محمد الحمامصي من القاهرة: تجربة ثرية تلك التي يمتلكها الكاتب أشرف أبو اليزيد، فهو شاعر وروائي وأدب الرحلات، ناقد تشكيلي وصحفي، قدم في كل مجال من هذه المجالات أعمالا تميزت بخصوصيتها موضوعا وأسلوبا ورؤية، حيث بدأ شاعرا فقدم quot;وشوشة البحرquot;، quot;الأصدافquot;، ذاكرة الصمت، فوق صراط الموت، ذاكرة الفراشات، ثم كانت الرواية حيث قدم quot;شماوسquot; وأخيرا quot;حديقة خلفيةquot; وquot;31quot; اللتان صدرتا في توقيت متزامن، الأولى quot;حديقة خلفيةquot; تقدم صورة المشهد الأخير في حياة أحد شخصيات ثورة يوليو 1952، وتشكل مراجعة لتاريخ علاقة مصر والعرب في عقود ما بعد الثورة، والثانية quot;31quot; تصنع عالما صادما يعيد اكتشاف بنية المجتمع العربي من خلال القلق الخلاق لشخصية تبحث عن خلاصها في مغامرة مثيرة
وقدم أبو اليزيد أكثر من 60 استطلاعا في أدب الرحلة جمع بعضها في كتابه quot;سيرة مسافرquot;، وعنايته بأدب السيرة الذاتية دفعه إلى تحقق مذكرات الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابين، quot;مذكرات مسافرquot;، وquot;الشيخ مصطفى عبد الرازق مسافرا ومقيماquot;، كما أرخ لمجلة quot;عبث الشبابquot; لبيرم التونسي، وهي الجريدة التي أصدرها في تونس قبل 75 عامًا، وله ترجمة لسيرة سلفادور دالي quot;أنا والسورياليةquot;.
في النقد التشكيلي يأتي كتابه quot;سيرة اللون ـ تجارب تشكيلية معاصرةquot; الذي جمع فيه مقالاته حول كبار الفنانين التشكيلين عربيا وعالميا، كما أخرج فنيا ورسم للعشرات من الصحف والكتب.
وفي مجال أدب الأطفال قدم quot;حكاية فنان عمره خمسة آلاف عامquot;، وديوانا شعريا quot;أطفال العربquot;، وكتابي quot;رحالة العربquot;، وquot;ساعي بريد تحت الماءquot;، كما ترجم للأطفال quot;حكايات كورية)، quot;حكاية شورالي للشاعر التتري عبد الله طوقايquot;.
في هذا الحوار مع أبواليزيد نتعرف على رؤيته فيما يخص روايتيه الأخيرتين وأيضا ما يتعلق بالأوضاع في مصر على مستوى الثقافة والإبداع.

** quot;حديقة خلفية quot; وquot;31quot; عنوان الروايتين اللتين صدرتا لك منذ أيام قليلة ما الأسباب والدوافع في توقيت نشرهما؟
** قبل نحو 4 سنوات صدرت روايتي الأولى (شماوس)، التي كان بطلها فنانا تشكيليا يعود من رحلة عمل في دولة خليجية ليجد مصر بوجهها الذي لم يعرفه، وكانت النتيجة صداما خاسرا مع الشرطة انتهى بثورة أهل شماوس ـ وهي بقعة جغرافية متخيلة على تخوم القاهرة ـ ضد رموز الشرطة التي جسدها لواء متقاعد وابنه الضابط، اللذين سلبا حقوقا ليست لهم، وروعا شخوص الرواية، لتشتعل النار ـ أخيراـ في من أضرموا نيران الظلم بنا طوال عقود.
ذلك المشهد الروائي أحببت أن أضيئه في رواية ثانية تبحث في الأسباب، ولا أقول تقدم علاجا، فليس هذا دور الأدب، وإنما يمكن أن يكون دافعا للتفكير، فكانت رواية (حديقة خلفية) التي تقدم ـ بصورة موازية ـ المشهد الأخير لأحد شخصيات ثورة يوليو 1952، الذي يغيب عن المشهد، وحين يعود ليلة احتفال بالثورة التي رتب لتكون ليلة عقد قران ابنة أخته على شاب كادح، تحدث المفاجأة المؤسية. هذه الرواية التي كتبت قبل 3 سنوات، تأجل نشرها لأسباب عدة، كتبت أثناءها رواية ثالثة هي (31) وحين قررت النشر وجدت أن أضع الروايتين معا أمام القراء والنقاد، لأنني أردت أن أتحرر منهما، كي أكمل مشروعي الروائي، خاصة وأنني متفائل بشأن المناخ الحالي الذي يقدم فسحة حرية وهواء جديدا، ربما هذا ما يجعلنا نعيد قراءتنا لذواتنا على نحو صحيح، وأن نتأمل علاقتنا بالآخر العربي والغربي، مثلما نقرأ مجدد تجارب مماثلة ومجايلة لعقود مصر بعد الثورة، لكنها كانت أنجح من تجربتنا التي تم إجهاذ أجنة نجاحها على مدى عقود طويلة، وخصوصا في الثلاثين عاما الأخيرة.

