هل هي محطة بنزين أم محطة تلفزيون؟

قضية الإصلاح في العالم العربي تمثل هما كبيرا للقوى الخيرة في المنطقة، وللقوى الدولية التي تأمل في تحقيق الرفاه للشعوب العربية ضمانا لتجنيب تلك الشعوب اليأس والإحباط الذي يدفع للإرهاب والانتحار بدرجة ترتد سلبا على البلدان الغربية على حد سواء مع بلدان المنطقة. وفي اعتقادي أن الإصلاح المنشود لن يتحقق بدون التآزر بين القوى الإصلاحية في المنطقة مع الدول العظمى التي شاءت الأقدار أن ترتبط مصالحها بمصلحة المواطن العربي بعد أن ظلت لعقود طويلة مرتبطة بمصالح الأنظمة الديكتاتورية سعيا وراء سراب استقرار هش لم يتحقق.

ويدرك الإصلاحيون العرب تمام الإدراك مثلما تدرك القوى الداعمة لهم في الغرب أن الصراع الجاري في المنطقة صراع أفكار قبل أي شئ آخر وأن فكرة الإصلاح ذاتها تلقى حربا شعواء من قبل معتنقي أيديلوجية الإرهاب والتحريض ومن قبل الأنظمة الديكتاتورية على حد سواء. وقد كان من المفترض أن يشكل تأسيس قناة الحرة الأميركية الناطقة باللغة العربية دفعة قوية للإصلاحيين العرب ليكون لديهم جواد حقيقي في الساحة الإعلامية يخوضون به معركة الأفكار بثقة كبيرة تتناسب مع حجم القوة الأولى العظمى في العالم التي تبنت مشروع القناة.

ولكن للأسف الشديد وبلا مبالغة فإن التخلف العربي حقق انتصارا ساحقا في قلب العاصمة الأميركية لا يقل خطورة عن الضربة التي حققها الإرهاب في هجومه على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر 2001. ولقد قال قائل في واشنطن إن قيادة محمد عطا لطائرة بوينغ 747 سببت ضررا كبيرا ولكنه أقل حجما من الضرر الناجم عن تسليم ميزانية مؤسسة بحجم الحرة لشخص واحد لا يقبل مشورة ولا يحتكم إلا لمزاجه الشخصي. ولا نلومه على ذلك مطلقا وإنما نلوم الإدارة الأميركية التي سلمته مشروعا يديره كأنه ملكية خاصة أو محطة بترول لتزويد الشركات الأجنبية بالوقود وليس محطة تلفزيون تثير الأفكار وتنعش العقول.
فبدلا من أن يساهم مشروع قناة الحرة في إصلاح العرب وتعليمهم ثقافة جديدة قائمة على الشفافية والحرية والديمقراطية، تعلمت المؤسسة السياسية الأميركية وصناع القرار في واشنطن مفاهيم ديكتاتورية طارئة عليهم، الامر الذي جعل الجواد الأميركي في الإعلام العربي يتحول إلى نعجة عرجاء لا سيقان لها.
ويتردد حاليا في العاصمة الأميركية أن هناك في الإدارة من يتفاوض في الخفاء مع بعض الشخصيات الإعلامية العربية لتولي مراكز قيادية في الحرة على أمل أن يتم إصلاحها عن طريق هؤلاء . ولا ندري مدى صدقية هذه المفاوضات ولكنها إن صحت فإنها لن تعالج الخطأ إلا بخطأ أكبر منه، لأن القيم الإدارية الأميركية قائمة على الإعلان للملأ عن الوظائف الشاغرة كي يتقدم لها المؤهلون للتنافس برغتبهم، وفي النهاية يشغلها الشخص الأكثر كفاءة والأعلى نقاطا في الامتحانات والمقابلات التي تشرف عليها لجان متخصصة ولا تخضع لأهواء شخص واحد أو شخصين.
لا أظن أن وظيفة مدير أخبار أو رئيس تحرير في قناة الحرة وظيفة سياسية تحتاج إلى تعيين سياسي من البيت الأبيض كي يتم الاتصال بالمرشحين خفية، وإنما هي وظيفة تخصصية توازي الدرجة الخامسة عشرة (GS 15) في النظام الحكومي الأميركي ويجب الإعلان عنها للتنافس بين الجميع على أن يخضع المتقدمون لها لاختبارات تقيس مدى كفاءاتهم الصحفية والإدارية مثلما يجري في كافة المؤسسات الأميركية البعيدة عن التأثير الشرق أوسطي.
