سعد هادي من فنلندة:قد لا يكون بيكاسو حملا وديعا ولكن الطريقة التي قدمه بها الاسكتلندي (ماك دافيز) مخرج فيلم ( مودلياني-2004) تدعو الى الإستغراب فهو بدين بإفراط (مثَّل الدور الإيراني أوميد جليلي) لا يفارق الغليون فمه، كما أنه حقود وسارق أفكار ولا يتورع عن إغواء عشيقة (ومن ثم زوجة) غريمه وقرينه الرسام البوهيمي مودلياني. كما أنه يستخدم أحدى لوحات مودلياني ليرسم فوقها.
اما الأمريكية غروترد شتاين (1874-1946) التي أثرت في معظم فناني وأدباء باريس في أوائل القرن العشرين وروجت لأعمالهم ومؤلفاتهم فهي قصيرة وقبيحة وسليطة أكثر بمراحل مما وصفت به في مذكرات معاصريها أو ظهرت في رسومهم (ثمة تعليق شهير لبيكاسو رد به على ما قالته عن بورتريت رسمه لها ولم يعجبها، قال لها: اذا كانت ملامح الوجه لا تشبهك الآن فستشبهك في المستقبل، وقد أثبتت السنوات ذلك). انها في الفيلم مسخ بشري قميء يسعى على عكاز يتحكم في لعبة ضغائن ومطامح.
في حين ظل جان كوكتو (1889-1963) أشبه بشبح حاضر-غائب، لم يظهر الا في بضعة مشاهد قال فيها بضعة كلمات لا تدلل على روحه المتوثبة ولا على حيويته، ولا أيضا عن مواهبه المتعددة، ظل أشبه بطيف أنيق يتوارى في الصفوف الخلفية.
ومن الممكن ان نتحدث بالطريقة ذاتها عن شخصيات الفيلم الأخرى وكلهم من اساطين الحداثة ومبتكري إتجاهات الفن الحديث: ريفيرا، سوتين، اوتريللو، ماكس جاكوب، فهم يظهرون بعجالة أو في مواقف لا تفصح عن أدوارهم التاريخية ولا عن مساهماتهم في صياغة الأشكال الجديدة، أو الى حد ما تظهرهم مأزومين، سكارى وأنصاف مجانين. أستثني من ذلك الظهور الساحر والمثير لاشهر الرسامين الانطباعيين أوغست رينوار (1841-1919) في مشهد قصير يشير فيه الى ثرائه وسعادته بما حققه، حدث ذلك خلال زيارة قام بها بيكاسو ومودلياني له في بيته الريفي ( الممثل ثيودور دانيتي)، ولأن أحداث الفيلم تجري في سنة 1919 فينبغي التذكير بأنها السنة التي شهدت في نهايتها موت رينوار، في بداية اللقاء يطرح رينوار على مودلياني سؤالا: هل أنت مجنون؟ ثم يكرر السؤال فيشير مودلياني بيده: قليلا، يتحدث رينوار أيضا عن عشقه للنساء النحيفات والرشيقات بينما كانت نساء عصره اللواتي رسمهن عاريات بدينات ومترهلات، ولم يكن أمامه سواهن.
أما إذا عدنا الى الشخصية الأساسية في الفيلم أميدو مودلياني (1884-1920) فسنجد أن أولى تجاوزات المخرج عليها إسنادها الى الممثل الكوبي الأصل (أندي غارسيا) الذي وإن كان يقارب مودلياني شكلا الا أنه حين مثل الدور كان التاسعة والأربعين (غارسيا من مواليد 1956) في حين أن مودلياني كان في الخامسة والثلاثين حين مات (بمرض السل وأيضاً لإدمانه على الكحول)، ولا شك أن سببا أساسيا لاسناد الدور الى غارسيا جاء لإعتبارات تجارية باعتباره نجماً، ولكن خيارات عديدة أفضل كانت متاحة لماك دافيز(وهو بالمناسبة كاتب سيناريو الفيلم وقد عرف عنه اهتمامه بتاريخ الفن ومعرفته بالتحولات الأساسية فيه)، لنقل أيضا أن تركيز دافيز على يهودية مودلياني قد أدى في بعض الأحيان الى الشعور بأن قضية هذا الرسام ليست فنية بل هي سعي لإثبات يهوديتيه في وسط ينظر اليه بكراهية ويحاول تدميره وليس أبلغ من الإشارة الى ذلك في المشهد الأخير من الفيلم حين يرسم الطفل (وهو شخصية متخيلة تظهر وتختفي ولا يراها سوى مودلياني) النجمة السداسية على الثلج المتراكم في المقبرة الى جوار الصليب, وقبلها يستعيد مودلياني مشهدا من طفولته، حين يقتحم رجال الشرطة منزل عائلته للحجز على الأثاث تعويضا عن ديون مستحقة، هنا يحاول المخرج التأكيد على امتزاج مظاهر البؤس مع مشاعر الإضطهاد التي تبدو على الوجوه أو يمكن استنتاجها من الحركات الخائفة وأساليب التخفي والمراوغة وخصوصا لدى الطفل مودلياني، والذي ستتحكم في تصرفاته في مراحل عمره التالية نزعة العبث والتمرد ربما لإثبات وجوده في محيط يحاول سحقه أو سلب إنسانيته، لقد طغت بوهيمية مودلياني على سواها من عناصر شخصيته، وضاعت قضيته كرسام مجدد في خضم تصرفاته كسكير وشقي لا هم له سوى النيل من بيكاسو الذي يبدو كالأبله أمام استفزازاته واهاناته ثم يصل به الأمر الى حمل مسدس معه والتلويح به في وجه مودلياني، هو الآخر ليس له من هم طوال الفيلم سوى مواجهة مودلياني ومحاولة التقليل من شأنه كأنه القطب الموازي له في حركة الحداثة التي ساهم فيها فنانون كبار كانت لهم أدوار أكثر أهمية وتأثيرا من مساهمات مودلياني. بل ان الفيلم يعطي ايحاء بأن بيكاسو سيواصل مشروع مودلياني حين يصطحب معه الطفل اللامرئي ويأخذه الى خارج المقبرة، أكثر من ذلك يشير الفيلم الى أن آخر كلمة نطقها على فراش الموت كانت أسم مودلياني.