** ألم تخش تأثير سلبيا لكل منهما على الأخرى؟ وهل من ظروف خاصة بكتابتهما وموضوعهما ومنشأ فكرتهما؟
** لا أعتقد أن هناك تأثيرا سلبيا يمكن أن يقدمه صدور الروايتين معا، إنهما روايتان منفصلتان تماما، لا يجمع بينهما سوى الناشر والقطع والمؤلف، ولكن الموضوع الملح هو تلك الرحلة إلى الخليج طلبا للعمل التي خبرها ملايين المصريين على مدى أكثر من نصف القرن.
في (شماوس) تقرأ رحلة العودة، وفي (حديقة خلفية) ومن خلال أربعة فصول؛ هي quot;خريف الغيابquot;، وquot;شتاء العشقquot;، وquot;ربيع السفرquot;، وquot;صيف العودةquot;، تقرأ المراوحة بين مصر والخليج، أما (31) فتدور أحداثها بالكامل في مدينة خليجية، وهي رواية عن التنصت والتجسس، ولعل فضيحة التنصت الإعلامي لمردوخ مؤخرا تضيء أهمية التناول لهذا الموضوع الذي بتنا جميعا ضحاياه. ربما يصبح كل منا (زيوس) الذي يقودُ العالم، ويقرأ الرَّغبات ليسيطر عليها، ويوزِّعُ اللعنات على من عاداه، ويبدّل مصائر الدنيا من خلال مراقبته لقاطنيها. لكن زيوس الذي يراقب العالم، سيجد نفسه ـ أيضا ـ مراقبا تحت مجهر الآخر، في رواية (31)، وهي تبدأ بالفصل الحادي والثلاثين، ويبدأ العد التنازلي وصولا إلى فصلها الأخير، رقم 1، أي أنها بمثابة سرد مواز للأيام الباقية في حياة بطلها. القراءة الأولية قدمت لي انطباعات إنها رواية مخيفة لأنها تعتمد في بنيتها على الغزل الهاديء لمجموعة من الوثائق، بين رسائل وأوراق خاصة، لتصنع عالما صادما يعيد اكتشاف بنية المجتمع العربي. لكن أليست هذه حياتنا. نحن مجرد أرقام، ووثائق.

