كان يفترض بجوالغزل الجديد بين اليمن من جهة ودول مجلس التعاون الخليجي وأسمه الكامل quot;مجلس التعاون لدول الخليج العربيةquot; من جهة أخرى، أن يكون حكاية حبّ قديمة لوكان هناك في المجلس من يتطلع الى المستقبل ويفكّر في التحديات التي يبدو مقبلاً عليها. كان مفترضاً منذ البداية، أي منذ اليوم الأوّل الذي طرحت فيه اليمن مسألة العلاقة بينها وبين مجلس التعاون في العام 1996وربّما قبل ذلك ، أن يكون هناك تفكير جدّي في الطرح اليمني من منطلق أن اليمن تشكّل العمق الأستراتيجي للدول العربية المطلّة على الخليج وأن أمن هذه الدول من أمن اليمن كما أن أمن اليمن من أمن هذه الدول.
أذا عدنا قليلاً الى خلف، أي الى تاريخ لم يمرّ عليه الزمن بعد، نجد أن قطر كانت الدولة الوحيدة التي شجّعت منذ العام 1996 على أنضمام اليمن الى مجلس التعاون آخذة في الأعتبار أن اليمن تشكّل العمق الأستراتيجي لدول مجلس التعاون وأن ما يقال عن أنها ليست دولة خليجية كلام فارغ ليس ألاّ.
في الأمكان تجاوز ما حصل في الماضي والذي يمكن أن يكون عائداً الى حساسيات تجاه اليمن عائدة الى ظروف معيّنة بينها تحقيق الوحدة اليمنية، والأجدى الحديث عما يدور حالياً خصوصاً من ناحية التقارب بين اليمن ومجلس التعاون الخليجي.
في هذا المجال لا يمكن تجاهل أن المنطقة كلّها دخلت مرحلة جديدة في أعقاب تطورات عدة بينها الفورة النفطية الجديدة والتهديدات التي تواجه الأمن الخليجي بما في ذلك الوضع العراقي والتهديدات التي تتعرّض لها أيران بسبب برنامجها النووي. أنها تهديدات عائدة بشكل مباشر الى أن من يتحكّم بمضيق هرمز، أنّما يتحكّم بجزء لا بأس به من النفط الذي يحتاجه العالم. ومن هذا المنطلق، برزت أهمية اليمن بصفة كونها أحدى الدول القادرة عل توفير سبل لتجاوز مضيق هرمز. ومعنى ذلك أن اليمن صارت بشكل أو بآخر، ومن دون حاجة الى الأعلان رسمياً عن أنضمامها الى مجلس التعاون، جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الأمنية الخليجية العربية. هي في الأصل كذلك، لكن التطورات الأخيرة في المنطقة كرّست هذا الواقع.
فرض الوضع الأقليمي الجديد أعترافاً بأهمية اليمن من نواح مختلفة بما في ذلك ضرورة تأهيلها. فقد تبيّن في النهاية ان اليمن تشكلّ العمق الأستراتيجي لمجلس التعاون الخليجي وأن للمجلس مصلحة مباشرة في العمل على تأهيل هذا البلد الذي يمتلك حضارة عريقة وثروة بشرية من أجل ضمان أمن الدول التي تنتمي اليه. وبكلام أوضح، صار هناك قبول خليجي لا لبس فيه بأن اليمن تعتبر عاملاً أساسياً من عوامل الدفاع عن المنطقة وعن المصالح العربية تحديداً.
يبدو أن العالم ومعه دول المنطقة على أستعداد للأعتراف بأن ثمة توازنات جديدة في المنطقة وأن ليس في الأمكان تجاهل الوضع اليمني بعد الآن. المؤسف أن يمنيين ما زالوا غير قادرين على أستيعاب المعطيات الأقليمية والدولية الجديدة ويصرّون على التعاطي مع الواقع مستخدمين لغة خشبية أقرب ما تكون الى تنظيرات الحزب الأشتراكي عندما كان لا يزال حاكماً في عدن.
يفترض في اليمنيين، جميع اليمنيين في هذه المرحلة أستيعاب أن بلدهم على أعتاب مرحلة جديدة تتوّج سلسلة من المراحل مر فيها البلد منذ السبعينات وكان أبرزها تحقيق الوحدة اليمنية من دون أراقة نقطة دم واحدة ثم الدفاع عن هذه الوحدة ومواجهة مشروع الأنفصال تفادياً لحرب أهلية بين اليمنيين كان معروفاً متى ستبدأ، ولكن ليس معروفاً متى يمكن أن تنتهي.
في حال عدنا الى التاريخ القريب، نجد أن اليمن أستطاعت أن تتجاوز بسلام سلسلة من المراحل صبّت كلّها في أتجاه تكريس الأستقرار في البلد وجعله قادراً على ولوج المرحلة الجديدة التي دخلتها المنطقة. أنها من دون شك مرحلة في غاية الدقة أذا أخذنا في الأعتبار مخاطر الوضع العراقي وأنعكاساته على محيطه القريب والبعيد وأذا أخذنا في الأعتبار أيضاً ما يمكن أن يترتب على المواجهة بين المجتمع الدولي وأيران، تلك المواجهة التي لا يستبعد أن تسير في أتجاه مزيد من التصعيد الذي ينذر بعمل عسكري ما.
