على الرغم من ان المشكلة الرئيسية التي يعاني منها التفسير الديني التقليدي التاريخي، الذي تعيش تحت كنفه جميع المدارس الاصولية المنتمية الى المذهبين السني والشيعي وجميع حركات الاسلام السياسي، لاتزال تتمثل في تبنيها قاعدة اساسية في التفكير والتفسير ترفض من خلالها التعايش مع الآخر الديني وغير الديني، إلا انها من جانب آخر لا تزال ترفض المحصلة التي تدّعي أن تفسيرها للدين وفهمها للشريعة ليس سوى فهم إنساني يقع في إطار المعرفة الدينية البشرية. وبشرية فهمها هذا يحملها مسؤولية الاعتراف بالنتيجة التالية: انه ليس فهما نهائيا للدين ولا فوق باقي الأفهام كما لا يعتبر فهما مقدسا يتجاوز الادراك البشري. وترتبط تلك النتيجة بأسباب عديدة من ضمنها أن المعرفة الدينية هي معرفة عجينة بالمعارف البشرية الأخرى غير الدينية ولا يمكن فصلها عنها. وبالتالي لا يمكن وصم من يختلف في فهمه وتفسيره للدين ممن يعتمد على منهجية للتفسير تستند إلى الاستعانة بالعلوم غير الدينية المختلفة، بالردة والزندقة والشرك والتكفير.

فالمعرفة الدينية، بوصفها معرفة بشرية، لا يمكن ان تنفصل عن المعارف غير الدينية، بل تعتمد عليها وتستفيد منها وتنطلق من خلالها، مثلها مثل جميع المعارف الأخرى. فهي، لكي تصبح معرفة وفهم، تعتمد على علوم بشرية مختلفة، كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم اللغة والفلسفة وغيرها. ومن دونها لما استطاعت ان تتأسس أو تعلن عن نفسها.
فلو نظرنا الى الفهم الديني الراهن نجده ينطلق من منهجية في الفهم والتفسير تستند إلى العلوم والمعارف البشرية غير الدينية، بل لا يمكن ان يكون الفهم الديني الراهن معرفة إلا من خلال هذا الطريق. quot;فـلا يوجد أي فهم للدين لا يستند إلى معارف ومفاهيم من خارج الدينquot; كما يقول المفكر الايراني الدكتور عبدالكريم سروش، بمعنى أن العلوم غير الدينية تؤثر بشكل مباشر في الفهم الديني.

ويؤكد سروش أن علم الأنسنة وعلم الاجتماع ومناهج العلوم والفلسفة quot;كلها حاضرة في فهم الدينquot;. ويضرب مثلا على ذلك بالقول: أن فيلسوفا مثل هيغل أو مثل كانت، بعدما اعتنقا فلسفة خاصة، فإن هذه الفلسفة أفسحت مكانا للدين، وبالتالي فإن شريعة الدين لا يمكنها ان تكتشف معطى يسمح بطرد الفلسفة من الدين. كذلك يقول سروش: حين يرى حكيم أرسطوي (نسبة إلى أرسطو) في أحد النصوص الدينية ألفاظا مثل: الانسان، الجسم، الحلم، الموت، النور، السماء،.. فإنه لا يمكن إلا ان يدركها إدراكا أرسطويّا، وبالتالي فهو يعرف الله المعرفة التي تقتضيها أدلته الفلسفية.

ان ذلك الفهم الديني القائم على نظرة فلسفية (أي علمية)، يعارضه البعض ويعتبره باطلا ويوصمه بالبدعة والزندقة ويخرج صاحبه من الدين لمجرد انه فهم انطلق من نقطة علمية لا يعترف بها هذا البعض ولا بنتائجها المعرفية والإيمانية، رغم انه - أي هذا البعض - ينطلق في فهمه للدين من نظرة علمية ومن مناهج بشرية في التفسير. ورغم هذا التباين والاختلاف إلا ان المعرفة الدينية في النهاية ليست سوى فهم بشري غير منته، فهم لا يستطيع بأي حال من الأحوال ان ينفك عن العلوم البشرية، كما يمكنه ان يكون فهما صحيحا أو فهما باطلا.

والتاريخ الاسلامي يشهد كيف اختلف ndash; على سبيل المثال - اهل الحديث مع اهل التفكير الكلامي حول استخدام العلوم المختلفة في منهج التفسير وفي فهم الدين، بحيث أخرج اصحاب الحديث اصحاب الكلام من الدين الاسلامي ووصموا محاولاتهم بالبدع والزندقة، خاصة تدبر النصوص المتشابهة وتأويلها.
فقد نقل عن مالك بن انس 179هـ حظر السؤال في بعض المسائل واعتبار مثل هذا السؤال بدعة. فحين سؤل مالك عن كيفية الاستواء على العرش؟ أجاب: quot;الإستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعةquot;. ولهذا وسم جميع الذين يتعاطون التفكير والحديث في ذات الباري وصفاته بالمبتدعين، وكان يحذر من هذه البدع ويقول: quot;إياكم والبدع، قيل يا أبا عبدالله وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسانquot;، وكان يقول: quot;من طلب الدين بالكلام فقد تزندقquot;.

كما نقل عن الشافعي 204هـ في حكمه على أهل الكلام الذين يختلفون عنع في التفكير quot;يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك السنة وأخذ في الكلامquot;. وقال في من يخوض في هذا العلم quot; إن أنت أصبت فيه لم تؤجر، وإن أنت أخطأت فيه كفرت..quot;. ونقلت عن أحمد بن حنبل 241هـ أقوال قاسية في ذم المتكلمين كقوله: quot;علماء الكلام زنادقةquot;.

وفي الكويت ما لبث أن وصم نواب وشخصيات من التيار الديني السلفي وممن دأبوا على القول بأنهم quot;وسطيينquot;، المنهج الصوفي وأتباعه بأنهم ينهلون من الشرك والفسق والفجور ويروجون للمخدرات، لا لسبب إلا لأن الصوفية والصوفيين اختاروا علوما معينة ومنهجا مختلفا عن المنهج السلفي في فهم وتفسير الدين وفي ممارسة عباداتهم وطقوسهم.

ويقول سروش quot;ان مجادلات اهل العرفان مع المتكلمين والفلاسفة اليونانيي المشرب، منطلقها أن هؤلاء اثبتوا وجود الله معتمدين على أصول الفلسفة الأرسطية، ولذا راوا في القرآن إلها مناسبا لهذه الأصول. بينما أهل العرفان ينظرون إلى الدين بمنظار آخر، ويعدون لغة الدين من الأساس متعلقة بعالم آخر، لذلك لم يقبلوا آراء أولئك المتكلمين والفلاسفة ولم يستسيغوا لغتهمquot;.

كاتب كويتي
[email protected]