** كيف كانت تجربة التحول من الشعر إلى الرواية وتأثير كل تجربة على الأخرى وموقفك الآن من كلا التجربتين، خاصة أنك بدأت شاعرا؟
** لم أترك الشعر أبدا، ولا يستطيع الشاعر أن يترك الشعر، بل ربما يهجره الشعر أو يخاصمه، ولكنه سيظل مدينا لوهج روح القصيدة حين يكتبها ويقرأها. صحيح أنني لم أصدر ديوانا خلال الفترة التي تزامنت مع صدور الروايات الثلاثة، لكن في هذه الفترة كنت أعد أربعة إصدارات عن قصائدي بلغات أخرى، صدر أولها العام الماضي باللغة الإسبانية عن جامعة كوستاريكا وبيت الشعر في العاصمة سان خوسيه، ويصدر ثانيها خلال شهر باللغة التركية متزامنا مع معرض الكتاب في استانبول لهذا العام، وترجمت ثلاثة دواوين أخرى إلى اللغة الفارسية تصدر في طهران عن دار نشر أفراز، وأخير ترجمة روسية تصدر العام المقبل. وقد وجدت هذا الإعداد للأنطولوجيات المترجمة فرصة لمراجعة الذات حول مشروعي الشعري، ولكن لا ينفي هذا أنني كتبت قصائد متفرقات نشرت مطبوعة أو رقمية في دوريات أو مواقع على الإنترنت.
أبوح لك بسر، أنني مدينة لأسلوب حياتي بما أكتب، فالولع بالسفر والبحث عن الوثائق واليوميات والقراءة في أدب الرحلة والإهتمام بالفنون عمارة وتشكيلا، كل ذلك معا جعل من الصعب أن أقدم كل ما أريد التعبير عنه في قالب الشعر. لهذا ستجد أنني قدمت في ما أنشره صورة موازية لما أفعله، مثلما كانت موضوعات رواياتي تدور حول المصريين في عوالم مدن الخليج العربية، لأنني أعرف ذلك أكثر من أي شيء.

** ربما تكون رؤيتك حول ما يجري عربيا وخاصة في مصر مختلفة بحكم أسفارك المتعددة وتأثيرها على نظرتك .. كيف ترى لما يحدث في مصر؟
** ليست مبالغة إذا قلت لك أننا نعيش مرحلة غير مسبوقة في التاريخ العربي. إن مصر تتحول من القبيلة إلى الدولة، أو هكذا يجب أن تكون، لأننا منذ وعينا لا نقرأ سوى مشروع قبلي تحت مسميات عديدة. القبيلة التي تحكم ـ سواء كانت سلطنة أو إمارة أو مملكة أو جمهورية ـ هي التي أضرت بقيم الديمقراطية. القبلية ترفض محاسبة المسئول، لأن المحاسبة الحقة يجب أن تطال الجميع، وبما أن الجميع مخطئون ـ بدرجة أو أخرى ـ ترفض القبيلة مبدأ المحاسبة، والشفافية. لا أقصد هنا القبيلة بالمعنى القاموسي و الأنثروبولوجي، ولكنني أعنيها بالمفهوم السوسيولوجي، وهو السياق الذي تتم به إدارة البلاد. الشعب يريد إقامة مؤسسة، الشعب يريد إقامة دولة حقيقية، وليس تمكين عائلة بالدم أو المصاهرة أو المصالح من الحكم. عائلة النظام السابق ليست هي الحفنة التي نعرفها ونراها وراء القضبان، وإنما عائلته هي من رضي بإقامة نظام القبيلة في دولة عريقة، حتى في مؤسسة ثقافية أو تشكيلية أو اقتصادية. من أجل هذا وجدت بعض (الأطراف) لا تريد نقض النظام القبلي في مصر لأنه يعني ـ بالضرورة ـ نقضا لوجود وحقيقة هذه الأطراف.

** وماذا عن رؤيتك للحركة الثقافية؟
** لا أريد أن أنتقد ما يدور في مصر على صعيد الحراك الثقافي، فأي رأي سينظر إليه كأنه سعي نحو كعكة ما. والحقيقة إنني لست عضوا في أي كيان ثقافي، ولم أسع أن أكون ضمن (لجنة) ما أو (اتحاد) بعينه، وهذا ربما يعطيني بعض الحق لكي أقول إن السياق الثقافي بمصر تحكمه علاقات فاسدة مفسدة. أذكر لك مثالا، عن الناشر الخاص الذي يأخذ مقابل نشر الروايات، ولا تحكمه مواثيق شرف أو بروتوكول ناشرين، أو عقود مؤلفين، هذه جريمة، نرى ضمن آثارها السلبية سعي كثير من المؤلفين لكي يكونوا اصحاب دور نشر، وهي ظاهرة تستحق الدراسة، فضلا عن انتقال هذا الوباء إلى دور نشر عريقة مثل روايات الهلال، فالسلسلة تنشر مقابل مال، ومن يدفع أكثر تنشر رواياته على نحو متواتر! هذا المنطق المغلوط ضرب صميم الإبداع. حتى تلك السلسلة التي شابها الكثير من الانتخاب المشبوه، فترى في مكتبة الأسرة الأولوية للصحافيين، لإدخالهم حظيرة الولاء. كلما تأملت الحركة الثقافية شعرت بأن الفساد ولد بها أولا، لأن من يفترض بهم أن يكونوا ضمير الشعب أصبحوا يتآمرون عليه. لذلك العبء كبير على من يتولى مسئولية ثقافية، لأن عليه أن يهدم الكثير ليبدأ البناء الحقيقي.

