القول المائي في التّوالد الرّوائي السعودي!

أحمد عبدالرحمن العرفج: يقول المسرحي سعدالله ونّوس: (كلّ عمليّة كتابة هي quot;عمليّة تَخَفٍ وراء قناع، أو عمليّة تحتمل ولو جزئياً الاختباء وراء القناع بشكل ما.. إنّ أي إنسان راضٍ عن نفسه، ومتصالح معها، ولا يعاني أيّ قهر، أو ضغوط، تكون حاجته إلى الكتابة أقل، أو إنّ الكتابة التي ينجزها تكون غالباً فقيرة على مستوى الإشكاليات التي يسطّرها) راجع مجلة الكرمل العدد 64 ص9. والرّوائي عبدالرحمن منيف في مؤلّفه quot;الكاتب والمنفىquot; يقرّ بأنّ الرّواية العربيّة هي quot;تاريخ من لا تاريخ لهمquot;!

عبدالرحمن منيف

والمتابع لتوالد الرّوايات يلحظ من الوهلة الأولى ضخامة المنتج منها في الآونة الأخيرة، في مظهر أشبه ما يكون بكثرة quot;توالد الذّباب وتناسلهquot;، ولن تعدم الفكاهة في هذا المشهد إذا استصحبت في ذاكرتك أنّ الحكمة قضت على المُكثرات ولادةً، والسّريعات إنجابًا بأيسر طُرق الموت وأهونها، وأسهل سبل الإبادة وأرخصها.. فمجرّد رشّة من مبيد quot;ريدquot; تفتك بآلاف الذّباب، ولله درّ القائل:
بُغاثُ الطَّيرِ أكْثرُها فِراخًا
وأمُّ الصّقر مِقلاةٌ نُزُورُ
على ضوء هذا quot;التّناسل الرّوائيquot; العجيب، وجب أن يُطرح سؤالٌ مفاده: لماذا كتب السّعوديون والسُّعوديات في العامين المنصرمين - حلوة المنصرمين هذه - من الرّوايات بعدد ما كتبوه في ثمانين سنة؟!
ما سرّ هذا quot;التّدفّق المائيquot;، والانبعاج الرّوائي، والتّكاثر الطّحلبي في هذه الفترة الوجيزة!
ما الوحي الذي هبط على الكُتَّاب والكاتبات فجعلهم يكتشفون quot;معالم أجسادهمquot;، ويدركون أنّ في جسد كلٍ منهم يدًا تمسك قلمًا.. وأنامل من الممكن أن تكتب وتتدفّق؟!
هل يريد بعض quot;كتبة الرّوايةquot; أن ينقلبوا على أنفسهم من خلال الكتابة، خاصّة وأنّ الشّاعر المُذهل نزار قباني يقول: (الكتابة عمل انقلابي)، أو يشعر من يكتبون الرّواية بأنّ الكتابة quot;للجبناءquot; وquot;فاقدي الحيلةquot; لذا انطلقوا إليها مثنى وثلاثا ورباعاquot;؟
هل عجز من يكتبون quot;الرّوايةquot; عن الحوار فركبوا متن الرّواية، مدركين أنّ الكتابة هي في أضعف صورها quot;عجز عن التّواصلquot; وquot;تبرير للعزلةquot;؟!
لماذا يظنّ أكثر النّاشرين العرب أن طباعة رواية سعوديّة، هي بمثابة دجاجة تبيض ذهبًا؟
هل يبدو المجتمع السُّعودي محافظًا للدّرجة التي تجعل صدور رواية، يمثل اهتزازًا للقلعة الاجتماعيّة المحافظة والمُحصنّة؟!
هل اتّكاء الرّوايات على المحظورات من سياسة، وفضائح وكشف، ولعب على الثّابت الديني، وغير ذلك من مظاهر quot;المروقquot; وشواهد quot;الانفلاتquot; يضمن لها مقعدًا في مراكب القرّاء العجلى، من جهة أنّ الجمهور لا تشده إلا الأسرار منسابة في دوائر الهمس الفاضح، ولا تأخذ انتباهه إلا quot;جرأةquot; تثير حليمًا ساكنًا في خشوع، أو تستفزّ قناعات راسخة في هجوع!؟
والشّاهد من بين هذه المحظورات ورود quot;الجسدquot; بصورة مركزيّة، فلماذا تظل ذاكرة الجسد، وفوضى الحواس مسيطرة على الرّوايات، فحتّى ما يتناول الإرهاب منها مثل quot;ريح الجنّةquot; يعمد إلى مفهوم quot;الحور العينquot;.
ومفهوم الجسد يجرّنا إلى مفهوم quot;التّوالد اللّفظيquot;، فكم من الرّوايات التي تشترك في عناوين متشابهة، ويكفي أن تتخيّل كلمة quot;الرّياضquot; لتتذكّر على الفور روايات عدّة مثل (الرّياض 1990) و(بنات الرّياض) و(صورة الرّياض) و(شباب بالرّياض) و(بنات من الرياض). ورغم أنّ اللّغة العربيّة واسعة وغنية، غير أنّها ضاقت على هؤلاء الرّوائيين بما رحبت، فجاءوا على كلمة واحدة يعزفون، ومن كلّ حرف فيها في الكتابة ينسلون!
هل بدأ الشّعب يكتشف معالمه، ويتحسّس أطرافه، ويصدر روايات بأثر رجعي، كتعويض عن احتباسٍ كتابي استمر لمدّة ثمانين سنة؟!
هل هذا التّدفق الرّوائي يمثّل شكلاً من أشكال التّعبير الذي كان يعاني القمع طوال السّنين الماضية؟ على اعتباره مجتمعًا quot;محفوفًا بالغرابةquot;، لتأتي هذه الروايات مؤكّدة أنّ