في الحرة للأسف لم يتم اختيار إدارتها بالطرق المتعارف عليها للاستفادة من أفضل الخبرات الإدارية والصحفية وهي كثيرة في واشنطن، وقد يكون الأمر ناجما عن حسن نية أو عن ثقة لم تكن الإدارة الحالية في محلها، ولكن أن يتم اختيار أصغر موظف وأصغر محرر في القناة بالطريقة نفسها دون إخضاع المتقدمين للتنافس العادل، فهذا مالم نشهده مطلقا في قناة الجزيرة ولا في هيئة الإذاعة البريطانية، ولا حتى في المؤسسات العربية الكسيحة. ولهذا نجد أن الجزيرة تمكنت من استقطاب أفضل المهنيين، كما أن العمل في البي بي سي يحتم على المتقدم اجتياز مستويات متعددة من الاختبارات والمقابلات الشخصية لا يجتازها إلا أصحاب أفضل الكفاءات، ولا يمكن لأحد أن يشكك بقدرات العاملين فيها.
ويبدو أن الأهواء الشخصية غلبت على أساليب التوظيف في الحرة وأصبحت الحرة متخمة بنوعين من العاملين، النوع الأول يتمتع بكفاءات وخبرات مشهود لها ولكن لا قرار لأصحابها، ولا ظهور، ولا مشاركة فعلية، والنوع الثاني دخلاء على المهنة الإعلامية وبيدهم كافة المهام التحريرية والتنفيذية، وتنعكس قيمهم وأخلاقهم على شاشة الحرة وعلى سمعة الولايات المتحدة نفسها في المنطقة العربية وفي داخل كل بيت عربي.
الولايات المتحدة ليست بمثل هذا السوء الذي يظهر في شاشة الحرة، ولم نكن نتصور مطلقا أن يدفع المواطن الأميركي من جيبه لتشويه سمعة بلاده وزيادة إشعال الكراهية ضدها.
أميركا دولة عظيمة ومجتمع خلاق قائم على التنوع والتعدد، لا تهيمن عليه جنسية واحدة ولا طائفة دينية، ولقد حدثني صديق عزيز في واشنطن ينتمي للطائفة المارونية في لبنان وقال حرفيا" أنا لبناني وماروني ولكني مع ذلك أرفض أن يكون 80% من الصحفيين في الحرة من الطائفة المارونية أو من الجنسية اللبنانية، لأن هذا في رأيه تصرف لا يشجع على كسب عقول وقلوب بقية العرب" وكاتب هذا المقال يتفهم مثل هذا القول وفي ذات الوقت أعتقد أن قناة الحرة ليست جامعة عربية تراعي التوازنات السكانية في المنطقة ولكن عليها أن تراعي المؤهلات المهنية والأساليب الحديثة في التوظيف وستجد أن الكفاءات الإعلامية تنتمي إلى كل الجنسيات والمذاهب والملل والنحل بلا استثناء.
وانا أتفهم أيضا أن تركز وكالة الاستخبارات الأميركية أو مكتب التحققيات الفيدرالي أو وكالة الأمن القومي الأميركية على الاستعانة بعدد أكبر من المسيحيين العرب فهذا مقبول لسببين الأول هو أن نسبة المسيحيين العرب من حملة الجنسية الأميركية تتجاوز 75% في حين أن المسلمين العرب لا تزيد نسبتهم عن 25% ، والسبب الثاني أن الحرب على الإرهاب شئنا أم أبينا هي حرب على إرهابيين مسلمين وبالتالي فإنه من الصعوبة بمكان على كثير من العرب المسلمين أن يحصلوا على النقاط الأمنية المطلوبة في ما يسمى (بالسيكيورتي كليرانس) للعمل مع الوكالات القومية والإطلاع على وثائقها السرية خصوصا من سبق له منهم السفر إلى أفغانستان، أو باكستان، أو عراق صدام أو غير ذلك من البلدان. فما بالك بشخص ولد في بلدان تصنع وتفرخ الإرهابيين.
