إيلاف ndash; بيروت: quot;منذر مصري وشركاهquot; عمل جديد في فكرته أنجزه الشاعر السوري البارز منذر مصري وصدر مؤخراً لدى quot;دار الغاوونquot; في 250 صفحة. ويقوم الكتاب على فكرة الكولاج الشعري المصنوع من شذرات كان استلَّها الشاعر من مئات المجموعات والقصائد التي قرأها لشعراء سوريين. لكن منذر مصري - بحرفيته الشعرية العالية - استطاع إعادة إنتاج تلك القصائد كقصائد خاصة به برّرت له وضعَ اسمه إلى جانب اسم الشاعر الأصلي مالك المادة الخام.
والشعراء ndash; الشركاء هم سوريون في غالبيتهم باستثناء بعض الشعراء الذين عاشوا زمناً طويلاً في سوريا. وهؤلاء الشعراء هم بحسب التسلسل الأبجدي: إبراهيم إدريس، إبراهيم الجرادي، أحمد جان عثمان، أحمد حسن، أحمد ديبو، أحمد شليلات، أحمد عائشة، أكرم قطريب، إيمان إبراهيم، بركات لطيف، بسام حسين، بشير البكر، بولص سركو، بيان الصفدي، تهامة الجندي، حازم العظمة، حامد بدرخان، حسام جيفي، حسان عزت، حسين بن حمزة، حسين حبش، حسين درويش، حسين عجيب، حكم البابا، خضر الآغا، خلات أحمد، خلف علي الخلف، خليل النعيمي، خليل صويلح، رشا عمران، رفعت مصري، رولا حسن، رياض الصالح الحسين، زهير غانم، زياد عبد اللَه، سعاد الخطيب، سلام أحمد، سوسن سلامة، صالح دياب، صلاح داؤود، طه خليل، عابد إسماعيل، عارف حمزة، عبد السلام حلوم، عبدو زغبور، عبير ناعسة، عزّ الدين غانم، علي جازو، علي سفر، عمر قدور، عهد فاضل، فارس بحرة، فراس سعد، فراس سليمان، فراس شربَجي، فرج بيرقدار، فيصل خليل، لقمان ديركي، لينا الطيبي، مازن أكثم سليمان، ماهر شرف الدين، ماهر منزلجي، مروان علي، مصطفى علي، محمد دريوس، محمد رشّو، منار شعبوق، محمد فؤاد، مهدي محمد علي، ميّاسة دع، ميساء علي، ناظم السيد، نبيل صبح، نجيب عوض، ندى منزلجي، نديم الوزة، نزار صابور، نضال حمارنة، نوري الجرّاح، هادي دانيال، هالا محمد، هاني نديم، هنادي زرقة، وائل شعبو، ياسر اسكيف.
ومنذر مصري من مواليد اللاذقية - سوريا 1949، صدر له في الشعر: quot;آمال شاقّةquot; (إصدار خاص ومحدود، 1978)، quot;بشر وتواريخ وأمكنةquot; (وزارة الثقافة السورية، 1979)، quot;أنذرتك بحمامة بيضاءquot; (وزارة الثقافة السورية، 1984، وهي مجموعة مشتركة مع مرام مصري ومحمّد سيدة)، quot;داكنquot; (وزارة الثقافة السورية، 1989، صدرَ ومُنع)، quot;مزهرية على هيئة قبضة يدquot; (رياض الريّس، 1997)، quot;الشاي ليس بطيئاًquot; (رياض الريّس، 2004)، quot;المجموعات الأربع الأولى: آمال شاقّة، بشر وتواريخ وأمكنة، كن رقيقي، دعوة خاصة للجميعquot; (دار أميسا - دمشق، 2006)، quot;من الصعب أن أبتكر صيفاًquot; (رياض الريّس، 2008)، quot;... لأني لستُ شخصاً آخرquot; (قصور الثقافة - القاهرة، 2010).

