العملة الأوروبية الموحدة |
كشفت مصادر صحفية عن وثيقة سرية ألقت الضوء على عيوب العملة الأوروبية الموحدة، وأرجعت الكثير من مشاكل اليورو إلى أنه ولد وهو يعاني من نواقص عديدة، وأكدت أنه لا يمكن بقاء هذه العملة على قيد الحياة ما لم تكن مدعومة من قبل إتحاد سياسي.
إعداد لميس فرحات: كشفت صحيفة quot;دير شبيغلquot; عن وثيقة سرية صدرت عن الحكومة الألمانية تظهر أن المستشار الألماني السابق هيلموت كول كانت لديه شكوك عميقة حول العملة الأوروبية المشتركة عند عرضها في العام 1998، معتبراً أن إيطاليا هي الحلقة الأضعف في منطقة اليورو.
كان ذلك قبل وقتٍ قصيرٍ من مغادرته الى بروكسل، عندما قال كول إن quot;ثقل التاريخquot; سيصبح واضحاً في عطلة نهاية الأسبوع، معتبراً أن قرار إقامة الاتحاد النقدي كان سبباً في quot;احتفال بهيجquot;.
بعد ذلك بوقت قصير، في 2 أيار/مايو 1998، توصّل كول ونظراؤه إلى قرارٍ بالغ الأهمية. وأصبحت إحدى عشرة دولة جزءاً من العملة الأوروبية الجديدة، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا ودول البنلوكس - وايطاليا.
أما الآن، وبعد مرور 14 عاماً، أصبح وزن التاريخ هائلاً وغير معقول. لكن ليس هناك من هو في مزاج للاحتفال بعد الآن. ويمكن القول إن المزاج العام كئيب إلى حد ما، لا سيما بعد لقاء المستشارة الألمانية الحالية أنجيلا ميركل مع نظيرها الايطالي ماريو مونتي في روما قبل ستة أسابيع.
وفي الوقت الذي كانت تشهد فيه الأسواق الأوروبية quot;احتفالات سابقة لأوانهاquot; احتفالاً بنهاية أزمة اليورو، حذّرت المستشارة من أن quot;أوروبا لم تتجاوز المنعطف الخطر بعدquot;، مشيرة إلى أن تحديات جديدة سوف تظهر باستمرار في السنوات المقبلة.
واعترف مونتي من جهته بأن بلاده لم تتغلب حتى الآن على المرحلة الأكثر خطورة، معتبراً أن الكفاح لإنقاذ العملة لا يزال يمثل quot;تحدياً مستمراًquot;.
لم يطل الوقت قبل أن تثبت صحة مخاوف الزعيمين، فالاقتصاد الاسباني واصل انخفاضه، وأسعار الفائدة لسندات حكومات بلدان جنوب أوروبا آخذة في الارتفاع مرة أخرى، كما أن نتائج الانتخابات في كل من فرنسا واليونان قد أظهرت أن المواطنين تعبوا من سياسات التقشف. باختصار، لا يمكن لأحد أن يكون على يقين من أن الاتحاد النقدي سوف يبقى على قيد الحياة على المدى الطويل.
يمكن إرجاع الكثير من مشاكل اليورو إلى quot;عيوب خلقيةquot;، فقد ولد اليورو وهو يعاني من نواقص عديدة . فلأسباب سياسية، أدرجت البلدان التي لم تكن مستعدة في ذلك الوقت. وعلاوة على ذلك، لا يمكن للعملة الموحدة البقاء على قيد الحياة على المدى الطويل إذا لم تكن مدعومة من قبل اتحاد سياسي. وحذّر العديد من الخبراء عند إصدار عملة اليورو الموحدة من أن أعضاء الاتحاد النقدي لا ينتمون إلى بعضهم البعض.
الحرص على الحفاظ على سرية هذه الوثيقة الصادرة عن إدارة كول، يشير إلى أن الآباء المؤسسين لليورو كانوا يدركون عجز هذه العملة بشكل جيد، لكنهم ساروا قدماً في هذا المشروع بصرف النظر عن سلبياته.
في استجابة لطلب من قبل صحيفة دير شبيغل، فإن الحكومة الألمانية نشرت للمرة الأولى، مئات الصفحات من الوثائق منذ العام 1994حتى 1998 بشأن اعتماد اليورو، وإدراج ايطاليا في المنطقة.
وتشمل هذه الوثائق تقارير من السفارة الألمانية في روما، والمذكرات الداخلية للحكومة والرسائل المكتوبة بخط اليد ومحاضر اجتماعات المستشار. وتثبت هذه الوثائق ما بات واضحاً الآن: quot;لا ينبغي أبدًا أن تقبل عضوية ايطاليا في منطقة العملة الموحدةquot;.
