الجولة الأخيرة في ماراثون الحوار الفلسطيني التي بدأت يوم الخميس الموافق الخامس والعشرين من شهر مايو لعام 2006، لا يستطيع أي شخص أن يتذكر رقمها ضمن جولات هذا الحوار في السنوات العشر الأخيرة، التي كانت تعقد في غزة و رام الله والقاهرة، وقد بدأت الجولة الأخيرة بداية طيبة، ففي اليوم الأول دارت اشتباكات مسلحة بين قوات الأمن الوقائي والقوة التنفيذية التابعة لوزارة الداخلية في شارع الثلاثيني وسط مدينة غزة،أسفرت عن خمسة عشر جريحا بعضهم إصاباته خطيرة، ومما ورد في التفاصيل المثلجة لصدور الفلسطينيين وتنسيهم عدم صرف الرواتب للشهر الثالث على التوالي، أن (جيبا عسكريا لقوات حرس الرئيس الخاص كانت مارة بالمنطقة أثناء الإشتباكات دون علم مسبق لها فيما يجري، فقامت القوة التنفيذية المشكلة من قبل وزير الداخلية بإطلاق الرصاص عليها مما أدى إلى إصابة اثنين من حرس الرئيس). ومن الأخبار المفرحة أن (وزير الداخلية سعيد صيام قرر في اليوم الأول للحوار سحب القوة التنفيذية من شوارع غزة، وتجميعها في نقاط محددة)، وانتهى مؤتمر الحوار الناجح جدا بتقدير امتياز مع مرتبة إصدار العديد من بيانات الخلاف والتشرذم أكثر مما كان قبل بدئه، فقد أعلن وزير الداخلية إعادة نشر القوة التنفيذية في شوارع قطاع غزة، دون أن يوضح للشعب الفلسطيني لماذا سحبها يوم الخميس من الشوارع وأعادها يوم السبت.

وقد كان البيان الختامي لجلسات الحوار التلفزيونية الذي صدر مساء الجمعة الموافق السادس والعشرين من مايو أفضل من رواتب ستة شهور، فقد قرأ عزيز الدويك رئيس المجلس التشريعي هذا البيان الذي أكد في بنده الأول (على حرمة الدم الفلسطيني وضرورة الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني ووحدة فصائله وقواه الوطنية والإسلامية)، وضمن سياق هذه (الحرمة)، لم يوضح البيان أين تقع دماء العشرات الذين حصدتهم حروب فتح ndash; حماس،في خانة(الحرام) أم (الحلال)، وتمرير صفة (الوطنية) و (الإسلامية)، مقرونة باسم التنظيمات الفلسطينية مسألة غريبة وغير منطقية، فهل هذا يعني أن التنظيمات الوطنية غير إسلامية وأن التنظيمات الإسلامية غير وطنية؟. في ظروف المجتمع الفلسطيني الذي يواجه أجرم احتلال عرفه التاريخ، من غير اللائق هذه الصفات الموزعة على التنظيمات الفلسطينية، ومن يوزع هذه الصفات وحسب أية مقاييس؟. تخيلوا أن يصبح اسم حركة فتح (حركة التحرير الوطني الفلسطيني الإسلامية)!!!. ومما نشر في بداية الحوار، أنه بدأ على قاعدة (وثيقة الوفاق الوطني) التي وضعها المعتقلون والأسرى الفلسطينيين، وأشيع أن ممن وقعوا على الوثيقة عبد الخالق النتشة عضو الهيئة القيادية لحركة حماس و بسام السعدي من حركة الجهاد، وما إن انتهى المؤتمر إلى فشل جديد حتى نفى أسرى حركة حماس في السجون الإسرائيلية أية علاقة لهم بوثيقة الأسرى التي اعتمدها ممثلو الفصائل للحوار الوطني، وقالوا (إن لا علاقة لهم بالوثيقة ولم يشاركوا مطلقا في صياغتها أو نقاشها، ولذلك فهي لا تعبر عن رأي كل الأسرى في السجون الإسرائيلية، ولا تمثل إلا من وقع عليها)، وهكذا لا يستطيع منجم أن يعرف حقيقة المواقف قبل بدء الحوار وبعده، وهكذا مواقف وتغير المواقف وتضاربها لا تؤدي إلا إلى النتيجة التي انتهى إليها حوار الطرشان المذكور.

