محسن الذهبي من لندن: تذكرني لوحات الفنان التشكيلي السوري (رياض الشعار) بدعوة الفنان (بول كلي) بأن ننصت الى اللوحة باستماع عن طريق النظر حين اراد ان يستثير صديقة الموسيقار طالبا منه مرة ان يشرح ما تمثله قطعة موسيقية قد انتهى من عزفها لتوه، فأجابه الموسيقار مبتسما بعزفها مرة اخرى. . . هذا التسأول راودني وانا اتمعن في لوحات الفنان في محاوله للدخول الى عالمه فما كان مني الا ان اعيد تاملها مرة تلو اخرى. فما الفنان الا شاهدا على معاناة عصره يتأرجح بين توثيق الهم اليومي وبين المطلق الجمالي مشدودا الى الشكل واللون الذي يحاصر جوهر العملية الابداعية في الخلق التشكيلي ومحاولة ابراز الكمون البصري والروحي من خلال سطح اللوحة فتحل البصيرة محل البصر لفك اسراراللغة التشكيلية عنده.
فلوحاته تنحو منحى تشخيصي يرتقي بواقعيته التعبيرية الى استشراق عوالم ماهو شخصي واجتماعي ليرتفع بها بانفاذها من الذات الانوية الى الذات الجمعية، في تجربة لا تبتعد ان تكون اقتراحات صوفية احيانا تنبع من سلطة تلك الاملاءات الغامضة والالهمية التي تتمازج بموسيقية الالوان وشاعريتها فالصبوة الروحية اعطت للوعي التشكيلي مساحة واسعة من امكانية التوليف التصالحي غير المتصادم بين اختزانات الذات وطرح الواقع، مما اعطاه القدرة على توسيع عالم التخيل واللعب على صراحة بالالوان وتداخلها بتدرجات ذات نكهة موسيقية وحوار داخلي متفرد بين الحدة والبرود لخلق هارمونية بصرية تلملم طاقة اللون المتفجر، فما اللوحة كما يقول(بول جوجان) في رسالة الى صديقة الرسام (سوريزيية) سوى سطح مسطح يحمل خطوطا والوانا تفيض وفق نظام معين تربطه علاقة ابداعية.
ان الفنان (رياض الشعار) يتحرك في بناء اللوحة بين ثنائية المألوف واللامالوف فهو يحافظ على عنصر التجسيمي الشكلي في حين يمازجه بانزياحات تجريدية تعكس صورة الواقع في كليَّتها، فلا انفصال عنده في كل ما يدخل في صياغة الدلالات عن هذا التمثيل من اجل ان يصبح المشاهد قادرا على الوعي بالرسالة المجفرة التي يريد الفنان ايصالها. فهو يحدق بنظره في الحياة من نافذته الخاصه كي يصنع لنا واقع يريد ان يطلعنا على اسراره. عبر بنية التداخلات اللونية المركبة والمتضادة مع بياض اللوحة كمحيط تؤمن له ازدواجية الحركة مابين اخفاء القصدية واظهارها. فهو يؤكد هنا على الكامن الغائب حركيا وذهنيا من اجل الغور في المعنى (الواضح _ الكامن) ليجعل اللامرئي مرئيا بوجوه متعدده، لذا فهو يغامر في تشكيلاته الى ابعد حد، فلا يتحدد بشكل ما ولا يعرف الثبات من اجل اظهار الاثر الحركي الجمالي.
من الواضح ان الفنان (رياض الشعار) لا يقف موقف المتفرج من شخوصة بل يحاول ان يطابق بين الدلالة الايحائية وعواطفه الشخصية وانفعالاته بتفاعل عضوي. فالعلاقة التي تربطه باللوحة علاقة تكاملية لايمكن الفصل بينهما، فكل منهما يفسر الآخر، اذ لا وجود لأحدهما دون الآخر، بمعنى اخر أن هذه العلاقة أساسا تشخص ارتباطه في الواقع، مثلما تشخص جدلية الواقع في حد ذاته. فتكتمل عناصر التحرك نحو الفعل من خلال شخوصه المنتقاة بعناية، فهو يختزن الصور الذهنية عن الواقع الكائن عبر شخوص ونماذج انسانية تعبر عن مواقف وقضايا المجتمع ليقوم بتحريكها نحو الفعل،عبر توظيف التفاصيل التي تحقق شروط الصراع في مواجهة إكراهات الظروف، ليصبح المتلقي هو الرهان الذي يغامر من اجله فيوظف الرموز الحاملة للدلالات، بحيث يحيلها مباشرة الى قيمة اجتماعية وثقافية تنير الاستكشاف العقلاني للاشياء. اذن هو بحث و استكشاف من الداخل للكائن الرمز وبزوايا جديدة. اذ يسعى الفنان جاهدا لتوسيع افق الاجتهاد اللوني وروح المغامرة بمعالجات منفتحه على الدلالات التماثلية للواقع كي يعيد الاشتغال عليها بواسطة الرموز وفق سرد جمالي ومعطيات بصرية ضمن معرفة موجودة سلفا في وعيه.

ان الفنان يخلق لنا بوعي تجانس ايقاعي متناغم ما بين توليفات الخطوط والمساحات اللونية المتعانقة داخل متن النص التشكيلي لكل لوحة من لوحاته بصياغة أشكال ذائبة في عمق اللون من اجل ابراز شفافيته وبهائه ومن خلال الحدة والسطوع اللوني.
فالفنان وكما يقولquot;بول كليquot; في (نظرية الفن الحديث) quot;يخترق الأشياء وينفذ إلى ما وراء الواقع والى ما وراء الخيال كذلكquot; هذا ما نرى في اعمال الفنان(رياض الشعار) من خلال ملامح تعبيرية مشحونه بالانفعالات الكامنة وكأنه يريد اختراق الاشياء برؤية مغايرة تبحث عن التحرر والانعتاق في تعمقه باستقصاء بحث بصري يسعى وراء الكلي في الخاص، من اجل خلق عالمه الجمالي.

ناقد تشكيلي عراقي مقيم في بريطانيا
.commuhsinaldahabi@googlemail