حسين السكّاف: quot;أرى في مشغلي حيث أعمالي، أن هناك ما يشبه حديقة خضار بيتية. أدوات الرسم والحفر وغيرها مثل نباتات تلك الحديقة، حيث يمكن للخضار أن ينمو، فكل شيء هنا ينبض بالحياة، وأنا، وسط كل هذا، أعمل كبستانيquot;. مقولة للإسباني خوان ميرو (1893-1983). استخلص منها النقاد عنوان المعرض، quot;ميرو... بستاني الفنquot; عنوان يتناسب تمامًا مع مسيرة هذا الفنان وروحهالملتصقة على الدوام بالطبيعة. الفنان الذي كان على صلة وثيقة ودائمة بالوسائل والطرق الطبيعية والبدائية الموغلة في القدم لاستكشاف الحقيقة...
أكثر من 114 عملاً فنيًا تتوزع بين أعمال تركيبية وتماثيل ولوحات مسندية، ومنسوجات فنية بالإضافة إلى أعمال سيراميكية وبوسترات، استطاع متحف quot; Arkenquot; في كوبنهاغن أن يستضيفها لتكون أمام أنظار المشاهد وهو يحتفل بالذكرى 117 لميلاد ميرو في العشرين من نيسان/أبريل الماضي. أعمال تحكي قصة فنان يبقى مثاراً للحيرة والجدل كشخصية فنية فريدة طرحت كمًّا هائلاً من الأفكار والخيارات والرؤى غالبًا ما يتعذر تفسيرها بشكل مقنع إن وضعت تحت أي تصنيف فني من التصنيفات المعروفة... هكذا يرى النقاد في نتاج هذا الفنان الذي طالما وقف بحزم ضد أي تصنيف يضعه في حيز محدود. وعلى الرغم من أنأغلبية أعماله تنتمي إلى السريالية في تكوينها ودلالاتها، وهذا ما يتناسب مع سطح اللوحة البصري، إلا أنها في الحقيقة محاكاة شعرية لفلسفة الطبيعة وتأثيراتها على الروح البشرية، لذا فإن أعماله وبرأي الكثير من النقاد تعد الأكثر مرونة عند التأويل، فلا غرابة أن نقرأ أو نسمع أكثر من تحليل لعمل واحد... هل نأخذ لوحة quot;الأرض المزروعةquot; مثالاً لذلك؟
خُصص المعرض لتسليط الضوء على العشرين سنة الأخيرة من حياة خوان ميرو، أي منذ العام 1963 تحديدًا حتى وفاته العام 1983، وهي في الحقيقة فترة مهمة في تاريخ هذا الفنان، حيث شهدت انطلاقة في نشاط نحتي كثيف أراد من خلاله التمرد على حدود اللوحة المسندية تحقيقًا لرغبة عارمة في الذهاب أبعد مما يتيحه عالم الرسم لأفكار الفنان. وهذه النزعة لم تكن غريبة على ميرو، الذي ومنذ عشرينات القرن المنصرم كان قد أطلق فكرة quot;موت فن الرسمquot;، وهنا نتذكر معرضه quot;القصر الكبيرquot; الذي أقامه في باريس العام 1974 حيث عرض فيه لوحات محترقة، كان قد أضرم بها النار قبل عرضها.
إن ما أنتجه خوان ميرو خلال الفترة التي اختارها المتحف، يعتبر خلاصة مهمة لمسيرته الفنية، خصوصًا اشتغاله على فكرة اتحاد الشعر والرسم. فللشعر في حياة هذا الفنان تأثيره العظيم على أفكاره ورؤاه، منذ أن تأثر بقصائد الشاعر quot;لويس أراغونquot; ليتبنى فيما بعد الأفكار السريالية في الفن نتيجة لذلك التأثر، ويوقّع على بيانها الأول العام 1925. من هنا نجد أن إيمان ميرو بالشعر وتأثيره، دفعه خلال العقدين الأخيرين من حياته إلى أن يستعدي الشعر ليكون حاضراً في أعماله الفنية، فأدخل عبارات شعرية ليعزز اعتقاده بتعادل الشعر والرسم وانصهارهما كمادة إبداعية واحدة. حتى أنه صار يختار لبعض من أعماله عناوين غنية بالحس الشعري، إذ عبّر عن الكثير من تأملاته في شكل نصوص وعناوين شعرية مثل (جناح القبّرة المحاطة بزرقة الذهب تصيب قلب شقائق النعمان وهو يغفو في المروج الموشاة بالذهب ndash; 1967) ثم أدخل في أعماله كلمات بأسلوب الخط الذي ابتدعه الشاعر أبولينير والفنان ماكس إيرنست، فرسم لوحتين مثيرتين هما (جسد سمرائي التي أحبها يشبه جسد قطتي وقد توشحت بلون أخضر) و (طير يطارد نحلة فيصرعها). من هنا نكتشف أنه في تلك الفترة كان يخاطب عالمًا مليئًا بأفكار ورؤى تختلف تمامًا عن تلك التي ظهرت في أعماله خلال سنوات الحرب. أعمال تمنح المشاهد فسحة كبيرة من التأمل والدهشة في آن. طيور غريبة متعددة الأشكال، أشجار وحيوانات وحشرات، أشكال تخطيطية للشمس والقمر والنجوم. تكوينات قد تبدو مشوهة أو مخيفة ومقلقة للوهلة الأولى إلا أن المشاهد سرعان ما يتلمسها ليجدها نابضة بالحياة، تمامًا كما كان يعيش ويفكر هذا الفنان الذي كثيرًا ما تصور نفسه: quot;حشرة ذات مجسات، أرفرف بجناحي، فأشعر كأنني أنقذف بشكل غامض إلى اكتشافات قصيّةquot;.
- آخر تحديث :
التعليقات