بدلاً من الانتظار حتى يتم استيفاء المتطلبات الاقتصادية للعملة المشتركة، أراد كول إثبات أن ألمانيا، حتى بعد اعادة توحيدها، لا تزال توجهاتها متجذرة عميقاً في أوروبا. واعتبر العملة الجديدة بأنها quot;تضمن قليلاً من السلامquot;.
علاج المعجزة
عملية quot;خداع الذاتquot; بدأت في ديسمبر 1991، في مبنى للمكاتب في المدينة الهولندية ماستريخت، عاصمة اقليم جنوب شرق ليمبورغ. اجتمع رؤساء الدول الأوروبية والحكومة معاً للوصول الى قرار القرن، أي إلى اعتماد اليورو بحلول العام 1999.
لضمان استقرار العملة الجديدة، تم الاتفاق على معايير صارمة على الانضمام، فمعدلات التضخم لدى الدول يجب أن تكون منخفضة، إضافة إلى معدلات تضخم واقتراض منخفضة. كما يجب أن تكون مستويات ديونها تحت السيطرة.
وعمدت المفوضية الأوروبية ومعهد النقد الأوروبي (EMI) إلى مراقبة التطورات، وكان الزعماء الأوروبيون يتجهون نحو الوصول إلى القرار النهائي في ربيع العام 1998.
وفي ضربة حظ بالنسبة لايطاليا، استطاعت هذه الدولة أن تفي بجميع المتطلبات مع اقتراب الموعد، على الرغم من أن الأمر كان مستغرباً بالنسبة لكثير من المشككين. وقال البعض إن ايطاليا خضعت لعلاج معجزة، على الورق على الأقل.
خطوات بطيئة
اتفق كول وغيره من القادة الاوروبيين على أن مجموع ديون أي دولة مرشحة لعضوية اليورو لا يمكن أن يكون أكثر من 60 في المئة من الناتج الاقتصادي السنوي، quot;ما لم تكن النسبة آخذة في الانخفاض بما فيه الكفاية وذلك مع اقتراب القيمة المرجعيةquot;.
لكن مستوى الدين في ايطاليا كان يبلغ مرتين ضعف هذا المبلغ، وكانت الدولة الوحيدة التي تقترب من القيمة المرجعية ببطء شديد. وبين العامين 1994 و 1997، انخفضت نسبة الديون بنسبة ثلاث نقاط مئوية.
السؤال لم يكن ما إذا يجب السماح لإيطاليا بالإنضمام إلى الاتحاد بناء على مستوى ديونها، وهذا كان واضحاً لأنها لا تستوفي الشروط. لكن السؤال كان أكثر صلة من الناحية السياسية: هل يمكن أن تترك دولة من الأعضاء المؤسسين للجماعة الاقتصادية الأوروبية خارج العملة الموحدة؟quot;
الخبراء الحكوميون كانوا يعرفون الإجابة منذ وقت طويل، فيقول ريغلينغ كلاوس المدير العام للعلاقات المالية الأوروبية والدولية في وزارة المالية في ذلك الوقت : quot;نحن في وزارة المالية، وحتى العام 1997، لم نكن نعتقد أن إيطاليا ستكون قادرة على تلبية معايير التقاربquot;.
وينعكس هذا التشكيك في وثائق كثيرة، ففي 22 نيسان، ذكر المستشار كول في ملاحظاته أن quot;الفرصة شبه منعدمةquot; لايطاليا لأن تفي بالمعاييرquot;.
وكان العام 1998 بمثابة سنة حاسمة بالنسبة لاعتماد اليورو، لكن لم يتغيّر التقييم بشأن ايطاليا، ففي إطار التحضير لعقد اجتماع مع وفد من الحكومة الايطالية يوم 22 يناير/كانون الثاني، لاحظ كلاوس أن quot;القدرة المالية العامة الصلبة لايطاليا ليست مضمونة بعدquot;.
التخلي عن ايطاليا صعب
خلص العديد من الاقتصاديين الدوليين إلى أن إيطاليا لم تستوفِ الشروط وتعاني من عجز دائم ومستدام عن خفض الديون، وأنها تشكل quot;خطراً خاصاًquot; على اليورو.
في قمة الاتحاد الأوروبي الاستثنائية في بروكسل في أوائل شهر أيار/مايو العام 1998، رأى كول أن عبارة quot;ثقل التاريخquot; لا تحتمل المزيد من اللغط، فقدم دعمه بلا تحفظ لايطاليا.
