تهاني فجر: لكل لغة اشتغالها الدلالي الخاص، الذي يخرجها من أطرها المعجمية إلى آفاقها التشكيلية، ولكل شاعر معجمه وصوره الخاصة التي تحدد شعرية اللغة لديه, والشاعر العراقي الكردي طيب جبّار أكثر الشعراء اشتغالاً على صورته الشعرية، بل إن ثمة انزياحات لغوية تميز جمله وصوره الشعرية حتى ليبدو أن له معجما خاصا يستقي منه كل تلك الصور الشعرية المركبة والمبتكرة والتي بدت واضحة في مجموعته الشعرية الجديدة quot;قصائد تلتفت إلى الأمامquot; الصادرة حديثاً عن دار الغاوون في بيروت، وهي الثانية بعد quot;ذات زمان الظلام كان أبيضَquot;.
ورغم الفضاء السيميائي لنص جبّار الشعري الذي لا يحصر النص بمهمة معينة بل يأخذه ليمثل انزياحاً عمّا هو سائد من معيار لأغلب النصوص الشعرية أو التجارب الشعرية المباشرة، إلا أنه ينشغل بشكل ملفت بالصورة الشعرية التي تأخذ أحياناً من متعته ولذته فتبدو مفتعلة في بعض الأماكن, لكنها في كثير من النصوص تأخذ دور المنتجة للفكرة, وحقيقة أن الصورة الشعرية المنتجة للفكرة هي أبرز ما يمكن نلاحظه في هذا الكتاب, فكل صورة شعرية تحمل فكرة, لذلك تتنوع وتكثر الأفكار وتندمج الذات في فضاء النص وتتحد مع الذات اللغوية.
quot;لو كنت أعرف/ في هذا الربيع/ أن ملحمة الاخضرار لا تكتب/ لأمرت بحل/ المجلس الأعلى لأمطار
لو كنت أعرف/ في هذا الصيف/ أن مساحة الحرارة لا تقاس/ لأحلت مدير أشعة الشمس/ على القضاء...quot;.
ثمة عبث لغوي يمارسه جبار في quot;قصائد تلتفت إلى الأمامquot;, عبث يعتمد على المفارقة التي تعتبر أحد مرتكزات قصيدة النثر, والشاعر هنا يتقن بمهارة ذلك العبث ويقبض في كثير من صوره على تلك المفارقة بل إنه يعمل وفق نظام تركيبي يعيد تشكيل صور شعرية مبتكرة تجعل القارئ يرى الأشياء المألوفة بطريقة جديدة ومختلفة تماماً عن أي سابق مرّ به, أيضاً يعمل على كثافة التعبير التي تبرز في تكثيف الدلالة المعنوية للصورة.
quot;هل تستطيع/ أن تخيط وترقّع/ الغيوم القديمة/ علّ المطر/ يغيّر أسلوب هطوله/ قل لي بصراحة/ هل تستطيع/ وبموجب شريعتنا/ أن تجاهد لتكثير محصول العقم/ ماذا تستطيع أن تفعل؟...quot;.
إن قارئ طيب جبّار لن يبحث عن المعنى أو الفكرة بالقدر الذي سيستمتع بالصور المبتكرة ذات الإيقاع الحداثي الغير مألوف، صورة غريبة التركيب لها كثافة تحيلها إلى وميض فنستطيع أن نطلق على قصائده قصائد الومضة لما لها من جمل قصيرة وكثيفة إلى جانب أنها صور غير مستهلكة لا تستسلم إلى المسلمات الشعرية التقليدية ومن تلك الصور: رز القهقهة ndash; مرق العويل- صلاة النميمة- إلقاء القبض على عدم القدرة- اختطاف الخسارة- الاستيلاء على العجز- نصب الكمائن للانفلات- إطلاق سراح الراحة- أتذوق طعم صوت الباب- مترين من الإصغاء- حفنتين من النظرات- ملعقتين من الشم- الغيمة المقعّرة- متحف الوقت- أصفر نحيل- اسود مقوّس- رماديّ عريض وغيرها الكثير... فالكتاب يرفلُ بالصور الغرائبية بدءاً من أول نص حتى آخر نص, متجنباً الصور المتداولة والمتعارف عليها منحازاً إلى الدهشة بكل أشكالها, صانعاً معجماً quot;جبّاراًquot; من المجاز والرمز البعيد عن الكلاسيكية التقليدية.
quot;قصائد تلتفت إلى الأمامquot; هو استكمال لمشروع شعري له تقنياته الخاصة التي تتنامى وتزدهر في معجم الشاعر وتجربته الخاصة.