وفي الآتي نورد مقدّمة الكتاب التي حملت عنوان quot;دبُّور يجني رحيقَ الأزهار ليصنع العسلquot; والتي يشرح فيها منذر مصري فكرة عمله الجديد هذا:

لسنوات كثيرة خلت، أثناء قراءتي الشعر، ضمن مجموعات مطبوعة، أو مخطوطات معدّة للنشر، منها ما صدر لاحقاً بعد سنين، ومنها ما لم ولن يصدر أبداً!، أو قصائد منشورة في مجلاّت وجرائد، أو مجرّد مسوّدات، كنت أضع خطوطاً تحت الجمل والمقاطع التي لفتت انتباهي لهذا السبب أو ذاك، ليس فقط، كدليل على مروري عليها، بل أيضاً استجابة إلى توقّع مبهم بأني يوماً سأعود إليها، ومن الجيّد، وقتها، أن أعرف، ما كان قد أثار اهتمامي وراقني منها. كما أني لمزيد من ترك الأثر، الأمر الذي أعاني منه مرضاً نفسياً لشدّة تحكّمه بي، غالباً ما كنت أضع علامات متنوّعة، على هوامش الصفحات، أو أكتب رقم الصفحة التي ورد فيها هذا السطر وذاك، وغالباً أيضاً ما كنت أكتبها هي ذاتها، على الصفحة الأخيرة للمجموعة الشعرية، مضيفاً إليها بعض الأفكار والانطباعات الآنية التي خطرت لي أثناء قراءتها. الأمر الذي ساعدني كثيراً، كلّما رغبت بإلقاء نظرة على إحدى هذه المجموعات، أن أستعيد بسهولة وسرعة أكثر انطباعاتي ومشاعري حولها.
إلاّ أني، أثناء إعدادي لمجموعتي الشعرية الرابعة quot;دعوة خاصة للجميعquot;، لتصدر ضمن الجزء الأوّل من أعمالي الشعرية (المجموعات الأربع الأولى، 2006)، خطر لي، نتيجة صغر حجمها، بالنسبة إلى الحجم المعتاد لمجموعاتي السابقة واللاحقة، أن أزيد عليها عدداً من القصائد، كنت قد كتبتها كمسوّدات، باستخدام تلك السطور والمقاطع من أشعار الأصدقاء. ما اضطرّني، وأنا أعيد العمل بها بجدّية أكبر، إلى أن أعود إلى ما لديّ من مجموعات قديمة وجديدة للشعراء السوريين، إلى صفحاتها الأخيرة، بادئ ذي بدء، ثمّ إلى صفحاتها الداخلية، لأنبشها وأستخرج هذه السطور. فكان نتيجة ذلك، أنّي وجدت نفسي متورّطاً في تجربة شعرية كاملة، لا عهد لي بمثيلها، مؤسَّسة على كتابة قصائد مأخوذة من قصائد شركائي الشعراء السوريين. السوريون، لأنه صدف أني سوري، ولدتُ وعشت وسأموت في سوريا، متقاعساً عن أي فرصة تُتيح لي الحصول على وطن آخر سواها، مع أني، يوماً، لم يطب لي أن أرتدي ثياباً تطابق ألوان علمها، أو أن أحفظ ما يزيد عن سطر أو سطرَين من نشيدها الوطني، وعندما شُكِّك بحبّي لها، قلت: ldquo;سوريا بلدي كما خالدية أمّي، ماذا يريدون أكثر؟rdquo;. ولأنه صدف وأن هؤلاء الشعراء يشاركونني بها، بل بعضهم يضيّق عليَّ ويقاسمني مدينتي وحارتي وبيتي... وأمّي، ولأنهم يرسلون لي مجموعاتهم الجديدة بواسطة البريد، أو مع أصدقاء، وعلى صفحاتها الأولى كلماتهم وتواقيعهم: quot;... أَعِد إليه الحياة ثانيةquot;، وأحياناً، يتكبَّدون السفر الطويل من مُدنهم وقراهم البعيدة، ويطرقون باب مرسمي، لا لشيء سوى أن يلتقوا هذا المنزوي في الطرف القصيّ من سورياهم، ويقدّموا له مجموعاتهم الشعرية الساخنة، وكأنها خارجة لتوّها من الفرن. قلت قصائد مقتبسة، مأخوذة، مصنوعة، من قصائدهم، وذلك لأني كنت أنتقي في البدء سطوراً أو مقاطعَ منها، ثم أعدّل بها وأحذف، وأقدّم وأؤخّر، وأحياناً نادرة أضيف، على النحو الذي تفرضه عليّ فرضاً، الجريمة! أقصد القصيدة. ولكن لماذا ليس الجريمة؟، فمن هذا الشعور جاء اسم مرتكبيها: quot;منذر مصري وشركاهquot;.