رجاء الصانع

الكتابة ليست أكثر من الانتماء إلى عالم الأسوياء، ومكمّلة لمن يشعر بالهُويّة النّاقصة، من منطلق أنّ الكتابة هيquot; اغتصاب العالم باللّغةquot;!
لماذا انهال الكُتّاب على كتابة الرّواية وبشكل يلفت نظر كّل النّقّاد، رغم أنّ المؤسّسة الدّينية لا زالت تحرّم كتابة الرّواية، لأنّها تعتمد على الكذب، واختلاق الشّخصيّات والمقولات؟!
قد يقول قائل إنّ quot;الإنترنتquot; حَضّر لكتابة الرّواية، وأكثر من كتبوا رواياتهم عرضوها في quot;النّتquot; قبلاً، ولمّا أنِسوا من النّاس قبولاً، هاجروا إلى بيروت ليطبعوا..
حسنًا، لماذا لم ينطبق هذا على الفنون الأخرى من قصّة قصيرة وشعر ومسرحيّة؟ الأمر الذي يمنع القول إنّ هذا التّوالد الروائي quot;مردّه إلى الشّبكة العنكبوتيّةquot;.
قد يقول قائل إنّ الاهتمام برواية quot;بنات الرّياضquot; زاد من شهوة الكتابة عند الآخرين وquot;الأخرياتquot;، وهذا لا يكفي لتفسير الظّاهرة، لأنّها بدأت قبل رواية quot;بنات الرّياضquot;.
قد يقول قائل إنّ السّبب وراء هذا quot;التّكاثر الرّوائيquot; مردّه إلى quot;حلم الشّهرةquot; أو الرغبة في تحقيق الذّات القائلة quot;نحن هناquot;، أو quot;تعبير عن الذّاتquot;، وهذه حجج واهية، لأنّ تحقيق الشّهرة وغيرها من الممكن أن يتمّ من خلال quot;الشّعر الشّعبيquot;، أو quot;ستارأكاديميquot; أو quot;القصّة القصيرةquot;، .. إلخ.
إذًا لماذا يُقبل البعض على كتابة الرّواية وهي quot;سرّ طويلquot;، يحتاج إلى وقت بطيء في قراءته، مع أنّ الكون يعيش في عصر quot;السّرعةquot;!؟
هل اكتشف بعض كُتّاب الرّواية أنّ في المجتمع عورات فأرادوا أن يكشفوا عنها؟ ومن هنا تكون كتابة الرّواية دالة على الغباء أكثر من أيّ شيء آخر، إذ هل نحتاج إلى ثمانين سنة لنكتشف أنّ في الجسد المجتمعي تحوّلات مستوجبة للكتابة عنها؟!
هل نحن لنا quot;خصوصيّةquot; في الكتابة، بحيث تكون كتابة الرّواية هي الرّؤى الأولى للحياة فيتجرَّأ على كتابتها quot;كلّ المراهقينquot;، مع أنّ مشهد الأدب العالمي يُعرِّف الرِّواية بأنّها quot;مهنة الكبارquot; أي ما بعد سن الأربعين؟!
