلى أن يقولوا: quot;اسكتوا عن هذا الحديث لعلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينساه أو نقول له فيغيّرهquot;. وقد لاحظت في هذا الكتاب أن النصوص المؤسسة قد جارت في حالات أخرى ما كان شائعا في البيئة التاريخية الجاهليّة بهدف استمالة الناس للدين الجديد. والمهم من الأمثلة التي حاول الكتاب أن يجمعها استقصائيا أنّه لا يمكن قراءة القرآن والسنة دون وضعهما في بيئتهما التاريخية، وهذا ما قام به بشكل من الأشكال القدامى عندما اهتموا بأسباب النزول، أما المحدثون فكثير منهم يرفضون أن يميّز المفارق في القرآن من التاريخي فيه. وينسون أن تاريخية القرآن لا تمسّ بأي شكل من الأشكال قداسته لأن رفض اتصال النص بواقعه تنفيه أي قراءة بسيطة له باعتباره يعج بالأخبار والأحداث التاريخية المخصوصة. وإذا كان النص غير تاريخي في بعض أوجهه، فكيف نفسّر إلغاء الرقّ الذي لم يلغه القرآن وظل العمل به في البلدان الإسلامية إلى حدود القرن التاسع عشر؟

-أهديت كتابك quot;ناقصات عقل ودينquot; إلى كل من احتار بين الرضا بالغيب والشوق إلى التجلي... ما الذي يحتمله هذا الإهداء وما الذي لا يحتمله في تصدره لكتاب يتناول حديثا صحيحا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تمتعضه بعض النساء على حد تعبيرك؟
لو كان لي أن أختار أقرب كتبي إلى نفسي لكان هذا الكتاب. فquot;ناقصات عقل ودينquot; كتاب اعتمد التحليل النفسي منهجا في قراءة بعض المفاهيم كالفقر (بمعناه النفسي) والشرك والقانون. وحاول الكتاب أن يقدّم قراءة مختلفة لهذا الحديث الشّائع انطلاقا من تحليل مفهومي الذكوري والأنثوي ودلالاتهما الرمزية في علاقة بالآخر المطلق. وهذه القراءة التحليلية النفسية لا تتموضع البتة في مجال تقييمي أو تفضيلي لنوع اجتماعي على آخر وإنما تحاول النفاذ إلى أعماق الإنسان الروحانية. والكتاب يطرح مسألة حضور الله في غيابه ويحلل دلالة الغياب الأصلي لدى المرء مؤكّدا أن جوهر حياتنا هي الشوق إلى ذلك الغائب الذي لا يمكن تمثّله مطلقا. إن حركة الشوق هذه تجسّم في الآن نفسه الرضا بهذه المنزلة البشرية القائمة على قبول الإنسان افتقاره الجوهري وقبول أنه ليس إلا ثانيا في الكون مسبوقا بآخر. وإننا نعتقد أن التخلي عن وهم المعرفة المطلقة ووهم السيطرة على العالم ووهم الجمع إنما هو جوهر مفهوم الإسلام أو الاستسلام للآخر المطلق.