&
في أواخر تسعينات القرن الماضي، أقرت اليونسكو مشروع كتاب في جريدة، واختارت من مصر جريدة الأهرام؛ ليخرج الإصدار عبر صفحاتها، وذات يوم مررت – بعد خروجي من العمل – على بائع الصحف، طلبت عدد اليوم من جريدة الأهرام، المعرفة الشخصية خففت من لهجته المتبرمة: مش عايز وجع دماغ، الأهرام هناك أهيه، والكتاب ملحق داخلها، على نفس نوع ورق الجورنال. طريقته التي باغتتني لم أجد أمامها سوى الضحك؛ فاستطرد معتذرا: أعمل إيه بس يا أستاذ؟ الناس أكلت دماغي من صباح ربنا، فاكرين الكتاب كتاب من اللي بالك فيه.. غلاف وورق أنضف!
المشروع الذي استمر لسنوات، خضعت فيه اختيارات الكتب لمبدأ غريب: فالكاتب من كبار أدباء الوطن العربي، لكن العمل ليس أهم أعماله، بل أقلها نجاحا، مثال الطيب الصالح لم ينشر له المشروع رائعته موسم الهجرة إلى الشمال مكتفيا بعمل ثانوي مكتوب بالدارجة السودانية!
مشروع كتاب في جريدة أجهز عليه أمران: أولهما أن لا أحد يقرأ مادة الكتاب، والآخر القفزة الطموح للسيدة سوزان مبارك، المتمثلة في رغبتها وضع بصمتها على المشروع داخل مصر، وحين قوبلت محاولاتها بالرفض، لجأت إلى صديق العائلة الوزير الفنان السيد فاروق حسني الذي أجرى اتصالاته وفعّل علاقاته؛ ففتح قنوات اتصال مع برنامج كتاب المدى للجميع، على أن تتولى المشروع داخل مصر جريدة القاهرة؛ فتوالت الكتب الهدايا من حكايات أيسوب إلى مع أبي العلاء... مرورا بمحاورات أفلاطون... كتب تقع بعيدة حتى عن مجرد رغبتك في التفكير إن كانت مهمة أم لا، مع استثناءات قليلة مذهلة مثل رواية كل الأسماء لساراماجو! وفوق ذلك لا بد ان تختار لك بائعا تتملقه ليتنازل ويمنحك العدد مع الهدية بسعر أعلى. شاءت ظروف عملي أن أقضي ثلاثة أسابيع في مدينة زفتى، اكتشفت أن مجرد عبوري نهر النيل إلى الضفة الأخرى، أكون في مدينة ميت غمر وهي أكبر وأكثر حركة من زفتى المهملة، وجدت في ميت غمر ما لم أجده في زفتى المكتبات وأكشاك لبيع الصحف والمجلات، منها كشك كبير صاحبه ملتح، وصوت القرآن لا ينقطع عبر جهاز الكاسيت الضخم، وجدت عدد جريدة القاهرة وإلى جواره كومة عالية من الكتاب الهدية، كان السيرة الذاتية للسيدة هدى شعراوي! نعم، السيرة الذاتية لهدى شعراوي في عام 2003! أخذت عدد الجريدة ونسخة الكتاب ومددت يدي بالثمن، نظر نحوي وقال بثقة وحرفيا: تباع كل على حدة. فقلت: نعم؟! قال موضحا: الكتاب والجريدة، تباع كل على حدة. قلت: لكن مكتوب في صدر الجريدة أن الكتاب يوزع كهدية مجانية . فقال: المكتوب شيء والواقع شيء آخر. فانصرفت تاركا له بضاعته، وقد ذكرني تعبير كل على حدة، بتلك الموجة الإعلامية في نهاية التسعينات المصاحبة لبيع كتب التراث مسلسلة في أجزاء تصدر أسبوعيا، وفي كل مدينة ثمة مكتبة معتمدة، تذهب إليها بالأجزاء كاملة ليجلدوها لك مقابل أجر، أيامها ذاع الصوت الفاتن للفنان محمد السبع، وهو يلقي في نهاية الإعلان تعبير: وهبة الجزء ثلاثة جنيهات. وكما عانى باعة الصحف لإقناع العملاء أن كتاب في جريدة جزء داخل الجريدة، عانوا أيضا جراء فكرة أبدعتها إحدى دور نشر التراث، حين أعلنت أن كتابها المسلسل المعلن عنه معه كتاب آخر هدية، أظنه كان موسوعة خاصة بصحابة النبي – صلى الله عليه وسلم – يومها وقف العملاء متشككين وهم يستمعون إلى شرح البائع، كيف أن الكتابين كتاب واحد؛ فيفتح لهم نسخة ويطلعهم على إحدى صفحاتها، موزعة كالتالي: ثلاثة أرباع الصفحة للكتاب الرئيس، والربع الباقي مع الهامش تحتله سطور من الكتاب الهدية!! شكل من أشكال الإهانة المضمرة التي يتعرض لها الكتاب، ولا يتوقف عندها أحد. وكما عانى مشروع كتاب في جريدة، عانى أيضا مشروع كتاب المدى؛ بسبب طغيان البعد الربحي – وهو بعد محمود إذا سار وفق نهج لا يضر بالفكرة السامية للمشروع – الذي أوقع البرنامج في ازدواجية أجهزت عليه، فذات عام زرت جناح دار المدى في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وجدت قسما خاصا بسلسلة كتاب المدى للجميع، وكانت المفاجأة ما من وجود لحكايات أيسوب ولا السيدة هدى شعراوي، بل كتاب عالميون وعرب يحكون عن تجاربهم الإبداعية وتقنيات الكتابة الأدبية؛ فجمعت بسذاجة أكبر عدد من كتب السلسلة ظانا أنها بسعر رخيص، أخبرني البائع أن سعر النسخة ستة دولارات، وأردف – عندما لاحظ صدمتي – هذا السعر يعد مجانيا بالنسبة لأسعار الكتب في لبنان!