ولكن إجراءات التوظيف في الأجهزة الأمنية لا يجب تطبيقها على إجراءات التوظيف في قناة الحرة لأن الغرض من الحرة هو مخاطبة قلوب وعقول العرب المسلمين، وليس التجسس عليهم، ومن حقنا على المشاهد المسلم الذي نرغب في مخاطبته أن نقدم له أسماء مثل محمد وأحمد وحسن وعبدالله بالقدر الذي نقدم له على الشاشة أسماء مثل جو وميشيل وتوني وأنتونيو. أما أن تحتكر طائفة واحدة معظم الوظائف التحريرية في قناة أميركية فإن هذا لن يكون مقبولا إلا إذا كان هؤلاء أميركيين لهم حق التنافس كغيرهم، ولم يتم جلبهم من محطات فاشلة في بلدان بعيدة، كما يشترط فيهم أن يجتازوا امتحانات الكفاءة التي تجعلنا نؤدي التحية لهم ونقول إن " قناة الحرة التي يعملون بها نجحت في إثارة عقول وقلوب المشاهدين ولم تثير سخريتهم واستهجانهم".
الحرة لا يجب أن يتولى إدارة الدفة فيها شخص واحد تنعكس عداءاته وخصوماته ومناوراته وأساليبه على العمل في قناة يمولها الكونغرس بل يستحسن أن يديرها مجلس إدارة شبيه بمجلس إدارة قناة الجزيرة التي حققت نجاحا مهنيا مهما اختلفنا معها في سياساتها. وفي رأيي أنه من العيب القول أن الحرة لا تجد من يعمل بها في وقت يرفض فيه مذيع قدير مثل جمال ريان من العمل بها قبل انطلاقتها لمجرد أنه فلسطيني، ألم يكن ظهور جمال ريان على شاشة الحرة وهو أول قارئ لنشرة أخبار في قناة الجزيرة سيعطي الحرة نسبة كبيرة من المصداقية أمام جمهور واسع من المشاهدين. لا ندري هل هو من حسن حظ جمال ريان أم من سوء حظ قناة الحرة أنها لم تكلف نفسها حتى بالرد على رسالته الإلكترونية حين كانت القناة مجرد فكرة على الورق. إن رفض أي شخص لكونه فلسطيني او مصري أو لبناني أو يمني أو إماراتي بعيدا عن عوامل الكفاءة البحتة من الأخطاء الجسيمة التي يمكن أن ترتكبها أي مؤسسة فما بالنا بمؤسسة أعلامية يفترض فيها أنها تروج لقيم العدالة والبعد عن التفرقة العنصرية. ولهذا نقول إنه لكي تنجح الإدارة الأميركية في تحقيق الإصلاح في العالم العربي فعليها أن تنجح أولا في إصلاح قناة الحرة.

ملاحظات جانبية:
الملاحظة الأولى: ذكرت مصادر في الكونغرس الأميركي لكاتب المقال أنه تم تعيين محقق للإطلاع على وثائق التعاقدات التي أجرتها قناة الحرة مع شركات في لبنان والمغرب والإمارات، وأشارت المصادر نفسها إلى أن هناك من يحاول التدخل لإيقاف التحقيق على الطريقة اليعربية.
الملاحظة الثانية: رأى مصدر مطلع عمل مع قناة الحرة منذ تأسيسها إلى ما قبل أسابيع أن المسؤول الأول عن الشرق الأوسط في مجلس أمناء البث الأميركي نورمان باتيز يعتقد بالفعل أن الحرة نجحت، واعتقاده هذا مبني على استطلاعات رأي تجريها شركة وحيدة لصالح الحرة في بلدان عربية عقب بث برامج خاصة بتلك البلدان يسأل فيها المستطلعه أراؤهم هل شاهدتم الحرة، ولا تنشر نتائج أراء المشاهدين في تلك القناة مثلما لم تجر أي استطلاعات من قبل أي مؤسسة أخرى. ويرى المصدر أن باتيز مواطن أميركي لا يريد الإضرار بوطنه ولكنه يعتمد على نافذه واحدة في رؤية كل ما هو عربي وهذه النافذه تقوده من فشل إلى فشل وقد أدى هذا الفشل إلى عدم التجديد له في منصبه رغم أنه لم يتم تعيين أي بديل له حتى الآن ومازال يمارس عمله إلى أن يتم تعيين البديل أو التجديد له حسب نظام مجلس الأمناء.
