مهزلة العقل السياسي الآشوري

لا أعتقد بأن (المشهد الآشوري والمسيحي) الراهن الأليم في العراق، وهو جزء من المشهد العراقي العام، يحتاج الى جهد كبير لقراءته واستشفاف آفاقه المستقبلية القريبة. أنه بكل بساطة ينذر بوقوع كارثة حقيقة للمسيحيين في العراق، من أقصى جنوبه الى أقصى شماله، معظمهم من الآشوريين (سريان/كلدان) والأرمن، حيث تتواصل عمليات الخطف والقتل لأناس عزل أبرياء، لا لشيء فقط لأنهم مسيحيين، وتزداد التفجيرات الإرهابية ضد الكنائس والمنازل وعمليات التهجير القسري، التي تقوم بها منظمات اسلامية وقومجية إرهابية، تمولها منظمات اسلامية وعربية إقليمية وعالمية. أجبرت هذه الأعمال البربرية حتى الآن أكثر من نصف المسيحيين على النزوح والخروج من العراق. ومع استمرار تدهور الأوضاع الأمنية وارتفاع حدة العنف الطائفي والصراع العرقي في العراق تزداد مأساة المسيحيين تفاقماً، وقد تطال لاحقاً معظم آشوريو ومسيحيو المنطقة، من سوريا الى لبنان ومصر، إذا ما بقيت المنطقة تغلي وتلتهب بنار الطائفية، وبالتالي قد يسدل الستار على التاريخ أو الوجود الآشوري الذي يعود الى أكثر من ستة آلاف عام في بلاد مابين النهرين مهد حضارتهم، وتتحقق نبوءة المخرج الفرنسي( روبير آلو) الذي وضع قبل سنوات فلماً وثائقياً عن الآشوريين، بعنوان( آخر الآشوريين) أو (القافلة الأخيرة), بعد أن جالا وتنقل في معظم مناطق والتجمعات الآشورية(سريان/كلدان)(سوريا والعراق وايران وتركيا) مستطلعاً أحوالهم وتابع حركة نزوحهم الديمغرافي ولحق بهم حتى في أوطانهم الجديدة في بلاد الاغتراب، في أمريكا وأوربا، حيث تتوسع وتكبر تجمعات الجاليات الآشورية هناك، بالمقابل تتقلص وتنحسر التجمعات الآشورية والمسيحية في أوطانهم في المشرق العربي الإسلامي.
بالرغم من حجم المأساة وهول الكارثة التي لحقت بالمسيحيين في العراق وتنذر بالمزيد، أعادت الى الذاكرة الآشورية والمسيحية المشرقية ويلات ومآسي (المذبحة المسيحية الكبرى) التي جرت لهم في تركيا العثمانية في بدايات القرن الماضي، فأن مظاهر الفرح والبهجة من رقص وغناء وحفلات سهر ومرح تشغل أكبر المساحات الزمنية والمكانية في البرامج الفضائيات الآشورية وكذلك بالنسبة لمعظم فعاليات التنظيمات والمنظمات وأشباه الأحزاب الآشورية وجميع المؤسسات القومية والاجتماعية الأخرى، داخل الوطن وخارجه. إذ يبدو أن هذه التنظيمات الآشورية فضلت التصدي للمخاطر والتحديات المحدقة بالشعب الآشوري بالرقص والحفلات الساهرة ورفع نخب الوطن (بيث نهرين)، جاعلين من مأساة شعبهم ملهاة يتلذذون ويتاجرون بها. هذا التعايش السلبي أو بالأحرى التكييف المرضي الخطير معالواقع المرير للشعب الآشوري من قبل عموم التنظيمات والحركات والمنظمات القومية الآشورية، يكشف المستوى الهابط لهذه التنظيمات والانحطاط الشامل التي وصلت اليه، أقل ما يمكن أن يقال عن هذه الحالة والظاهرة الخطيرة والغريبة على التاريخ الآشوري إنها: (مهزلة العقل السياسي) الآشوري. إذ، كان المنتظر والمطلوب أن تثور التنظيمات الآشورية ومعها جمهورها- إذا بقي لها من جمهور- وتحرك الجاليات الآشورية في دول المهجر للتظاهر احتجاجاً على الكارثة التي حلت بالشعب الآشوري جراء سياسة التطهير الديني التي تمارسها المنظمات الإسلامية والمجموعات الإرهابية بحق المسيحيين العراقيين. فالتظاهر والاحتجاجهو اقل ما يمكن أن تفعله التنظيمات الآشورية من أجل لفت أنظار العالم لمأساة الآشوريين والمسيحيين في العراق وتحميل المجتمع الدولي مسؤوليته الأخلاقية والإنسانية تجاه هذا الشعب الذي وقع في القرن الماضي ضحية الصراعات الدولية وتناقض مصالح القوى الكبرى في المنطقة، وها هو اليوم يعيد التاريخ نفسه على الآشوريين والمسيحيين في المنطقة وتتكرر محنتهم بعد نحو قرن لتقضي على ما تبقى منهم. قبل اسابيع استنفر مسلمو الشرق والعالم على بضع جمل للبابا بنديكدتوس اسيء فهمها، وقبلها استنفروا على رسومات كاريكاتيرية على نفس الوزن وخرجوا الى الشوارع غاضبين يطالبون