محمد الحمامصي: تشكل تجربة الناقد والكاتب السينمائي أمير العمري تميزا مهما في الحقل السينمائي المصري والعربي، حيث تواصل عطاءها متابعة وتحليلا وتنظيرا دون انقطاع منذ عام 1973،جامعة في رؤيتها بين النقدين السينمائي والثقافي، فنشر مئات المقالات والدراسات والأعمدة والأبحاث والمراجعات النقدية في عدد كبير من الصحف والمجلات والدوريات العربية والأجنبية، وحاضر في عدد من الجامعات والمعاهد الفنية والمراكز الثقافية في القاهرة وطهران وروما ولندن.
خاض العمري حملة ضارية لسنوات ضد السياسات الثقافية في مصر في عهد الوزير فاروق حسني، وكشف الكثير عن التجاوزات التي تحدث في مجال العمل الثقافي والسينمائي المصري، وعرف بكتاباته المثيرة للجدل التي تطرح قضايا يحجم الكثيرون عن التطرق إليها مثل قضية التطبيع في الثقافة عموما، وفي السينما بوجه خاص، من زاوية عقلانية.
وللعمري أيضا تجربة عمل في عدد من محطات التلفزيون العربية في الأخبار، وأنتج مئات النشرات الاخبارية ومئات التقارير والتقارير الوثائقية والتحقيقات التلفزيونية والإذاعية.
عضو لجان التحكيم الدولية في عدد من المهرجانات السينمائية في مصر، والعالم العربي وأوروبا، منها مهرجان أوبرهاوزن السينمائي للأفلام التسجيلية والقصيرة (ألمانيا)، ومهرجان طهران للأفلام القصيرة (ايران) ومهرجان لوكارنو السينما (سويسرا)، ومهرجان تطوان السينمائي (المغرب)، ومهرجان كان السينمائي (اللجنة الدولية للنقاد).
وترأس جمعية نقاد السينما المصريين في الفترة من 2001 إلى 2003، تحرير مجلة السينما الجديدة في الفترة من 2002 إلى 2003، مدير مهرجان الاسماعيلية للأفلام القصيرة والتسجيلية 2001
صدر للعمري 12 كتابا في النقد السينمائي وغيره منها quot;سينما الهلاك: اتجاهات وأشكال السينما الصهيونيةquot;، quot;اتجاهات جديدة في السينماquot;، وquot;هموم السينما العربيةquot;، وquot;السينما الصينية الجديدةquot;، quot;سينما الرؤية الذاتيةquot;، quot;حياة في السينماquot;، quot;اتجاهات في السينما العربيةquot;، quot;شخصيات وأحداث من عصر السينماquot;، كما ترجم كتاب quot;سينما أوليفر ستونquot; لنورمان كيجان.
وفي هذا الحوار مع العمري نتعرف إلى رؤيته للعديد من القضايا الحيوية والمهمة في السينما العربية الآن.

** بم تفسر الصعود المتميز للسينما العراقية واللبنانية والتركية والإيرانية والتونسية فيما تتراجع أو على أقصى تقدير تقف محلك مثل مصر وسوريا؟
** أوافق على وجود سينما، بمعنى حركة إنتاج سينمائي وسوق وآلية للتوزيع والعرض والتسويق في كل من تركيا وإيران، وان كانت السينما الإيرانية تخضع لقوالب نمطية خاصة جدا بسبب فرض رقابة مشددة عليها من قبل النظام السياسي الحاكم الذي لا يسمح بتعدد الاتجاهات والتيارات الموجودة في كل السينمات quot;الطبيعيةquot; في العالم بل يفرض نمطا أخلاقيا ورمزيا واحدا على معظم الأفلام وان كان الكثير من السينمائيين الإيرانيين يسعون دائما للالتفاف حول هذا القيد. لكني أختلف معك في وجود سينما في العراق وتونس ولبنان، ففي هذه البلدان تنتج بعض الأفلام طبقا لمبادرات فردية خاصة تعتمد أساسا على التمويل الخارجي وعلى الشكل المغامر في الإنتاج وهو ما قد يمنح بعض هذه الأفلام نوعا من الجرأة والتحرر في طرق المعالجة لكن تغيب تماما أوليات قيام صناعة سينمائية أو حركة إنتاج سينمائي متواصلة وسوق حقيقية للتوزيع والعرض في هذه البلدان.