لعلّ أوّل ما تحتاجه اليمن هذه الأيام الأبتعاد عن أي نوع من الخضاّت الداخلية كي تستفيد من التطورات التي تشهدها المنطقة، وذلك لا يكون ألاّ بالبناء على الأنجازات التي تراكمت منذ مطلع الثمانينات والعمل على تصحيح أي أخطاء يمكن أن تكون رافقت هذه الأنجازات. لا بدّ اذا من تذكّر أن حكمة الرئيس علي عبدالله صالح كانت وراء رفض الدخول في الصراعات التي شهدها الشطر الجنوبي وأنتهت بأحداث 13 يناير-كانون الثاني 1986 . وكانت الحكمة ذاتها وراء تفادي الدخول في حروب مع الذين خلفوا علي ناصر محمّد في الجنوب، بدل الدخول في مواجهة مع هؤلاء، تم الأتيان بهم الى الوحدة في الثاني والعشرين من مايو- أيّار 1990 . وكانت الحكمة وراء أستنفاد كلّ المساعي الخيرة والوسائل السياسية قبل اللجوء الى السلاح للقضاء على محاولة الأنفصال التي كان نجاحها سيؤدي في أحسن الأحوال الى quot;صوملةquot; اليمن بدل بقائه دولة موحّدة تسعى الى أن تكون على تماس مستمر مع التقدم والحضارة. يمكن الأتيان بأمثلة كثيرة أخرى تدلّ على أن ما تحقق كان كبيراً وأن اليمن أستطاعت تجاوز الكثير من الأفخاخ التي نصبت لها. تكفي في هذا المجال الأشارة الى الفخ الذي نصب لها في جزيرة حنيش التي عادت الى اليمن عن طريق التمسك بالقانون الدولي بدل اللجوء الى السلاح. ويكفي لدى التطرق الى الأنجازات، الأشارة الى ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية وقبل ذلك مع سلطنة عُمان. من كان يجرؤ حتى على الحلم بأن الحدود سترسّم مع السعودية؟
فوق ذلك كلّه، أستطاعت اليمن تطوير تجربتها الديموقراطية على الرغم من كلّ المؤامرات التي أستهدفتها. ألأحزاب موجودة، وصحفها تتحدث عن كلّ ما تريد أن تتحدّث عنه. وتصل الوقاحة التي هي دليل أفلاس سياسي أوّلاً وأخيراً الى حدّ المزايدة وتوجيه كلام مسيء وسيء الى شخص رئيس الجمهورية. ومع ذلك، تستمر الحياة طبيعية في البلد، ويستمرّ العمل على تطويره من منطلق أن الديموقراطية تعني تحمّل الكثير. وبين ما تفرض الديموقراطية على ممارسيها تحمّله منطق اللامنطق من نوع دعوة أحزاب المعارضة التي لا يجمع بينها عملياً شيء، الى تغيير النظام في البلد. أنها تدعو صراحة الى quot;الأخذ بالنظام البرلماني بديلاً من النظام القائمquot;. أنّها تريد تغيير النظام بدل تطويره؟ هل يمكن الحديث عن تبديل للنظام من دون ثورة؟ ثورة على ماذا وعلى من ومن أجل ماذا؟ هل من بديل للديموقراطية في اليمن؟ هل نسيت هذه الأحزاب أن النظام القائم برلماني الى حدّ كبير؟ هل تنسى أن النظام القائم أنبثق عن دستور أُقرّ في أستفتاء شعبي كرس التعددية السياسية والمحافظة على الحريات الشخصية وحمايتها؟ أي دستور يمكن أن تتفق عليه الأطراف التي تطالب بتغيير النظام؟ أي أيدولوجية يمكن أن تجمع بين هذه الأحزاب؟
في الذكرى لسادسة عشرة للوحدة اليمنية، ثمّة حاجة الى القول أن المزايدات لا يمكن أن تكون أساساً لسياسة، لكنّ الحكمة تبنى سياسة وتبني بلداً.ما تحتاجه اليمن في المرحلة المقبلة الى الحكمة أوّلاً. ومعروف جيداً أين هذه الحكمة موجودة. ومعروف جيداً أن اليمن سيستفيد من الأستقرار بعدما تبيّن أنّ مجلس التعاون بات على قناعة بأنها جزء لا يتجزأ من المجلس وأن الأمن الأقليمي لا يمكن أن يختصر بشن حرب على الأرهاب فحسب، بل هناك ما يسمّى الأمن الأجتماعي. هذا الأمن لا يمكن أن يتأمّّن لدول المنطقة في حال عدم الأستثمار في عملية تأهيل اليمن ذات الموقع الأستراتيجي المهم والثروات المحدودة. وهذا الأمن لا يمكن أن يتأمن في حال وجود من يريد تغليب المزايدات على الحكمة والكلام الجميل ظاهراً والفارغ عملياً عن تبديل النظام على الكلام المنطقي عن تطوير النظام!