ومن هنا، أيضاً، تتأتّى الشبهة التي يحملها هذا العنوان، كونه سيبدو للبعض استعراضياً ونرجسياً، ليس بسبب ورود اسمي فيه فحسب، بل أيضاً لأني وضعته في بدايته. والحقيقة، رغم رغبتي الشديدة بتجنّب ذلك، تعذّر عليّ العكس، أي أن أذكر أسماء جميع شعراء الكتاب، أو حتّى أنتقي بعضهم، كما حين خطر لي أن يكون العنوان: quot;هالا ونوري وحكم وحازم وعابد ولينا وعبد السلام وبشير وأكرم وعلي... وشريكهمquot;. الأمر الذي أفكّر الآن بوضعه، في الغلاف الخلفي للكتاب. أمّا الغلاف الأوّل، الذي عملت به لأكثر من شهرَين، فهو توليف لصور وجوه ما يقارب سبعين شاعراً من شركائي بأنواعهم، بعد قصّها ومعالجتها لتلائم تصميم الغلاف، منها صور التقطتها لهم في مناسبات متفرّقة، وأحتفظ بها في ألبوماتي الخاصة، ومنها ما أرسله إليّ الشعراء أنفسهم أو بالاستعانة بأحد أبنائهم أو أصدقائهم، ومنها ما بحثت عنه وسحبته من شبكة الانترنت، أمّا صورة بركات لطيف فقد التقطتها مؤخراً عن شاشة قناة تلفزيونية سورية في حوار أُجري معه يتحدّث فيه عن ذكرياته كسائق قطار دون أدنى ذكر لكونه شاعراً. ولكنّ من سوف يمعن النظر في الغلاف ولا يجد صورته، فذلك، بسبب تعذّر حصولي عليها بأيّ طريقة ممكنة، ما عدا السفر مئات الكيلومترات والحصول عليها منه مباشرة. بين هذه الوجوه الستة والستين، بعد قليل من التردّد، وضعت صورتي، لا أظنّ أحداً سيستكثر عليّ هذا مهما كان موقفه، كما أني بعد كثير من التفكّر، وضعت تحت عنوان كلّ قصيدة، بين قوسَين، اسم الشاعر، تثبيتاً لأحقّيّته فيها، وإقراراً مني بعائديتها له، يتبعه اسمي: (... - منذر مصري)، إقراراً آخر بأنه أنا من يتحمّل مسؤولية ما آلت إليه القصيدة في خاتمة المطاف. إضافة إلى أني، رغم محاولاتي الكثيرة، لاستبعاد ذكر أي اسم في العنوان، اسمي على وجه الخصوص، أنا الذي يلجأ إليه أصدقاؤه وغير أصدقائه لاختيار عناوين كتبهم، لم أستطع أن أتوصّل إلى عنوان آخر لهذه التجربة أشدّ ملاءمة.