** أيضا يلاحظ أن أغلب الأعمال المتميزة الآن عربيا يعيش مخرجوها في أوروبا هل من علاقة بين ذلك وتميز رؤية هؤلاء المخرجين مثال ذلك إيليا سليمان المخرج الفلسطيني ومحمد الدراجي العراقي وغيرهم؟
** نعم هذه ظاهرة سببها الأساسي غياب سوق حقيقية تكفل ان يسترد الفيلم المنتج محليا معظم تكاليفه من العرض في الداخل واعتماده بالتالي على الدعم الخارجي الذي يأتي من بعض الجهات كنوع من التشجيع، أو الترحيب بعرض نماذج (إثنية) من الافلام ربما تساهم في زيادة وعي الأقليات العربية في الدول الأوروبية مثل هولندا وفرنسا وبلجيكا وايطاليا بالفنون، ووعي المواطن الأوروبي بمشاكل هذه الأقليات، أو كنوع من تلبية متطلبات قنوات تلفزيونية تساهم في الإنتاج لعرضها على جمهور الدول الأوروبية المتعددة الثقافات أي التي يتكون جمهورها من شرائح اثنية متعددة.
هذا الدعم أو التمويل الخارجي لاشك أنه يتيح مساحة أكبر أمام السينمائي للتعبير الحر عن رؤيته مهما بلغت من جموح أو طموح نتيجة تخلصه من قيود السوق العربية الضيقة بطبيعتها والتي تخضع للكثير من القيود الرقابية المباشرة من جانب الدولة المهيمنة القمعية، أو من جانب فئات اجتماعية عديدة متزمتة تفرض رقابتها الخاصة على الفنون وتعادي الإبداع الفني الذي يخرج عن نطاق الدعوة الى quot;الأخلاق الحميدةquot; وما إلى ذلك.

** هل تعتقد أن التمويل وحده قادر على صناعة سينما متميزة حيث أرى أن جل المخرجين والممثلين والنقاد أحيانا يرجعون أمر تردي أوضاع صناعة السينما العربية إلى التمويل؟
** التمويل يتيح إمكانية أفضل أمام السينمائي صاحب الرؤية الطموح بلا شك لتجسيد طموحاته، لكنه ليس العامل الوحيد لظهور فيلم جيد، فالأصل والأساس ان يتمتع السينمائي أصلا بالموهبة الراسخة التي لاشك فيها. وقد سبق ان حصل مخرجون على الكثير من الدعم (الداخلي وليس الخارجي من جانب الدولة كما حدث لفيلم quot;المسافرquot; مثلا) ولكن دون أن يؤدي هذا الدعم الكبير بالضرورة الى ظهور فيلم جيد. إذن التمويل مهم لضمان استمرار الإنتاج وبروز المواهب لكنه لن يصنع سينما متقدمة من دون توفر المواهب أصلا.

** وما قولك في قضية التمويل الأجنبي للأفلام العربية وتأثير ذلك على الرؤية الموضوعية والإخراجية للأفلام ولا أريد ضرب أمثلة فالأفلام الممولة أجنبيا كثيرة جدا؟
** التمويل الأجنبي لا يمكن أن يؤثرفي الرؤية الخاصة للسينمائي العربي أو يفرضها فرضا عليه الا إذا كان لدى هذا السينمائي أصلا هذه الرغبة في quot;التنازلquot; وتقديم الصور الفولكلورية النمطية أو القوالب الاجتماعية التي تدور في مسارات معنية، لإرضاء جهات التمويل الأوروبي، أو إبهارها. وهذا يحدث كثيرا بكل أسف. لكن الملاحظ مثلا أن السينمائيين الراسخين الذين يحصلون على تمويل أجنبي أو أوروبي لافلامهم لا يكونون مضطرين لتقديم مثل هذه التنازلات. وأمامنا الكثير من النماذج في الشرق وفي الغرب، من أميركا اللاتينية وروسيا والفليبين والصين واليابان، بل ولا أظن أن يوسف شاهين مثلا كان يقدم تنازلات محسوبة مسبقة للحصول على التمويل الفرنسي، فهل انقد الاجتماعي الحاد في فيلم مثل quot;هي فوضىquot; مثلا كان لفائدة الممول أم لفائدة المجتمع المصري نفسه!
ولكن دعني أيضا أقول لك إن من الطبيعي أن يلجأ السينمائي العاجز عن التعبير عن رؤيته الفكرية والسياسية والنقدية في السينما الى البحث عن تمويل خارجي لأنه لن يحصل عليه من الداخل، من جانب أطراف تخضع خضوعا تاما للسلطة السياسية والثقافية، تماما مثل الكاتب الذي يلجأ للنشر في الخارج بسبب عجزه عن نشر كتاباته في الداخل. إن أساس القضية سياسي كما ترى، وهو ليس قاصرا على العالم العربي بل يشمل الجميع.

