هاهي ndash; أيها السادة - تجربة (عرب الصحراء) في (دبي) تحقق المعجزات، في حين أن (عرب الماء) العروبيين، أو القوميين، ينتقلون من فشل إلى فشل، ومن مأزق إلى مأزق، ومن معضلة إلى معضلة، ومن أزمة إلى أزمة، ومن حرب أهلية إلى حرب أهلية أخرى؛ رغم أنهم كانوا يظنون أنهم دول المركز (العظماء) وعرب الصحراء هم دول الأطراف (الضعفاء)، كما كان يقول كبيرهم (هيكل) آخر أساطين فكر الهزيمة والتخلف وتغييب الوعي العروبيين. عرب الشمال كان لديهم الماء، وكان لديهم النفط، وكان لديهم سابق الخبرة والتعليم، وكان لديهم القرب الجغرافي من الغرب مهد الحضارة الحالية؛ ومع ذلك فشلوا فشلاً ذريعاً، وما زالوا في نفس مقامهم ( يتجادلون) منذ أكثر من ثمانين سنة لا يبرحونه قيد أنملة!.
ليس سبب تفوق دبي هو النفط، ففي العراق، وفي جماهيرية القذافي (العظمى)، وفي بلاد المليوني شهيد، أضعاف مضاعفة مما تمتلكه دبي من النفط. غير أن السبب ببساطة أن(الدّبويين) لم يكن لديهم حضارة سالفة، وتاريخ مجيد تجتذبهم عقده وأطلاله الشامخة نحو (الماضي)، ونحو الوراء، ولم يشغلهم البكاء على أجداث المقابر عن النماء والحضارة. ولحسن حظهم، لم يحفل بهم منظرو بني يعرب في تاريخهم، فنجوا من فيروس التخلف والمتخلفين.
بدؤوا من (الصفر) وربما من أقل من الصفر. لم يستوردوا (الأيديولوجيات)، ولم يحفلوا يوماً ما بالعروبة، وما طرقت مسامعهم قصة جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده (مارتن لوثر) النهضة العربية كما يسمونه. ولم يعرف شبابهم ولا شيبهم ماركس ولا الماركسية، ولا عفلق والبعث، ولا بكى أشياخهم وشبابهم على السلطان عبدالحميد ودولة الخلافة عندما سقطت، ولا التحقَ المراهقون منهم في حلقات (تحريضية) ضد كل ما هو إنساني، يستمعون إلى خطب الإمام الشهيد حسن البنا النارية، ويقرؤون، وعيونهم تتقادح شرراً، كتب سيد قطب؛ وإنما استوردوا المعرفة والتكنولوجيا والإدارة، والعمالة المدربة، والعقول القادرة على العطاء والإبداع والتفوق؛ أخذوا من الغرب والشرق معاً العلم والعملية والتجربة الاقتصادية، وبعضاً من (جاهلية القرن العشرين والواحد والعشرين أيضا)، وتركوا لغيرهم (الجدل) والتنظير والأيديولوجيات والأدب والقصائد العصماء، ومقاهي أرباب القلم، وصالونات حواراتهم، وتلك الترهات والخزعبلات، وقضايا الأمة، التي هي بحق لا تسمن ولا تغني من جوع.
مرت مركبة (دبي) التنموية بديار (عرب الماء) بسرعة الصاروخ، متجهة إلى المنافسة على (إدارة الموانئ الأمريكية) ففازت بها؛ ثم كشفت، و بأسلوب متحضر، للعالم أجمع مَنهم (العنصريون) وما هي العنصرية، كشفت قيم الأمريكان وأخلاقياتهم وادعاءاتهم في عقر دارهم، وعلى رؤوس الأشهاد، تركت لهم (صفـْـقتهم) بعد أن (صفـَـقتهم)، ثم انسحبت بهدوء ودونما ضجيج!