بالانتقام والقصاص من كل من ينتقد الإسلام أو يتهجم ويتطاول على دينهم ونبيهم. في حين اليوم يتعرض مسيحيو العراق لعمليات تطهير ديني وابادة جماعية على أيدي منظمات ومجموعات اسلامية ارهابية وباسم الإسلام، لكن لا نرى ردة فعل الشارع المسيحي في الشرق ولا في الغرب هي بمستوى الحدث والخطورة التي ينطوي عليها. ألا يستحق ما يحصل للمسيحيين العراقيين ومعظمهم من الآشوريين يوم غضب مسيحي أو آشوري تدعو اليه التنظيمات والمؤسسات الكنسية والقومية (الآشورية/السريانية/الكلدانية)، أم أنها فضلت الصمت والسكوت ودفن الشهداء الآشوريين على أنغام الموسيقى والطرب ودعوات البابا بنديكدتوس للسلام، هرباً من مواجهة الحقيقة المرة ومصارحة الجماهير الآشورية بها ولتغطي(التنظيمات الآشورية) على إخفاقها وإفلاسها، هذا الإفلاس بات يطرح تساؤلات مشروعة تتعلق بمبررات وجود التنظيمات الآشورية ودواعي بقائها، خاصة بعد أن ثبت عجزها التام في القيام بالحد الأدنى من أجل الشعب الآشوري في ايام الشدائد والمحن، وبعد أن اتضح بأن هذا التنظيمات الآشورية على اختلافها لم تعمل يوماً من أجل حقوق ومستقبل الآشوريين، التي تتغنى بها ليلاً نهاراً، وإنما من أجل ضمان وتأمين بعض المنافع والمصالح الحزبية والشخصية الضيقة هنا وهناك. وها هي اليوم قيادتها تتسابق في الحصول على (غرين كارت ) والجنسية الأمريكية والكندية، وتهرب أبناءها بحجة الدراسة في الجامعات الأوربية والأمريكية للإقامة والاستقرار هناك، (المنظمة الآثورية الديمقراطية في سوريا نموذجاً)، ليرحلوا على أول طائرة، في حال تدهور الوضع الأمني في سوريا.
بالرغم من التحولات السياسية والفكرية العميقة التي أصابت العالم شرقاً وغرباً وطالت الجميع، دولاً و مؤسسات وأحزاب ومنظمات وأفراد ، لكن يبدو أن المنظمة الآثورية تجمدت وبقيت خارج الزمن وبعيدة عن حركة التاريخ. لهذا هي أضحت متخلفة ومتأخرة عن عصرها وزمانها، في غالبية مواقفها وخطاباتها السياسية، آخرها المشهد السياسي الحزين- حزين لمن يفهم ويستوعب- الذي ساد أجواء الندوة التي أقامتها القيادة الهجينة للمنظمة الآثورية قبل ايام في القامشلي حاضر فيها الباحث الآشوري العراقي (هرمز أبونا)، حيث قدم أحد الحضور، وهو سرياني مستعرب، من أتباع (البعث الصدامي البائد) أمضى أكثر من خمسة عشرة عاماً في السجون السورية على خلفيته السياسية، خاطب قيادة المنظمة الآثورية ومن خلالها الحضور على الطريقة البعثية القديمة، امتدح الدكتاتور المخلوع (صدام حسن) ووصفه بالرفيق ورفعه الى مستوى الأبطال الآشوريين التاريخيين العظماء وأشاد بالعصابات الصدامية التي تعبث بمصير العراق والحقت به الدمار والخراب وجرت على أهله الويلات، وختم المداخل الكريم كلامه بترديد مقولة ((من نبوخذ نصر الى صدام حسين)). والفضيحة السياسية الآثورية التي برزت في هذا المشهد السياسي الكارثي والتي تكشف مجدداً (مهزلة العقل السياسي الآثوري)، هي: بدلاً من أن يتصدىمدير الندوة، وهو قيادي في المنظمة الآثورية، للخطيب المداخل ويعتذر من الضيف المحاضر ومن الحضور على هذا الخطاب المتخلف والمؤدلج بالآيديولوجيا البعثية المهترئة والمهزومة، قبل الخطاب بتصفيق حار من قبل قيادة المنظمة الآثورية ومن خلفها كوادرها وأنصارها في القاعة، بسذاجة سياسية لا توصف، ومن غير أن يحترم أحداً منهم، مشاعر ضيفهم المحاضر القدير(هرمز أبونا) الذي ترك وطنه(العراق)، وآلاف مؤلفة من العراقيين مثله، هرباً من بطش حكم صدام حسين وإرهاب عصاباته.
أيها الآشوريون(سريان/كلدان)، إذ لم يكن بإمكانكم أن تثوروا على أعدائكم وتنتقيمون منهم، ثوروا على التنظيمات والأحزاب الآشورية/السريانية /الكلدانية، والعنوها قبل أن تبيعكم في الأسواق السياسية، في دولة كردستان الوليدة أو في دولة العراق التي تحتضر أو في سوريا المهزوزة، من أجل مقعد في مجالسها و برلماناتها الهزيلة أو بحفنة من الدولارات في سوق النخاسة في إحدى الدول الأوربية الى مافيات الهجرة.

كاتب سوري
shosin@scs-net.org