** وكيف ترى مسؤولية الدول في دعم ومساندة صناعة السينما في مصر؟
** على الدولة أن تقدم الدعم لصناعة السينما عموما عن طريق تحرير الصناعة من الضرائب الباهظة ودعم الفيلم الخام وتسهيل استيراده مع خفض الضرائب عليه وعلى كل الأجهزة والمعدات التي تستخدم في صناعة السينما، كما يتعين عليها أن تدعم إنتاج الأفلام المتميزة فنيا بغض النظر عن رؤيتها السياسية فلا تشترط ان تكون معبرة مثلا عن سياسة الحزب الحاكم أو نظرة السلطة تجاه القضايا المختلفة بل يجب أن يكون المعيار الوحيد هو الطموح والمستوى الفني، فالسينما النقدية العميقة هي التي تصنع قيمة للبلد في الخارج أما السينما الأخرى، المهادنة، الخاضعة للمنظومة الفكرية السائدة، فلا تقابل في الخارج سوى بكل ازدراء وإعراض مهما بلغت تكاليف دعمها. ومقياس النجاح العالمي هو الصدق والإخلاص في الطرح وأيضا القدرة على رؤية العيوب الاجتماعية في الواقع وتجسيدها، تماما كما في الأدب الرفيع من أميركا اللاتينية مثلا. لقد كان هذا دائما أدب رفض وليس مهادنة، وكذلك السينما.
لكن المشكلة التي تتعلق بدور الدولة في دعم السينما تتلخص في رأيي بكل صراحة، في استعانة الدولة أو تفضيلها الاستعانة بمن يمكن تسميتهم بـquot;فقهاء السينما الكاذبينquot;. هؤلاء عبارة عن مجموعة شبه ثابتة من الأسماء، قد تضم مثقفين أو من كانوا في حكم ذلك وأصبحوا من المنتفعين الانتهازيين الذين يخدمون مصالح جهات معينة إنتاجية، وبالتالي تخضع أحكامهم في اختيار منح الدعم لفيلم ما، لاعتبارات المصالح والمنافع، وهو جزء من منظومة الفساد الكبرى التي كانت ولا تزال سائدة ولم يتم القضاء عليها بعد. والدليل على كلامي هذا وعلى أن هذه المنظومة مستمرة أن وزير الثقافة المصري الجديد عماد أبو غازي، لا يزال يرفض الاستعانة سوى بالأسماء والعناصر نفسها من القديمة التي نهبت النشاط السينمائي الثقافي على الأقل وصادرته لحسابها عبر عقود، في حين أن الوزير نفسه لا يكف عن التصريح بضرورة تولي الشباب المسؤولية. والمضحك مثلا أنه يعين لجنة من حوالي عشرين اسما لإدارة quot;المركز القومي للترجمةquot; هذه اللجنة تضم ناقدا سينمائيا لا يعرف أيا من اللغات الأجنبية، فكيف سيحكم على الكتب المقترحة للترجمة.. أليست هذه مهزلة لها علاقة بالمجاملات والموروث الفاسد. وربما يكون هذا التخبط ناتجا من أن الثوار المصريين لم يصلوا للسلطة بل هناك من يحكم بدعوى الوكالة عنهم مثل أبو غازي نفسه إذ عرف بارتباطه الوثيق بالدولاب الثقافي المصري التقليدي القديم في عهد quot;وزير الحظيرةquot; فاروق حسني!

** يرى البعض أن السينما الاستهلاكية في مصر ممثلة في سينما هنيدي وسعد وحلمي وغيرهم من الشباب الذين ظهروا خلال السنوات العشر الأخيرة أزاحت السينما الجادة تلك التي تحمل مضمونا أو رسالة في إطار معالجة فنية، وأن الذوق العام انساق وراء الاستهلاك وأن أي محاولات جادة سيكون مصيرها الفشل جماهيريا .. هل هذا صحيح؟
** لاشك أن السينما الاستهلاكية التي تشير اليها أزاحت السينما الأخرى الجادة، أو الفنية ذات الطموح، والسبب يعود إلى رغبة قطاعات كبيرة من المجتمع خلال السنوات العشرين الأخيرة، في الفرجة على سينما هروبية، تدغدغ الحواس، أي أقرب إلى عروض التهريج والتسلية والحركات المقززة، وهذا بحكم عدم الشعور بالأمان الاجتماعي، والإحباط الذي تولد في مجتمع الفساد، وعدم رؤية أي تغيير قادم. والمأمول فيه أن تتضاءل هذه السينما في المرحلة الحالية بعد ان يشهد المجتمع تقدما حقيقيا وليس مجرد تسيير الأعمال كيفما اتفق. ان السينما الاستهلاكية ظاهرة اجتماعية وليست نتاجا فنيا. إنها مبتدعة للترويج لصور نمطية ساذجة ومضحكة وقيم منحطة، تدعي النقد الاجتماعي فيما هي في الحقيقة، تنافق الحاكم. ولعل في فيلم مثل quot;طباخ الريس: نموذج لما أقوله. إنها تذكرني بما كان يطلق عليه في ايطاليا قبل الحرب العالمية الثانية quot;سينما التليفونات البيضاءquot; والتي سقطت بعد التغير الاجتماعي الكبير وظهرت محلها السينما الواقعية الجديدة.