قصائد من قصائد الشعراء السوريين النثريين، السوريين ما عدا العراقي مهدي محمّد علي الذي جعل من حلب بصرته، ونضال حمارنة العالقة بالشام إلى الأبد، وأحمد جان عثمان الصيني الذي بعد خمس وعشرين سنة عاشها في سوريا، زوجاً لامرأة سورية وأباً لثلاثة أطفال سوريين، وشاعراً بثلاث مجموعات باللغة السورية، أقصد العربية، أعطيت له مهلة أسبوع واحد، لكي يحشو حياته كلّها في حقيبة واحدة، ويغادر سورياه بلا رجعة، ولا أحد يعلم السبب!؟ أمّا ناظم السيّد، فلا أدري ما الذي أوقع في روعي أنه سوري اضطرَّ إلى العيش في لبنان تهرّباً من الخدمة العسكرية! النثريين ما عدا شاعرَين أو ثلاثة، فلست عدوّاً لشعراء الوزن والقافية على نحو إطلاقي. ولكن ليس كلّ الشعراء النثريين السوريين، وليس من يعتبرهم البعض أهمّهم، وليس من هم أقربهم إليّ وأحبّهم إلى قلبي، رغم أن الكثيرين منهم حقّاً كذلك. وبالمقابل، هناك بين شركائي شعراء لا أعرفهم إلاّ بالاسم والشعر. ما أقصده، هو أنه لم يكن هناك اختيار بمعنى الكلمة، ولكن عموماً، الشعراء السوريون النثريون الذين توافرت لديّ أعمالهم، والذين ما إن طلبت منهم، أو سمعوا بمشروعي هذا، حتّى راحوا يرسلون إليَّ مجموعاتهم الصادرة، أو مخطوطاتهم الّتي أعدّوها للنشر، ولم يحزموا أمرهم بنشرها بعد، أو قصائد متفرّقة مكتوبة بخطّ اليد، أو حتّى مسوّدات قصائد. وأهم من هذا كلّه، الذين شعرت بقدرتي على التواصل مع قصائدهم، على إقامة علاقة مع كلماتهم وأفكارهم، واستطعت، في النهاية، كتابة هذه القصائد بمشاركتهم، الأمر الذي بدا في أغلب الأحيان وكأنه لا حيلة لي فيه، فإمّا أن تنجح عملية التهجين، بسهولة أحياناً، وبعسر شديد أحياناً أخرى، وإمّا لا... حتّى بدا لي وكأنه من المستحيل أن أكتب قصيدة من شعر صديقي الراحل محمّد سيدة، أو أختي مرام، اللذين أحفظ شعرَيهما غيباً، أو شاعرة، لا يمكن لي أن أفوّتها لو باختياري، كدعد حداد، أو شاعر خاص كمحمّد عضيمة لديه أكثر من عشر مجموعات شعرية مليئة بالطرائف، أهداني إياها جميعها دفعة واحدة، أو محمّد خير علاء الدين الذي يقولون إني أقحم اسمه في كلّ شيء، أو نزيه أبو عفش وعادل محمود وبندر عبد الحميد، الذين شكّلت معهم عصابة الفرسان الأربعة في كتاب محمّد جمال باروت quot;الشعر يكتب اسمهquot; (1981)، وشعرت وأنا أكتب عنهم في الجزء الثالث من أنطولوجيا الشعر السوري