** وماذا عن الحركة الشعرية؟
** التجربة الشعرية بمصر تمر بمخاض كبير، الأصوات الأعلى جعجعة تفرد لها مساحات مصورة، وشاشات، ومهرجانات، ولكنها ليست بالضرورة هي الأصوات الأجدر بأن تعبر عن المشهد الناضج للتجربة الشعرية المتحققة بمصر. هناك اختناقات في حلوق أصحاب التجارب الحقيقية من فساد المشهد الشعري، فضلا عن انحسار المساحة المتاحة للشعر. هل أقول إن على الأهرام أن تقدم في صفحتها الأولى يوميا قصيدة لشاعر مصري، فتكون لدينا على مدى عام أنطولوجيا لـ365 من شاعرات وشعراء مصر، تمثل ديوان الحياة الشعرية؟ ربما هذا يكون بمثابة حرب ضد اللغة الهزيلة والركيكة والعامية التي غزت الصحافة بشراسة. في برنامجي التلفزيوني (الآخر) الذي ألتقي فيه بنخب ثقافية من بلدان العالم، جربت أن أقدم مقطعا مصورا للشاعر أمل دنقل، لحنه الموسيقار شريف محيي الدين وغنته الأوبرالية نيفين علوبة، ووجد (كليب الشعر) المصور صدى طيبا، إن هناك رغبة حقيقية في رؤية الجيد والجديد، فهل يقدم التلفزيون المصري على تنفيذ (كليبات) للشعراء المعاصرين يكون بمثابة وثيقة حية على روح الشعر الذي لا يموت؟

** تتواصل مع الثورة المصرية، والحركة الثقافية وغير ذلك من شئون، ما تأثير الغربة؟
** قد أكون موفقا لأنني رغم التواجد الجسدي خارج مصر، أجد نفسي في صميم الحركة الثقافية المصرية والعربية، فإدارة تحرير مجلة مثل (العربي) يعني اتصالك بمعظم رموز الإبداع، ومختلف أجياله، في الوطن العربي والمهجر. كما أن تجربة السفر إلى أكثر من 30 بلد قدمت لي الكثير، لذلك لا أحب أن أردد مقولات مكرورة إكليشيهية ومفتعلة حول الغربة، أنا غريب بجسدي، لكنني حاضر في وطني مصر. الرحلة التي أكتبها ضمن استطلاعات (العربي) يقرأها مليون قاريء، لذلك تجدني أحاول أن تكون تلك الكتابات صوتي الخاص، فهي مرآة اهتمامي بالشعر والمحكي الشعبي والفن والعمارة والإنسان في كل مكان. الغربة كانت ملموسة حينما كنت مقيدا جغرافيا، وهذا ما ظهر في ديوانيَّ (ذاكرة الصمت)، و(فوق صراط الموت)، ولكن اتساع الجغرافيا جعل الكون بلدا لي، عائلتي الصغيرة معي، وعائلتي الأكبر في بلدان العالم.
حين قامت ثورة 25 يناير جاءتني من أصدقائي حول العالم رسائل كثيرة، بعضهم كان يعتقد صدق الصورة التي روجها الإعلام البائد الزائف؛ أن الثورة مجرد قلاقل تهدد مصالح البلاد وأمنها، وخاصة في مخيلة الأصدقاء الروس، ولكن الكثير من الحوار جعل الجميع يندد بما حدث، وأصدر اتحاد صحفيي آسيا في كوريا بيانا دعا الرئيس المخلوع للتنحي، مثلما جاءت رسائل دعم مماثلة من مؤسسات وأفراد في كوستاريكا والهند وتتارستان وغيرها، وفرحت لأنني كنت سفيرا لثورة مصر إلى هذه العيون التي تنظر لمصر نظرة ملؤها الإكبار.