مر أهل دبي في طريقهم إلى المجد والتاريخ والمستقبل ببني يعرب (النشامى)، فلم يجدوا في أحياء القوم سوى أعجاز نخل خاوية أو تكاد، جلبة دونما نتيجة، وجعجعة وليس ثمة طحين... في فلسطين : يتجادلون : حماس أم هي فتح التي ستبقى وتمسك بالسلطة؟. في مصر : مشغولون بالصراع بين (الأخوان) وبين الحزب الحاكم، وابن الرئيس الطامح في إرث الرئاسة!. في لبنان : من قتل الحريري ولماذا؟. في العراق: كيف يُمكن تفادي الحرب الأهلية؟. في ليبيا : كيف سيُفلت (العقيد) بعد أن بلغ سن الرشد من مصير صدام؟. في السودان : بأي طريقة سيتخلص ورثة الترابي من نزاع دارفور؟. في اليمن : قبائل تتصارع على كسرة خبز جافة وهل سيفوز (الفريق) الركن بالرئاسة من جديد أم أنه سئمها؟. في الجزائر: هل نجح قانون (الوئام) أم هم في غيهم يعمهون ويتقاتلون؟. في موريتانيا : هل سيخجل العسكر من انقلاباتهم المتلاحقة؟.. أما بقية القوم فيجلسون القرفصاء يستمعون إلى مُـنظر الناصرية (هيكل) على قناة الجزيرة يقص عليهم ndash; لا فضّ فوه - قصة ثورة 23 يوليو المجيدة، وكيف يمكن أن يُبعث عبدالناصر من جديد!. وهناك، في أقصى اليسار، تجد (ثلة) من القوم، يرتدون ربطات عنق أنيقة، وهم يتحلقون على شاعر العروبة والمرأة، والعنصرية أيضاً، نزار قباني وهو ينشد في الجامعة (الأمريكية) في بيروت (يهجو) عرب الصحراء، يقول : (قتل النفط ما بهم من سجايا.... ولقد يقتل الثريّ الثراء) !. ثم يُغرّد بعينيه وقد قتله الوجد وقض مرقده الفراق : (أدمشقٌ كما يقولون كانت.... حين في الليل فكر الياسمين؟). فتلتهب الأكف بالتصفيق وتتعالى الأصوات بالهتاف.. تذهب إلى دمشق لترى تلك المدينة التي يقول نزار أن الياسمين قد أنجبها، فلا تجد إلا التسول والفقر والجوع وثقافة القمامة والتخلف، والأسد الصغير يُطبقُ على خناقها بكلتا يديه، ومعه رهطٌ من الأهل والأصهار والأقارب وأهل المذهب وأهل الذمة، وشلة من شلل الأنس الجدد، يقتسمون الفيء والغنائم؛ لتتأكد من أن أدب نزار لا يعدو أن يكون سوي تزوير محض في أوراق أدبية رسمية. وعلى ذلك فقس، أو حدث - إن أردت ndash; عن بني يعرب وتخلفهم وبذاءتهم وقبحهم وعنصريتهم ولا حرج. وأدب نزار أدق مثال!
وحدها (دبي) من بين بلاد الضاد، سلمت من فيروسات (الايدولوجيا) القومية والإسلاموية، فكانت هي التجربة العربية الوحيدة التي نجحت حضارياً منذ أن غادر الإستعمار بلاد العرب. وضعت دبي الأيديولوجيات في (الخـِـرج)، وركزت على الاقتصاد، وشغلتها التنمية، وتركت خزعبلات (المثقفين) ونظرياتهم لعرب الاجترار والحوار يجترونها صباح مساء. فعانقت نجوم الحضارة بعد أن تركت ديناصورات العروبيين والإسلامويين - لا فرق- يتصارعون على بقية رغيف خبز جاف، وهم في طريقهم للاندثار والتلاشي والانقراض.
ومن غريب الصدف ومصادفات الأقدار أن عرب الجزيرة، أعني عرب الصحراء تحديداً، هم الذين صَـدّروا إلى بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا حضارة الإسلام، فهل يعيد التاريخ نفسه ويعيد (عرب الصحراء) مرة أخرى تصدير تجاربهم التنموية الحضارية إلى بقية بلاد بني يعرب بعد 1500 سنة من تصديرهم الأول، لتصبح معادلة (المركز والأطراف) معادلة معكوسة 100 %؟. أقول : ربما!