يبدأ الفيلم بسؤال تطلقه طالبة الفن جان وهي عشيقة ثم زوجة مودلياني (الممثلة الفرنسية اليزا زيلبرستاين- من مواليد1969) : هل تعرفون ما هو الحب؟ ويتواصل البحث عن اجابة لهذا السؤال خلال المشاهد التالية، حين يرسم مودلياني مثلا صورة شخصية لجان بلا عينين تسأله: لم فعلت ذلك؟ فيرد: سأرسم عينيك حين أعرف روحك، كما يتهكم مودلياني في مشهد آخر على بيكاسو ساخرا من أسلوبه: كيف يمكن ممارسة الحب مع مكعب، في اشارة ذكية الى عقم الاتجاه التكعيبي الذي اكتشفه بيكاسو وطوره وعدَّ من بين التحولات الكبرى في تاريخ الرسم في السنوات الأولى من القرن العشرين، وقد كان اسلوب مودلياني البسيط والموجز والمغرق بالذاتية والرؤى الشعرية أحد مصادر هذه التحولات ايضا.
يركز الفيلم في الجزء الأخير منه على المسابقة التي تجري لإختيار أفضل رسام في باريس، وعبر مشاهد سريعة وموجزة نتنقل بين مختلف الأساليب والرؤى الاسلوبية وطرق التنفيذ، يختار مودلياني أن يرسم صورة شخصية لجان ويرسم سوتين بقايا ذبيحة ويسمي اللوحة: الأحمر الذي يخصني، اما أوتريللو فيرسم رجلا مقيدا يمثل جنونه، في حين يرسم ريفيرا أمرأة تمثل المكسيك. ويبقى مارسمه بيكاسو سراً حتى اللحظة الأخيرة لنكتشف أنه رسم مودلياني بإسلوب تكعيبي كأنه يرد على إهاناته أو يعلن إنتصاره الإسلوبي عليه، في تلك الأثناء يكون مودلياني شبه ميت في إحدى الأزقة بعد أن أعتدى عليه لصان ظنا منهما أنه يحمل معه 5000 فرنك هي قيمة الجائزة التي ظل يحلم بها والتي كانت ستنقذه من إفلاسه وشعوره بالضعة أمام تفوق بيكاسو الذي عرف منذ بدايته كيف يتعامل مع تجار الفن وكيف يرسخ مكانته بين النقاد والصحفيين، ظل مودلياني يرفع الأنخاب ويصرح للرعاع في الحانة التي أراد أن يقضي فيها بعض الوقت قبل ذهابه الى صالة العرض حيث سيعلن انتصاره فنيا وانسانيا: أنا ثري هذا اليوم، ليشرب الجميع على حسابي.
وبدلا من أن يتوج فنانو باريس أميدو مودلياني زعيما لهم يحيطون بسرير موته، أنه عاجز، مغطى بالدماء، وحين تحضر جان يقول لها جملته الأخيرة: حان الوقت لإنهاء هذا الجنون ثم يغمض عينيه. ولكن جنون مودلياني المجسد في لوحاته والتي قد تختلف آراء النقاد بشأنها وبشأن موقعه في تاريخ الفن سيستمر. سيتبقى أيضا ذلك القناع الذي صنعه أوتريللو وسوتين عن وجهه وهو ميت، فاغرا فمه كأنه يحاول إخافة الموت. الموت الذي سيغري جان ايضا فتنتحر بعد دفن مودلياني وهي تقول للأحياء الذين ينظرون اليها : حاولوا أن تفهموا، سامحوني.