بعدها دخلنا في الألفية الجديدة لتجري في النهر مياه كثيرة؛ فيخرج باب مبدعون من شرنقة مجلة الصدى الإماراتية، ويحلق في سماء المطبوعات الشهرية العربية، فراشة زاهية الألوان اسمها مجلة دبي الثقافية، ولأن الفراشات عمرها قصير؛ فلابد من ملاحقتها بضخ الدماء وصدمات الكهرباء وقبلات الحياة! تمثل الأمر في اكتتاب كل الكبار المهيمنين على المشهد الثقافي العربي بمختلف أقطاره، ثم المسابقة الأدبية بجوائزها المرتفعة قيمتها المادية – نسبيا لما كان سائدا وقتها – وبطبيعة الحال كان المحكمون من الكبار المكتتبين من قبل المجلة؛ فجاءت الأعمال الفائزة في معظمها مسايرة لتيار الثقافة الرسمية العربية. ثم جاءت قبلة الحياة الثالثة في هيئة فكرة الكتاب المجاني الهدية، يوزع مع كل عدد، وكما تسيد المكتتبون صفحات المجلة، وشكلوا لجان التحكيم، تصدروا الكتاب الهدية، ولحرص المجلة على الطابع والهوية العربية كان للشعر الصدارة في سلسلة الإصدارات، إبداعا مع العدد الأول كتاب أدونيس ( ليس الماء وحده جوابا على العطش ) ونقدا – من باب التجاوز – في العدد الثاني مع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وكتابه ( القصيدة الخرساء ) لا أظن أدونيس قد وضع كتابه هذا في سيرته البيبلوجرافية، أما الكتاب الثاني فلم يكن أكثر من تجميع متعسف لسلسلة مقالات نشرها صاحبها قبل سنوات في المساحة المخصصة له كل أربعاء في جريدة الأهرام! هكذا لم يشكل الوقت سوى مراكمة عددية للكتب الهدية النضاحة بالثقافة الرسمية ابنة المؤسسة في مختلف أقطار الوطن العربي، دواوين شعر هي تجميع لقصائد تقع في الدرجة الثانية أو الثالثة من إنتاج الشاعر ( قارن ديوان أدونيس ليس الماء .... بديوانه المعنون بالكتاب ) أو مقالات فكرية ونقدية ما هي إلا تجميع متسرع لما سبق نشره في الصحف، متسرع لأن المجلة لها موعد صدور لا بد من احترامه، ولها وعد قطعته بكتاب هدية لكبار كتاب ومفكري الوطن العربي؛ وبالتالي ما من وقت للمراجعة والتعديل، ناهيك عن إعادة الكتابة نفسها، بالإضافة إلى الحرص على تقديم الكتاب لاستلام المكافأة المنصوص عليها – وهو حرص محمود حين لا يطغى على القيمة الفكرية والفنية للعمل – ولا يصح أن نغفل ذكر الروايات الكعب الشبيهة بالقواميس ليس فقط في الضخامة بل وفي استحالة قراءة كل صفحاتها! ونتج عن حرص المجلة على البعد العالمي صدور ترجمات لأدباء نوبل، كتب مختارات لقصائد وقصص جاءت مجمدة لا روح فيها - مع استثناءات قليلة – &يقابلها إصرار سرمدي من قبل إدارة المجلة في الاعتماد على نفس المترجمين كلما حان الوقت لإصدار كتاب هدية مترجم، يحفظ للسلسة توازنها المنشود بين الثقافة العربية ونظيرتها العالمية! &فوقعت السلسلة في أخطاء، أفقدتها قيمتها ووضعت ما ينفق عليها في خانة الأموال المهدرة؛ فالمجلة حريصة على صدور الكتاب بشكل طيب من حيث الورق والغلاف والطباعة، دون الحرص على مراجعة مضمون الكتاب؛ لأن سياسة التحرير التزمت حرفيا بتقديم كبار الكتاب ظانة أن هذا وحده كفيل بجودة المضمون، حتى أن السيد رئيس التحرير أعلنها صراحة في افتتاحية أحد الأعداد: أن كتاب دبي الثقافية المجاني مخصص لكبار الكتاب المشهورين؛ فنحن لن ننشر لمن كان اسمه غفلا في وطنه. ياللمقياس! وياللقيمة! تصريح يجسد جوهر