الملاحظة الثالثة: قوانين العمل الأميركية تحتم على كافة المؤسسات أن تعطي الأولوية للمواطنين الأميركيين أو المقيمين الدائمين للحصول في جميع الوظائف الشاغرة، ولا ينطبق الأمر على قناة الحرة لأن التأشيرات التي تمنح لغالبية الموظفين هي تأشيرات J 1 المخصصة للتبادل الثقافي وليست تأشيرات عمل H1 التي يفرض القانون بموجبها على المؤسسة الإعلان عن كل وظيفة في الصحف قبل إعطائها لأي أجنبي.
الملاحظة الرابعة: بدأت بعض الصحف الأميركية تجري تحقيقات صحفية في طريقها للنشر عن قناة الحرة تتزامن مع قرب مناقشة التمويل المالي للقناة في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي. ومن غير المستبعد أن يؤدي الحديث عن فضائح إلى تقليص ميزانية الحرة في وقت يحتاج فيه المشروع إلى الإصلاح وليس إلى التقليص أو الإلغاء لأن وجود قناة أميركية ناطقة بالعربية له أهمية كبرى، ولا بد من إنجاحه وتلافي جوانب الخلل فيه إذا كنا جادين في تدعيم برامج الإصلاح السياسي في المنطقة العربية.
الملاحظة الخامسة: اتفقت قناة الحرة منذ أشهر طويلة على تصميم موقع إلكتروني عن طريق شركة في لبنان ولم ير الموقع النور حتى الآن رغم أن الشركات الأميركية أكثر خبرة وأكثر قدرة على تصميم المواقع في أوقات قياسية.
الملاحظة السادسة: رفع أربعة إعلاميين مصريين وخامسة سورية وسادس يمني دعاوى قضائية بتهمة عدم قبولهم في راديو سوا بسبب خلفياته العرقية وفي حال فوزهم في تلك القضايا سوف يتكبد دافع الضريبة الأميركي خسائر فادحة جراء سياسيات التمييز العنصري المرفوضة في المجتمع الأميركي.
الملاحظة السابعة: قرر الرئيس بوش في أبريل الماضي مخاطبة الشعب اللبناني وطلب الاستعانة بمحطة لبنانية بدلا عن الحرة لإيصال الرسالة، ولا ندري كيف استطاع مدير أخبار الحرة اقناع المسؤولين الإعلاميين في البيت الأبيض بأن زوجته الإعلامية المعروفة أفضل من مدير مكتب الحياة إل بي سي لإجراء المقابلة . ورغم تقدير الجمهور لهذه الإعلامية إلا أن المقابلة ظهرت وكأنها مزيفة وظهر الرئيس الأميركي وكأنه متآمر لأن من يجري المقابلة هي زوجة موظف في الحكومة الفيدرالية فهل البيت الأبيض متواطئ في هذا التزييف أم أنه تعرض للخداع أيضا؟!
الملاحظة الثامنة: قررت إدارة الحرة فصل الإعلامي الأميركي المصري مجدي خليل رغم وصفها له بأنه مفكر جيد، وهو بالمناسبة من المعروفين بمناصرتهم لقضايا الديمقراطية والتحديث في المنطقة العربية ومحاربة الإرهاب الفكري، وإلى جانب مجدي خليل تم الاستغناء عن واحد من أفضل المعلقين العرب في واشنطن وهو مدير مكتب جريدة الحياة في العاصمة الأميركية سلامة نعمات وكان السبب أن التأشيرة التي يحملها لا تسمح له بالتعليق في الحرة بعد ن ظل معلقا فيها لأكثر من سنة، فهل كانت الحرة مخالفة للقانون طوال هذه المدة أم أنها مجرد أعذار للتخلص من الأراء القوية في المحطة.
الملاحظتان التاسعة والعاشرة : سيتم تأجيلها إلى حين تلقي الرد على هذه المقالة من أصحاب الأسماء المستعارة.

صحفي يمني أميركي - واشنطن