عبد الله كرمون من باريس: عمدت دار إكواتور مؤخرا إلى التعريف بوجه آخر من الوجوه المتعددة للكاتب الفرنسي ألفونس دوديه بأن أخرجت لنا عددا من مقالاته مضمومة في كتاب أطلقت عليه quot;عشرون سنة في باريسquot;، يقع في ما لا يقل عن ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط، يحوي عددا من كتاباته المنشورة هنا وهناك على امتداد أربعين سنة: من سنة 1857 إلى سنة1897.
يكمن الوجه الجديد لدينا عند ألفونس دوديه في المقالة الصحفية والبورتريه اللذين برع فيهما، ذلك أنه لم يكن يُعرف لدى الكثيرين سوى برواياته وقصصه الريفية، وما quot;عنزة السيد سوغانquot; إلا واحدة منها، ولعل مجموعة quot;رسائل من طاحونتيquot; التي تضمها هي أشهرها على الإطلاق.
لم يكن دوديه مع ذلك من أقل معاصريه شهرة، بل كان أكثر من ذلك ندا للكبار أمثال إميل زولا، الإخوان غونكور جيل وإدموند، وفلوبير الذين ربطته بهم جميعهم علاقة صداقة وصلت به حد الحميمية في شأن إدموند غونكور الذي لفظ أنفاسه الأخيرة في بيت دوديه نفسه في إحدى الضواحي الباريسية، وتأتي اليوميات التي ينتهي بها الكتاب على تفاصيل الأيام الأخيرة من حياة إدموند رفقة دوديه.
أما فلوبير فكان يقيم لقاء أسبوعيا في بيته يحضره زولا، دوديه، غونكور، وتورجينيف بعدما استقر به المقام في باريس. ونجد في الكتاب ذكرا لعدد من نقاشاتهم، ملحهم، وتعليقاتهم على المستجدات الأدبية والسياسية على حد سواء.
كانت الأيام الأولى في باريس غير سهلة بالنسبة للشاب ألفونس حينما حط الرحال ذات صباح شتائي بارد في أرض عالمها الغريب. احتاج إذن إلى الكثير من العناء كي يشق طريقه فيها بعد خيبات لا تحصى. نعثر على تفاصيل كثير منها في مقالته المعنونة بquot;الوصولquot;، مثلما نقرأ عن تجاربه الأدبية المبكرة في عزلته التي خلد إليها في غرفة متواضعة بزقاق تورنون غير بعيد عن الأوديون، يقرض فيها الشعر.
من هناك بدأ يتلمس سبيلا إلى التسلل إلى خبايا باريس والتعرف على رموز الحرف فيها. كان يقصد مكتبات الحي اللاتيني، متفرسا في الكتب وفي سحنات كبار الكتاب والسياسيين الذين كانت تعج بهم إذ ذاك من طينة باربي دو أورفيللي وغامبيتا.
ليست دوور الكتب هي ما يجتذبه إليها وإنما تجاوز ذلك إلى حلقات النقاش الأدبي في النوادي والحانات المعروفة بمرتاديها من كبار الكتاب سواء من الذين ما يزال صيتهم ذائعا بيننا أو الذين لم يعد يذكرهم إلا القليلون. فهذا شاعر مرهف يلتقيه حينها في تلك المحافل، يدعى فيلوكسين، جاء هو أيضا من الريف يبغي شأنا أدبيا في باريس، كتب دوديه أنه قُدر على ذلك الرجل أن يكون منذ البدء ضحية للكتب. فقد ابتلي بشغفه المهووس بكتب بلزاك إلى حد أنه كان يتطلع كل مرة يقرأ فيها كتابا له لأن يحيا حياة أبطاله، وبقي على ذلك المنوال حتى أنفق كل ماله وصادف أن تعرف على إرث شاعر آخر هو شكسبير وراح يتعاظم حبه له حتى أنه كان يسعى إلى جمع كل كتبه وكل ما كتب عنه في لغات مختلفة، وفي نيته أن يكتب دراسة وافية عن عمل الرجل في شموليته، ومازال يقرأ حول شكسبير، في حين تزداد الكتب المنشورة عنه ، ما جعله يتأخر كل مرة في الشروع في تدبيج دراسته تلك، إلى أن اكتظت غرفته بالكتب، وامتلأت كل أركانها بها، وصار الرجل يلقي محاضرات في كل مكان عن شكسبير إذ أصبح بلا منازع نوعا من المتخصص في أدب الرجل، لذلك كتب عنه دوديه أن بلزاك لم يأت سوى على قروشه أما شكسبير فقد أتى على حياته كلها.
أما الشعراء المعروفون الذين نجد لهم صيت في كتاب دوديه، فإننا لا نجد أجمل من وصفه لشاعر كبير كان لدوديه حظ معاصرته ألا وهو بودلير، هذا الذي كان يتردد على حانة معروفة، يدهش الندامى بحضوره الشامخ وبذهنه الثاقب، وهو يكرع كميات هائلة من الكحول القوية.
لا نفرغ من قراءة هذا الكتاب دون أن تتأكد لنا أشياء كثيرة حول ظروف كتابة دوديه لأغلب كتبه، وحول أجواء كومونة باريس وكيف كان وجه باريس حينها، سوف نحس أننا اجتزنا مع دوديه ومع كتاب يذكرهم النصف الأخير من القرن التاسع عشر، نأخذ على الرجل قليلا ما في بعض أحكامه من المسحوق الكولونيالي، ويتردد في أسماعنا أخيرا قول الشاعر الذي يجزم في الكتاب أنه لو كانت هناك ضرورة لوجود الله فلن يتجسد، واستنادا إلى الرياضيات، إلا في الشمس.
[email protected]