منذ أن نقل قرشيي مكة الحكم إلى جنوب بلاد الرافدين، حيث الماء وشيء من الخضرة (ولست متأكدا من الوجه الحسن، على الأقل في عصرنا هذا، ومن خلال ما أشاهد على التلفزيون) وتاريخ العراق، في معظمه، مليء بالصراعات الدموية في تنافس محموم على السلطة، كان من أبرز نتائجها إنقسام الأمة إلى شيعة وسنة. هذا الإنقسام سياسي في جوهره لكن كان لابد من تطعيمه لاحقا ببهارات دينية، وهذا شيء طبيعي، فالسياسي لن يدوم، ناهيك أن يسيطر، دون قاعدة ايدولوجية يرتكز عليها أمام اتباعه، ولا أجدى من أن تكون الإيدولوجيا السياسية مبنية على مبادىء دينية، كما ثبت ذلك عبر التاريخ.

واليوم يحترق العراق تحت اقدام أهله في حرب أهلية بين الشيعة والسنة، تعيد معها ذكريات تاريخ معارك الجمل وصفين والنهروان، والتي دارت رحاها بين أقرب الناس إلى الرسول محمد (صلعم)، وبعد وفاته بأقل من ثلاثة عقود. الحرب الأهلية الدائرة الآن عجيبة في بعض مناحيها مألوفة في جوانب أخرى. من عجائبها أن القيادات السياسية العراقية جميعها (ومعها القيادة الأمريكية) ترفض أن تسميها حربا أهلية، ويصر كثير من العراقيين على أن حكاية الشيعة والسنة لم تكن مسألة حساسة داخل نسيج المجتمع العراقي حتى جاء الغزو الأمريكي، وهذه أكذوبة كبرى تؤكدها المذابح اليومية من الطائفتين، حيث ينحر ويفجر الأبرياء بالجملة لمجرد الإنتماء لإحدى الفئتين. في نفس الوقت، تواصل القوى السياسية الشيعية والسنية من تعزيز تحالفاتها السياسية داخليا وخارجيا، ومن قدراتها العسكرية من خلال تكوين ميليشيات عسكرية هدفها الرئيسي الدفاع عن الذات أمام الطائفة الأخرى، ونيل مكاسب سياسية على الأرض قبل أن تركد رياح الحرب، والتي يبدو أنها ستطول. بل إن بعض هذه التكتلات، قد أصبحت فعلا دويلات داخل دولة (على نمط حزب الله في لبنان) لكل منها جيشها وحلفائها، وحتى فضائياتها وصحفها. ومن عجائب هذه الحرب أن القتلة معروف من أين يأتون ومعروف قياداتهم، لكن لا أحد يشير الى تلك القيادات بشكل مباشر بالرغم من أنهم رجال داخل الحكومة أو رؤساء لأحزاب شيعية وسنية لديها أعضاء يمثلونها في البرلمان ولهم في الساحة السياسية حضور واضح وضوح الشمس في رابعة نهاربغداد. وينحصرالحديث عن القيادات العسكرية للقتلة فقط عند الإشارة إلى القاعدة أو الجهاديين العرب، والذين لا تزيد نسبتهم عن خمسة في المئة، كما صرح بذلك الرئيس العراقي جلال الطالباني.

كان بالإمكان للأكراد ان يكونوا اللاعب الرئيسي الثالث في هذه الحرب القذرة، التي يذهب معظم ضحاياها من البسطاء الأبرياء، لكن إنعزالهم جغرافيا في الشمال ساعدهم في أن يبعدوا هذا الشر المستطيرعن أرضهم وعن أبناء جلدتهم. ولو كانوا طرفا لأصبحوا أعداء للشيعة والسنة معا. كما ان الأقليات الكردية في بغداد وكركوك والموصل ومناطق أخرى حذرين من الخوض في هذه اللعبة الخطيرة، لذا فهم الى حد بعيد في مأمن من النيران. ونفس الشيء ينطبق على الأقليات العرقية والدينية الأخرى.