هل تُعدّ أكثر الرّوايات عبارة عن quot;إفراز كتابي مبكرquot;، بحيث يدرك الرّاصد أنّ كثيرًا ممّا كُتب يطأه الخلل، ويعتليه quot;التّسرّعquot;، ومع هذا فمن حقّ النّاس أن يكتبوا رؤاهم وأحلامهم وأوطانهم الصّغيرةquot;.
ألا يمكن اعتبار تدفّق الرّواية بهذا الشّكل الذي يشبه quot;تكاثر الذّبابquot; ممارسة تكريميّة، بحيث يكرّم المرء ذاته، ويعرض مكانته عبر الكتابة؟! ولماذا لا يعتبر هذا quot;التّدفّقquot; مؤشّرًا على الضّعف، وقلّة التّجربة والاستهانة بالحياة.. ولنا في quot;بغاث الطّيرquot; وأم الصقر مشهد من قلّة القيمة مع الوفرة، ونزارتها مع الجودة في عالميهما. من هنا يمكن أن يكون مثال quot;التّكاثرquot; موجبًا إلى استتفاه الكتابة وتحقير شأنها، خاصّة في المجال الرّوائي الذي لم ينضج بعد، لذا
يقول الرّوائي عبدالرحمن منيف في كتابه quot;بين الثّقافة والسّياسةquot; ص231: (عمر الرّواية العربيّة ما زال في أوّل الشّباب، وبالتّالي لم تتكوّن فيها بشكل كامل وصارم الأساليب والمدارس).
وطالما أنّ الأمر يتعلّق بالتّوالد والتّكاثر والتّزاوج، فإنّ هناك روايات تتّسم بنقد العادات من quot;جاهليةquot; وغيرها، التي تشترط التّكافؤ في النّسب، فهل يمكن أن تكون الرّواية هي ديوان العاهات العربيّة القادمquot;؟
في النهاية، لا عجب أن تتكاثر الرّوايات عندنا، فنحن العرب quot;أهل ثرثرة، لذا تبدو الرّواية أقرب الفنون الأدبية إلى طبيعتنا الكلاميّة، ونسبنا الثّقافي، فهرعنا إليها متسوّلين، وما الرّواية إلا كلام مكتوبquot;.
والعرب من ناحية أخرى قوم متورم، مهووس باستيلاد تاريخ لهم، لذا كانت الرّواية سجلا جديدا، وأرشيفا فريدا، ينضاف إلى مفاخرهم الكثيرة، ولا عجب في ذلك فقد قال عبدالرحمن منيف في ما سبق ذكره quot;إنّ الرواية تاريخ من لا تاريخ لهمquot;.
وبعد.. هذه أسئلة تدور في الذهن لا تهمها الإجابة لأنّها ستتعدد بتعدد القرّاء ويكفي أن يطرح المرء السّؤال، فهو أقوى أسلحة الشّجاعة العاقلة، ألم يقل سلفنا الشِّعري:
ولو أنّي جُعلتُ أميرَ حربٍ
لمَا قاتلتُ إلا بالسُّؤالِ
إذًا فلنتقاتل بالأسئلة، وعلى التّاريخ وضع الأجوبة.