** وسط كل هذا ألا ترى أن هناك غيابا للدولة في دعم صناعة السينما وأنها الآن تكتفي بدعم المسلسلات والتوك شو وغير ذلك مما لا يصنع دورا ولا ثقافة ولا حضورا لمصر؟
** كما سبق أن قلت الدعم يجب أن يكون غير مباشر، أي ندعم الأفلام الفنية والمهرجانات التي يجب أن تعتمد على جمعيات ثقافية وجمع السيناريوهات المتميزة، وليس الإنتاج المباشر.. أنا أحذر من دخول الحكومة (وأؤكد على كلمة الحكومة) مجال الإنتاج المباشر لأنني أرفض أن يصبح الرقيب هو المنتج السينمائي. وقد قلت هذا قبل 31 عاما عندما كان الكثيرون (ممن غيروا موقفهم اليوم) يدافعون بشدة عما أسموه quot;القطاع العامquot; في السينما. والسبب يعود الى أن الحكومات تتغير أو ستتغير في النظام الديمقراطي الجديد، كما أن السلطة تتغير (كما تغيرت بالفعل من زمن عبد الناصر إلى السادات الى مبارك) وتتغير معها توجهاتها وما يدعونه quot;الثوابتquot;، ويتغير بالتالي ما تطلبه الدولة من السينما. فمن يملك المال يملك التدخل المباشر، لكن النموذج الناضج للدعم أن نقدم المال بناء على القيمة الفنية فقط وليس الولاء الأيديولوجي. لكني أحذر فقط من مجموعة quot;عواجيز الفرحquot; من نقاد وأشباه مثقفين ينتقلون بين كل اللجان عبر عشرات السنين، ويحكمون مصالحهم ومصالح جيوبهم الشخصية. وربما كان الأفضل ان نستعين في المرحلة الحالية بخبراء أجانب من اليابان وفرنسا مثلا.. وهذا رأي يعكس عدم ثقتي بالكامل في المنظومة الحالية الفاسدة من المثقفاتية!
إن حضور الثقافة المصرية سيتكفل بصنعه مناخ الحرية الجديد وإتاحة الفرصة لأجيال جديدة من الشباب للتعبير الحر عن نفسها، لكن يجب أولا رفع وصاية quot;عواجيز الفرحquot; وجمعية الفاشلين والعصابات التي تحكم قبضتها على مهرجانات السينما، وهم يعرفون أنفسهم، كما أنك أيضا تعرفهم.. أليس كذلك!

** البعض يتحدث عن سينما مستقلة والتي تعمل بعيدا عن لغة السوق، ما رأيك في مسألة السينما المستقلة؟ وما رأيك في المعالجات التي طرحت قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، والحرب الأهلية والنزاعات سواء كانت هذه المعالجات من خلال أفلام عربية أو أجنبية وغيرها؟
** هذه قضية طويلة، ولكني أكتفي بالقول إن هناك عددا محدودا من الأفلام الجيدة التي تناولت القضية في الغرب أقصد في إطار السينما الشعبية وليست quot;النخبويةquot;، ولكن في الوقت نفسه هناك العديد من الأفلام التسجيلية والروائية التي صنعت في ألمانيا والدنمارك وفرنسا وهولندا بل وأميركا نفسها، وكانت شديدة الموضوعية والإخلاص للتاريخ. لكن هذه الأفلام لا تلقى اهتماما منا لأنها لا تعتمد على النجوم الكبار، ولا على الدعاية وشركات التوزيع العالمية الكبرى الأميركية أساسا، الصهيونية بشكل خاص.
اما على مستوى السينما العربية فلا يزال الخطاب التعبوي المباشر الذي يتعامل مع الفيلم السينمائي كما لو كان منشورا دعائيا، هو السائد، بحكم تهافت الخطاب العربي الإعلامي والسياسي نفسه، وخضوع الكثير من المثقفين لهذا الخطاب. ولكني متفائل بالتجارب الجديدة التي يصنعها سينمائيون فلسطينيون. إن السينمائيين الفلسطينيين هم الأقدر على صنع سينما جديدة، مثل الأدب الجديد، تعبر عن روح الصراع، وعن وجودهم في الصراع، وليس عن صورة الصراع من الخارج.