quot;انعطافة السبعيناتquot; أنّه آن الأوان لأشبّ وأقطع رباطي المقدّس معهم، والكثيرين من شعراء الأجيال الّتي تلاحقت بعد ذلك. كما أني حذفت عدداً لا بأس به من القصائد بعدما كنت ضمّنتها المجموعة، على أن أعيد النظر فيها مستقبلاً. عندما يصدق أنسي الحاج ويعطيني ما وعد به الجميع: ldquo;سوف يكون للجميع وقتٌ، فاصبرواrdquo;، وعندما سأكون في المزاج. المزاج الذي سمح لي، أوّل ما أخذت الفكرة على محمل الجدّ، أن أكتب كلّ يوم قصيدة، أو على الأقل قصيدتَين، ثلاثاً، في الأسبوع، المزاج نفسه، مقلوباً على وجهه المعتم، منعني من متابعتها سنوات، وبتّ لا أعود إليها إلاّ في مناسبات متفرّقة، كان آخرها، كما تدلّ تواريخ أحدث قصائدها، العام 2007، وكما أفعل الآن، وأنا ألقي عليها النظرة الأخيرة قبل إصدارها، فأحذف وأضيف وأعدّل وأنا في حالة شديدة من الارتباك والإثارة. حينها لن يكون هناك، ما هو أسهل عليّ من كتابة مجموعة أخرى بمشاركتهم. أعني بمشاركة قصائدهم ونصوصهم، بمشاركة كلماتهم وأفكارهم وأحاسيسهم، لأن معظم شركائي هؤلاء، غالباً ما كانوا غائبين كلياً عني، كأشخاص وكأبدان، ولكنهم في أشدّ حالات الحضور سطوة، كنصّ وكمعنى وكروح، حتّى أولئك الذين يحيون قربي، وربّما لا يمرّ يوم دون أن أراهم أو أسمع صوتهم، لم أجد أنه من دواعي عملي أن أطلعهم على ما طلعت به من قصائدهم، وذلك أسوة بشركائي البعيدين، ما عدا قلّة منهم حدث وأن أرسلت إليهم صورة عن قصيدتنا المشتركة، أسألهم رأيهم في هذه الجملة أو تلك، وأحياناً، لا لغاية محدّدة، كنت أطلب منهم موافقتهم. الأمر الذي أوصلني إلى قناعة بأنه من الصعب، عموماً، على صاحب النصّ بالذات أن يتقبّل تقطيع أوصال قصائده، ثم نزعها من هيئتها الطبيعية التي ولدت عليها، وإعادة لصقها لتؤلّف كائناً شعرياً آخر، ربّما، أقرب إلى المسخ في نظره، وأكثر من أي شيء آخر، عليها بصمات شاعر سواه! بينما لا يجد القارئ العادي مشكلة في استقبال النص كما هو، فلا خلفية هناك تمنعه من الحكم على القصيدة بذائقته الحرّة، هذا ما أريد أن ألفت إليه نظر شركائي وأطمئنهم عليه. غير أنّي أيضاً رحت أكتب قصائد مستخدماً مصادر أخرى من كتابات الآخرين، كالرسائل الشخصية، والقصة القصيرة، أو الخواطر الأدبية، أو أي نوع من الكتابات التي يمكن أن تتوافر لي، وأجد بها ما يمكنني اقتباسه وتحويره وتوليده قصيدة هجينة أخرى.
