&
كلُّ سياسة هي صراع من أجل السلطة، والعنف بدوره هو أقصى درجات هذه السلطة. لذلك لا بدَّ من طرح مشكلة العنف في الساحة السياسية، على الرغم من أن العنف نقيضٌ للسياسة، آخذين بعين الاعتبار بأنه - أي العنف - ليس سوى ذلك التجلّي الأكثر بروزاً لهذه السلطة التي هي بالأساس ذات جذر سياسي.
بهذه الكيفية تعرّف الباحثة الاجتماعية والفيلسوفة الألمانية - الأميركية حنّة أرندت في كتابها "في العنف" العلاقة الوثيقة ما بين العنف والسلطة مبرزةً أوجه التلاقي والاختلاف في ما بينهما. وتردف قائلةً بأن كلَّاً من السلطة والعنف، على الرغم من كونهما ظاهرتين متمايزتين، لكنهما عادةً ما تظهران معاً. وحيثما يتمُّ التوليف بينهما يتم إبراز السلطة باعتبارها عاملاً أساسياً ومسيطراً. فالسلطة ليست بحاجة إلى تبرير، انطلاقاً من كونها لا تقبل بفصلها عن وجود الجماعات السياسية نفسها، فما تحتاجه هو المشروعية فحسب.
تقول أرندت: السلطة كامنة في جوهر كل حكومة، لكن العنف لا يكمن في هذا الجوهر لأنه بطبيعته أدواتيّ وهو، ككلّ وسيلةٍ، يحتاج على الدوام إلى توجيه وتبرير في طريقه إلى الهدف الذي يتبعه.
في حديثها عن العنف المرتبط بالثورات تستعرض أرندت رأيين: الرأي الأول منبثق عن رؤية لكارل ماركس يعتقد فيها أن لا ضرورة للعنف في الثورة، وبرأيه فإن الثورات التي احتاجت العنف كضرورة لقلب أنظمة مستبدة كانت نادرة الوقوع في التاريخ، وكانت الاستثناء وليس القاعدة، مثل ثورات الجياع وثورات العبيد كثورة "سبارتاكوس" في وجه الطغيان الروماني. أما الرأي الآخر فمستمدّ من رؤية لجان بول سارتر تعتبر العنف ضرورةً لتحقيق الثورة ولجعلها مجدية.
يمثّل الكتاب مزيجاً من النقد وعلم الاجتماع وأيضاً التحليل، فهو يطرح موضوع العنف كقضية ملازمة للسلوك الإنساني، وليس كظاهرة هامشية تتبع لظواهر أخرى. فالسلوك المتمثل بالعنف سلوكٌ أصيلٌ في البشرية وليس سلوكاً دخيلاً عليها، وقد يكون القليل منه ضرورياً ما دام واعياً وغير متطرّف وضمن إطاره الطبيعي تحت عناوين الدفاع عن النفس والدفاع عن الموقف والوجود، تماماً كمشاعر العدوانية في مراحلها الأولى والطبيعية، شرط ألا تتطوَّر إلى التسلط
على الآخر وارتكاب جرم بحق آخر، وهذا هو حال العنف تماماً في التدرُّج من الطبيعي المشروع إلى الإشكال الإجتماعي الخطير.
ترى أرندت أن هذا العنف يأخذ منعرجاً أخطر وأكثر تعقيداً إذا ما استثمر التكنولوجيا لمصلحته في إدارة العلاقات بين الدول، أي في الحروب، فالتقدُّم التكنولوجي – بحسب قولها - إنما يقودنا مباشرةً نحو الكارثة، وهذه العلوم التي تدرَّس وتُدرَس من قبل هذا الجيل لا تتميز فقط بكونها عاجزة عن التصدّي للنتائج الكارثية الناتجة عن تطبيقها التقني، بل كذلك هي وصلتْ إلى مستوى من التطوّر باتت معه قادرة على تحويل أي اختراع إلى سلاح من أسلحة الحرب. على غرار مقولة لكارل يونغ يقول فيها ما معناه: ضع كل ما في هذا العالم من شرور ومن أسلحة فتاكة أمامك، وحاول أن تجعل "الشيطان" يقاوم استخدامها.
&
باحث ومؤلّف سوري.
&
التعليقات