وقال كول حينها: quot;من فضلكم، لا تعلنوا العملة الموحدة من دون ايطالياquot;، وفقاً لما نقله مستشار كول لشؤون السياسة الخارجية يواكيم بيترليخ.
وتشير الوثائق التي أعلن عنها الآن إلى أن إدارة كول عملت على تضليل كل من القطاع العام والمحكمة الدستورية الاتحادية في ألمانيا.
حب ايطاليا
على الرغم من السلبيات والأزمات المالية والديون التي كانت تعصف بإيطاليا، إلا أنها ndash; وبعد كل شيء ndash; كانت عضواً مؤسساً في الاتحاد الأوروبي. كما أن الإيطاليين لم يكن وضعهم سيئًا في قمة بروكسل مثلما كان حال فرنسا سابقاً في عهد الرئيس شارل ديغول أو بريطانيا في ظل رئيسة الوزراء مارجريت ثاتشر.
وكان البعض من المسؤولين يبنون آمالهم على اثنين من الرجال الذين قد حددوا مهامهم بحل مشاكل إيطاليا: وهما رئيس الوزراء رومانو برودي، وهو استاذ هادئ من بولونيا، ووزير التقشف في الميزانية والتخطيط الاقتصادي، كارلو تشامبي.
الحيل والحظ
من خلال الإصلاحات وتدابير خفض التكاليف، استطاع الرجلان الحد من الاقتراض الجديد وخفض معدلات التضخم. لكن كانت لهذا البلد مشاكل أكبر من ذلك، والحكومة كانت على علم تام بها. وبالفعل، فإن الايطاليين اقترحوا مرتين تأجيل إطلاق اليورو في العام 1997، لكن الألمان رفضوا هذه الفكرة، مع أنهم كانوا يعلقون آمالهم على تشامبي، فالجميع في ايطاليا كانوا يعتبرونه قادراً على إصلاح الامور.
من الواضح أيضاً أن كول قرر إنهاء الوحدة النقدية قبل انتخابات العام 1998 البرلمانية، لا سيما أن عملية انتخابه كانت في خطر، بسبب منافسه من الحزب الديمقراطي الاجتماعي غيرهارد شرودر الذي كان من المشككين باليورو.
في نهاية المطاف، تمكنت إيطاليا رسمياً من الوفاء بمعايير معاهدة ماستريخت بواسطة مجموعة من الحيل والظروف المؤاتية التي صادفتها. واستفادت البلاد من أسعار الفائدة المنخفضة تاريخياً. كما أن تشامبي أثبت أنه quot;مشعوذ مالي مبدعquot;، فقدم على سبيل المثال، quot;ضريبة أوروباquot; إضافة إلى حيلة ذكية أخرى تنطوي على بيع احتياطي الذهب للبنك المركزي، وفرض ضريبة على الأرباح. ونتيجة لذلك، تمكنت ايطاليا من تقليص العجز في الميزانية.
لا حلول حتى الساعة
ملفات الحكومة من المرحلة التأسيسية للاتحاد النقدي تكشف عن أن هذا quot;مبنى اليوروquot; لم ينجح، لا سيما وأن الوثائق تدل على أن الإنتهازية السياسية هي التي ستسود في نهاية المطاف. ومن المعروف أن الأموال المشتركة تتطلب سياسة مشتركة ومؤسسات مشتركة، وهذا الأمر غير متوفر حتى الساعة.
بلغ اليورو عامه الـ 14 وقد شهد في السنين الأخيرة أزمة مستمرة. كما أن هناك إدراكاً متزايداً في برلين وعواصم أخرى بأن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر. وكل جهود الإصلاح لا تزال تشبه الخطوات الصغيرة التي لا تؤدي إلى أي مكان.
الاتفاق المالي الجديد لا يوفر خلاصاً سريعاً حتى الآن، ونتيجة لذلك، يعمل الساسة الأوروبيون على تطوير رؤى جديدة بينما تتساقط المحرمات القديمة. ففي حين أن دول الجنوب وفرنسا تتوصل الى تفاهم لكبح الديون على أساس النموذج الألماني،فإن الحكومة الألمانية لم يعد لديها أي اعتراض على حكومة اقتصادية في منطقة اليورو، وهي فكرة فرنسية كانت ألمانيا تعارضها في السابق.
وفي حال استطاع أعضاء الاتحاد النقدي تصحيح الثغرات التي قاموا بإهمالها في مغامرة اليورو، قد يستطيعون إنجاح quot;مشروع القرنquot;. لكن كلما طالت المدة سيتم تأخير الاصلاحات الضرورية، وهذا قد يكون أكثر كلفة على الجميع.
التعليقات