كلّ من يعرفني، يعلم أنني أتيت إلى الشعر من خارجه، فكثيراً ما ذكرت بأني يوماً أعددت العدّة الكاملة لأكون رساماً، وعندما كانوا يسألونني: quot;ماذا تعني بقولك إنك أعددت العدّة الكاملة!؟quot;، كنت أتفاصح وأجيب: أقصد أني قمت بالتوهّم المطلوب كاملاً! وهكذا، أنا، من هذه الزاوية، أحد أولئك الزوّار ذوي الحقائب الكبيرة، إلاّ أني، أقسم، أتيت ولا أحمل معي أيّ حقيبة على الإطلاق، رغم أني بدوت، وكأن خطّتي المضمرة، كانت أن أبقى. وهذا ليس صحيحاً، بدليل أن إقامتي ظلّت شديدة الاضطراب. فبقدر ما حصل مراراً، أن أهبّ، فجأة، وأجمع حوائجي معلناً قراري النهائي، بالمغادرة: quot;هذا الصباحُ... يا لروعته/ استيقظتُ/ وكان الوحلُ فِراشي والريحُ لحافي/ بالتأكيد هذا ليس حُلماً من أحلامي/ وذلك بفضلكم/ وهو/ بكافّة الأحوال/ كلّ ما تستطيعون أن تفعلوه لأجلي/ ثَمنَ عِنادي أن أبقى/ منكمquot;. وquot;أجملُ ما عندي أخرِجُهُ لكم/ وأنتم تظنّون العكس/ وكنتُ سابقاً أعتمد على ذلك/ لكني اليوم لا أخجل من شيء/ هذا كلّ ما أستطيعه/ وهو أفضل ما لديكمquot;، وبقدر ما كنت أخترع المبرّرات لمكوثي الدائم وتصرّفـي وكأني أحد أهل البيت: quot;ساعدوني وساعدوا أنفسَكم/ بأن تقتربوا بلِصقي/ وتَجعلوها سهلةً/ أدخلُ وأخرجُ فيكم/ ولا ألطِمُ رأسيquot;. مطلقاً العنان لجزيل وعودي: quot;أنا أنتم جميعاً لوحدي/ كونوا لي/ أنا لكم/ ومعاً معي/ لن نكون لأحدquot;. غير أن لا هذا ولا ذاك قد حصل، لم أبنِ بيتاً وحوله حديقة، لنفسي، ولكني لم أغادر إلى مكان آخر بالمقابل، مرضت وكبرت في السن، ولكنّي لم أمت، لم أفعل شيئاً ذا بال، كنت وسأبقى شاعراً غير مُعترَف به، إلاّ في حدود ضيّقة، وفي دائرته الخاصة غير المنتظمة الحواف. وإذا كان البعض يصدّق أنه عندي موهبة ما أو قدرات معيّنة، فقد أسأت التصرّف بها، أفسدتها، عن قصد ودون قصد، حتّى باتت غير مؤكّدة. رغم أنه، أعترف، أُتيح لي من الفرص، ربّما، ما لم يُتح سوى للقليلين.
هي تجربة، تجربة قراءة الشعر بالشعر، نتج عنها كتابة مجموعة شعرية كاملة: quot;منذر مصري وشركاهquot;. وربّما، إذا أُتيح لي الوقت، ها أنذا أعدكم بمجموعتَين شعريتَين، لأنه، يا لنا من مجانين شعر، نحن السوريين، فها هو أمامي، رفّ كامل من المجموعات الشعرية الجديدة، غير تلك التي وضعتها منذ أيام بجانبي، تنتظر أن أُعمل عملي بها مستدركاً من لا يمكن أن أهمله من شركائي، ومعظمها باكورات شعراء ولدوا البارحة، أو أوّل البارحة على أبعد تقدير، فيا لها من رحم لا تعرف الرحمة للشعراء هذه سوريا. ما كان لأحد أن يفهم كيف يولد الشعراء السوريون بهذا المعدّل من الخصوبة، من الخوف، ومن اليأس، ومن الرجاء، ومن الفرح، ومن الرغبة بمقاومة العدم، ومن الحب، من الحبّ أكثر من أي شيء آخر في العالم، يولد الشعراء السوريون، وكأن الشعر عندهم، يعود إلى أصله الأول، لغة الحب.