عندما تختلط الأحقاد الطائفية مع الأحقاد العشائرية مع تلك العرقية مع تاريخ مليء بالدموع والدماء من أساسه، فإن الأمل في إيجاد حل من جوف هذا الجسد المريض هو ضرب من ضروب الضحك على العقول وخداع الذات. لقد جاءت احداث الحادي عشر من سبتمبر لتكون مصيبة لها فوائدها عند بعض الأقوام ومنهم الشعب العراقي الذي أخرج من كابوس صدام ليرى النور ويشم الحرية لأول مرة منذ أجيال، لكن قوى الظلام المعشعشة في عمق ذاكرة هذه البلاد أبت إلا أن تعيد العراق الى دوامة القتل والتشريد والتجويع وكأنها تقول بأن هذا قدرنا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

مع رفضي القاطع لأي إحتلال او تدخل خارجي ولأي مصادرة لأي حق، إلا أنني كنت متفائلا بأن العراق مقبل على حقبة من الإستقرار والإزدهار لم يعرفها، في تاريخه الحديث على الأقل، نتيجة للغزو الأمريكي. كان تفاؤلي مبنيا على نقطتين. أولاهما أن الحل الداخلي لمآسي هذا الشعب يستحيل أن يتم من الداخل ولا من خلال القوى الإقليمية. وثانيهما، أن تاريخ أمريكا الإستعماري عادة ما يترك آثارا إيجابية رائعة. فهاهي اليابان جنت نظاما ديموقراطيا متكاملا اخرجها من عبودية الإمبراطور الى نور الحرية والإبداع، حيث تعلمت هذا الدرس على يد أمريكا التي احتلت اليابان ست سنوات بعد ان هزمتها عسكريا واجبرتها ان تعلن الإستسلام، ونصب عندها الجنرال الأمريكي دوغلاس مكارثرحاكما لليابان ما بين اعوام 1945-1951، وهو الذي كتب، مع مستشاريه، الدستور الياباني الذي يسّيراليابان حتى اليوم. ويوجد حوالي أربعين الف عسكري امريكي في الجزراليابانية منذ ذلك التاريخ. وتلك هي المانيا التي احتلت هي أيضا من قبل قوات الحلفاء بقيادة امريكا بعد هزيمة هتلر النكراء عام 1945، وتديراليوم شؤونها السياسية منذ ذلك الحين وفق نظام وضعه الحلفاء. ومازال حتى الساعة عشرات الألآف من الجنود الأمريكيين على أراضيها. ومثل اليابان والمانيا كانت كوريا الجنوبية صناعة أمريكية بإمتياز، يربض فوق أراضيها هي ايضا الآف الجنود الأمريكيين منذ عام 1953 ، السنة التي انتهت فيها الحرب الكورية.

بلعت تلك الدول كبريائها واتجهت للبناء والإنتاج حتى اصبحت مصدرحسد وغبطة أمم وشعوب العالم، بعد ان تركوا خلفهم تلك المرحلة التي قادها فيها سياسيوها الى مغامرات عسكرية مجنونة أدت الى قتل الملايين من تلك الشعوب والى تدمير كامل لأراضيها، صورة مكبرة لما فعله صدام بالعراق من خلال غزوه لايران والكويت ومن خلال ممارساته الإجرامية ضد الشعب العراقي بكل فئاته. اليوم، الإقتصاد الياباني هو الثاني عالميا بعد امريكا، والمانيا ثالثة، وكوريا الجنوبية عاشرة.
كان الغزو الأمريكي فرصة ذهبية للعراق ليكون يابانا أو كوريا مصغرة داخل هذا الجزء المتحجّر من العالم. كانت فرصة ذهبية لجعل التنوع مصدر قوة وليس مصدر ضعف ndash; كما هو الحال في أمريكا نفسهاmdash; من خلال الإعتراف بالفوارق العديدة التي تتكون منها الفسيفساء العراقية، بدلا من دس الرؤوس في الرمال، وتحويل البلاد الى أفغانستان أخرى.

في الختام، ارجوا ان يفهم هذا المقال من خلال سياق براغماتي بعيدا عن أوهام الكرامة والشهامة التي مرغها في المزابل قيادات العراق المتتالية، وعلى رأسهم السجين quot;المهيبquot; صدام ابن حسين، وورثته الحاليين من القيادات السياسية الشيعية والسنية، من خلال فرق القتل والتشريد التابعة لهم والموجهة الى أعناق المواطن العراقي العادي الذي يزداد بؤسا كل يوم. كما ارجوا ان يحاول القاريء، ولو لبرهة ndash; أثناء قراءته هذه الأسطر-- التحرر من أغلال الخطاب القومي الشعبوي، بشقيه الإسلامي والعروبي، والتذكر أن هكذا خطاب لم يقدم لإنسان هذه المنطقة الا البارود والحصرم.

[email protected]

اكاديمي سعودي