ثقافة الكيتش بكل استعراضيتها، فتحيل أمر نسبي كالشهرة إلى قيمة راسخة تحدد وحدها أحقية العمل للنشر! هذا الاختلال القيمي امتدت آثاره للكاتب الكبير ذاته الذي عاش يوهمنا ويوهم نفسه أنه عاش مترهبنا في محراب الكلمة، فسقط في اختبار بسيط حين واتته الفرصة لإصدار كتاب فكري أو نقدي وجدناه – كما سبق وذكرت – يجمع مقالاته كما هي ويضعها في كتاب، وكأنه لا يعرف أن المادة المكتوبة تحفر لنفسها منحى خاصا باختلاف وسيلة نشرها، فحين تنتقل الكلمات من جريدة إلى كتاب فقد اتخذت سياقا مختلفا، وهبها حياة مغايرة، تجبر صاحبها على إعمال الفكر في المادة المجمعة، والعمل بمقتضيات هذا الفكر من حذف وإضافة وفصل ووصل وتعميق... كما فشلت السلسلة – حتى هذه اللحظة – في تقديم كتاب يعد علامة فارقة ليس فقط على مستوى المجال الذي ينتمي له الكتاب، بل حتى على مستوى السيرة الإبداعية للمؤلف ذاته، ومرد ذلك لسببين: أولهما يعود لسياسة التحرير، فطالما نحن من طلب منك الكتاب؛ فسينشر لا محالة. وأخرهما يعود إلى الكاتب نفسه، شعوره أنه سينشر كتابا مرهونا بتوقيت تواجد العدد في الأسواق؛ فما من داع للمراجعة والشدة مع النفس؛ لأن الكتاب سيختفي بعد شهر على الأكثر من صدوره.
أما عن تجربة مجلة الدوحة، فحين تتأمل قائمة الإصدارات، تشعر أن الإدارة التحريرية مشغولة بهم واحد فقط: كيف لا تقع في محظور الملكية الفكرية، هي لم تقع في فخ الأسماء الكبيرة، لكنها مثل نظيرتها دبي الثقافية ما من سياسة واضحة ذات معايير يعتد بها في اختيار الكتاب الهدية.
بالطبع ليس الأمر سيئا على الدوام، ومن باب الإنصاف الاعتراف بأننا كل بضعة أشهر نجد كتابا يستحق القراءة والاقتناء سواء في دبي الثقافية أو الدوحة، بيد أنني أتحدث عن نسبة الكتاب الجيد مقابل فيض الكتب السيئة التي لم يقرأها أحد ولم تضف شيئا لمقتني المجلة.
ثمة تجربتان تجدر الإشادة بهما: تجربة مجلة الرافد إذ يأتي كتابها الهدية امتدادا وتعميقا لنهج المجلة الملتزمة بقضايا فكرية وفلسفية دون الالتفات لمصطلحات مطاطة من نوع الشعبوية والشهرة والكاتب الكبير... ثم تجربة مجلة الثقافة الجديدة التي لا يتوقف شبح التقشف المالي عن مطاردتها؛ حتى اضطر القائمون عليها إصدار الكتاب داخل صفحات المجلة بعد أن كان يصدر ككتاب صغير مستقل.
وإن كان هناك تجارب قدمت نموذجا للكتاب الهدية له ما له وعليه ما عليه وتجارب أخرى ناجحة، فهناك تجارب اعتمدت الكتاب الهدية بيد أنه لم يقدم ولم يؤخر حيال حتمية زوالها مثل تجربة إبداع، أو لم يؤثر على نسبة مبيعات مجلة مستمرة مثل نزوى.
تمنيت من المجلات الثقافية التي تقدم كتابا هدية، أن تضع لهذا العمل سياسة ذات قيم ثابتة تعلي المضمون على الشكل ، والمادة المقدمة على اسم صاحبها، تمنيت أيضا أن تساهم في حل مشكلة النشر، تلك المشكلة التي لا يعاني منها سوى الكتاب الجادين والمبتدئين؛ فتخصص بعض الأعداد على مدار العام لفكرة الكتاب الأول، ووجود هيئات مستقلة تجيز الكتاب أو ترفضه وفق مبادئ ثابتة، ولم أتمن – ما يحدث معي دائما – أن أجرد مكتبتي الشخصية نهاية كل عام، فأخرج دستة كتب فاخرة الطباعة، خاوية المضمون، وأن يلاحقني مع كل عدد جديد شعور المعاناة على مدار شهر بطوله؛ لأرغم نفسي على قراءة الكتاب كاملا، دون أن أنجح في ذلك!
&