تجربة لم يسبق لي أن خضت مثيلاً لها في حياتي، ليس فقط الكتابة بأساليب الآخرين وأدواتهم، بل بكلماتهم وأحاسيسهم وأفكارهم. هي تجربة التعامل مع تجارب الآخرين، ليس لكونها تعنيك وتهمّك فحسب، بل لأنها حقّاً، كما يدّعون، كُتبت لتخصّك وتصير لك. أو كما كتب ياسر اسكيف في معرض مقاله عن quot;الشاي ليس بطيئاًquot;: quot;لذّة الاكتشاف المركّب، اكتشاف الذات في تجربة الآخرquot;. كما عندما كتب بيتهوفن، بدون تشابيه، تنويعاته على أعمال موزارت وساليري، وفان كوخ في نقله لأعمال ميليه متلمّساً فيها أسلوبه الخاص، وبيكاسو في رسمه لعشرات الاسكتشات واللوحات المستمدّة من لوحة quot;الغداء على العشبquot; لمانيه، ولوحات أخرى لفيلاسكيز وسيزان، ونزار صابور في إحيائه لأبي صبحي التيناوي في تجربته الأخيرة quot;عنترة زمانناquot;، وإصدار جوني كاش خمس ألبومات بعنوان quot;The Americanquot; يغنّي بها ما يزيد عن مئة أغنية شعبية أميركية ختاماً لحياته الفنية الصاخبة، وتخصيص بوب ديلان ألبوماً مزدوجاً لغناء العديد من الأغنيات التي ليست من تأليفه، ويسمّيه دون سواه من ألبوماته التي كتب ولحن كلّ أغانيها: quot;Self Portrait - صورة شخصيةquot;، كما لم يضرّ إليوت أن يأخذ سطراً كاملاً لشكسبير: quot;آلات عزفٍ محطّمة، غنّت عليها الطيور الأثيرة ذات يومquot; ويجعله السطر الأخير من quot;سونيت 73quot; مضيفاً على الآلات صفة quot;عاريةquot;!، وغيرهم كثر. الأمر الذي يأتي من تأثّرهم بالعمل وإعجابهم به، إلى حدّ الرغبة في إعادة كتابته، أو عزفه، أو رسمه، بأساليبهم وأدواتهم الخاصّة والمختلفة. إنه نوع من التأكيد على خصوبة العمل وغناه، بسماحه إعادة إنتاجه في ظرف غير ظرفه، وبفلسفة غير فلسفته، نجحوا بمحاولاتهم أم فشلوا. النظرة التي آمل أن يُنظر بها إلى ما قمت به في هذه التجربة. كوني، كما شبّهني أحدهم، أشبه بدبّور يجني رحيق الأزهار ليصنع عسله، أو لأعود وأقول: منذر مصري يمتصّ روح القصائد ليكتب شعره، تأكيداً لشعوري وأنا أعيد تصفّحها من حين إلى آخر، بأنّها تتضمّن القصائد التي كنت أحلم بكتابتها، والقصائد التي لم أكن أحلم بكتابتها... ولأن هذا يصبُّ في شعر الآخرين أكثر من شعري، فها أنا أجد الحق في أن أقول إنها أفضل ما استطعت تقديمه خلال تجربتي الطويلة، وربّما أفضل شعر قرأته طوال حياتي.
لا أدري أي رغبة تدفعني إلى تقديم كلّ هذه التبريرات والتوضيحات، وكأنّي أقوم مسبقاً بالإجابة عن، بمصادرة، أي سؤال أو احتجاج يمكن لقارئ ما أن يُثيره، أثناء أو بعد قراءة المجموعة! هكذا أرجو أن تُفهم هذه المقدّمة المسهبة التي بدأتُ الكتاب بها، أنا الذي لا أكره في الكتب أكثر من مقدّماتها، أيّ نوع من الكتب، وأيّ نوع من المقدّمات، فما بالك بكتب الشعر!؟ حتّى أني أعترف لم أقرأ مقدمة quot;لنquot; لأنسي الحاج التي تعتبر أوّل بيان عربي لقصيدة النثر، إلا بعد سنوات من قراءتي قصائد الكتاب.
ولكن بما أني انتهجت هذا الطريق، فلا بدّ لي من أن أغذّ السير فيه وهو يضيق ويضيق حتى يصل إلى رأس الدبّوس، تلك النقطة التي يبدو أنها تختم كلّ شيء، وأنه لا شيء بعدها. وذلك على الرغم من معرفتي كم في هذا المنظور الهندسي البسيط من وهم. إلا أنه الوهم ذاته الذي دفعني عندما أعدت نشر quot;الشاي ليس بطيئاًquot; في موقعي على شبكة الإنترنت، أن أقدّم لكلّ قسم فيه، شارحاً وموضّحاً. فقد وقع في روعي، أن ما يتحدّثون عنه من هوّة بين الشعر الحديث والناس، يمكن ردمها بمحاولات من هذا النوع. أي بالمقدّمات والشروح وتبيان أسباب النزول، وما إلى ذلك!.
وهكذا لا أجد بدّاً الآن، وأنا أقدّم مبرّرات لتقديمي مبرّرات، وإيضاحات لتقديمي إيضاحات، من توضيح أمرٍ قد يراه البعض ليس بحاجة إلى توضيح، ولكنّي أظنّه لا يقلّ عن كلّ ما ذكرته التباساً وإشكالية، وهو تقسيمي، شبه القسري، قليل الدقّة، الكتاب إلى أقسام ذات عناوين وذات تصنيفات ومواضيع، كلّ منها يتضمّن عدداً من الشعراء يزيد وينقص، ينقص حتّى يقتصر على شاعر واحد، ويزيد حتى يبلغ الثمانية عشر شاعراً، منهم من لا ينطبق عليه عنوان القسم إلاّ بتساهل مفرط، وذلك لأني لم أجد له قسماً آخر أشدّ ملاءمة، ومنهم من له أكثر من قصيدة في قسم واحد، ومنهم أيضاً من يتكرّر اسمه في أكثر من قسم، وذلك لكونه، مثلاً، من quot;أخوتي في الرضاعةquot;، ومن quot;سُلالة الغزاةquot; في آنٍ واحد، أو من شعراء quot;استيفاءً لشروطِ الحديقةquot; وهو في إقامة دائمة في بيروت: quot;ولِدتَ في القامشلي وستموتُ في أمستردامquot;. وأجد أنه من البديهي القول، إني لم أختر شركائي من الشعراء وسواهم، أو أكتب هذه القصائد، وهي موزّعة في ذهني على هذا النحو، فالأمر، لا أكثر ولا أقلّ، من طريقة سبق وانتهجتها في كلّ مجموعاتي الشعرية، منذ quot;آمال شاقةquot; إلى quot;الشاي ليس بطيئاًquot;، عبّر عنها ياسر اسكيف في مقاله ذاك: quot;... فالمقطع في النصّ، والنصّ في القسم، والقسم في الكتاب، اتّخذت جميعها مواقع قدريةquot;. وكما للمجموعة برمّتها مقدّمة عامّة، لهذه الأقسام مقدّمات خاصّة، تطول وتقصر، تسهب وتلمّح، كنت قد كتبتها عندما نشرت بعضها في الصحف والمجلّات. أمّا التي لا مقدّمات لها، سوى بعض أسطر لا تفي بالغرض: quot;لا شيء يَمنعُ القططَ من المواءquot; وquot;استيفاءً لشروطِ الحديقةquot; وquot;إلصاقُ نتفِ صوَرٍ ممزَّقةquot;، فليس لسبب، سوى أني تركتها هكذا، ناقصة، كما المجموعة، كما الغلاف، كما كلّ شيء قمتُ به في حياتي.
أمّا بالنسبة إلى الشعر العربي، فأعتقد أنه بات، ومنذ عقدَين من السنين أو أكثر، من الركود إلى الحدّ الذي لا شيء يموج على صفحته، ولا شيء يغضّن جبينه.

وجدير بالذكر ان quot;دار الغاوونquot; بدأت مؤخراً الإعداد لإصدار الأعمال الشعرية الكاملة لمنذر مصري.

لزيارة موقع دار الغاوون
http://alghawoon.com/mag/books.php