وقد كانت هذه النتيجة متوقعة منذ لحظة إلقاء الرئيس محمود عباس خطابه في افتتاح المؤتمر، فقد أعلن أنه سيطرح وثيقة الوفاق الوطني للاستفتاء إن لم تتوصل حركتا فتح الوطنية وحماس الإسلامية إلى اتفاق خلال عشرة أيام، وقد كان محمود عباس حادا وواضحا في قوله (إن القضية لا تحتمل. أمامكم عشرة أيام فقط.لا نريد جدلا بيزنطيا. الوضع لا يحتمل وأنا سأطرح هذه الوثيقة على استفتاء شعبي خلال أربعين يوما إن لم تتوصلوا إلى اتفاق ولن أنتظر أكثر من ذلك)، ومن المعروف أن الوثيقة نادت بحصر المقاومة في حدود 1967 وقيام الدولة الفلسطينية ضمن تلك الحدود مما يعني الاعتراف بدولة إسرائيل، التي اعترفت بها كل الاتفاقيات التي وقعتها السلطة الفلسطينية في السنوات العشر الأخيرة قبل رئاسة حماس للحكومة الفلسطينية الجديدة، وقبل ذلك اعترف بها المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 في الجزائر، عندما أعلن قيام الدولة الفلسطينية ضمن حدود عام 1967.

وفورا بادرت حركتا حماس والجهاد إلى رفض دعوة محمود عباس لعرض الوثيقة على استفتاء شعبي، فقد أعلن سامي أبو زهري المتحدث باسم حماس، أن (الحركة ترفض منح التفويض لأية جهة للتفاوض مع إسرائيل، مشيرا إلى عدم دستورية لجوء الرئيس عباس للاستفتاء الشعبي حول وثيقة الوفاق الوطني التي تقدم بها الأسرى الفلسطينيون...إن موضوع الاستفتاء غير قانوني وهو ليس من صلاحيات الرئيس وإنما من صلاحيات المجلس التشريعي الذي يسن القوانين، ولا يجوز أن نسبق الحوار ونبني على فشله لنقول إننا بحاجة إلى الاستفتاء). وكذلك خالد البطش القيادي في حركة الجهاد أعلن رفض حركته القاطع لفكرة الاستفتاء (نحن نرفض الاستفتاء على الجمهور على اعتبار أنه قد يؤدي إلى نتائج تضر القضية الفلسطينية ضررا مركزيا). وهذه المواقف مستهجنة من حماس والجهاد. فحماس التي وصلت لرئاسة الحكومة الفلسطينية من خلال استفتاء جماهيري، ترفض الاستفتاء الجماهيري على الوثيقة. وحركة الجهاد ترفض الاستفتاء لتخوفها أن يأتي بنتائج خطيرة على القضية الفلسطينية، وهذا يعني عدم ثقة الحركة في الجماهير الفلسطينية، ومن باب النقاش نقول: إذا كنا نخاف من رأي الشعب الفلسطيني في الاستفتاء، فمن يخطط لهذا الشعب، هل تنظيم أو تنظيمان أكثر وعيا وصدقا من عموم الشعب الفلسطيني كي يخاف البعض من نتائج استفتاء الشعب؟؟. هذا في حين تضع حركة فتح وتنظيمات أخرى مثل الجبهة الديمقراطية قوتها وراء فكرة إقرار الوثيقة أو اللجوء للاستفتاء.

وهكذا فمن جولة حوار إلى جولة أخرى، ومن لجنة إلى لجنة أخرى، فما إن انتهى مؤتمر الحوار بدون حوار بدليل تمترس كل فريق وراء مواقفه المسبقة، حتى بادر المؤتمرون لتشكيل لجنة الحوار الوطني برئاسة الرئيس الفلسطيني محمود عباس وعضوية ممثلين عن المجلسين الوطني والتشريعي ومؤسسات المجتمع الوطني والقوى الوطنية والإسلامية (حسب تسمية الإعلان)، وسيكون على راس جدول أعمالها (الخروج ببرنامج وطني موحد يعزز الصمود ويعمق الوحدة الوطنية)..لا يوجد أجمل من هذا الشعار البراق، ولكن ينسى البعض أن حركة حماس ليست ممثلة في المجلس الوطني وبالتالي فهي لا توافق على إعلانه الدولة الفلسطينية ضمن حدود عام 1967 أي الاعتراف بدولة إسرائيل، وكذلك حركة الجهاد غير ممثلة في المجلس التشريعي الحالي الذي أوصل حماس لرئاسة الحكومة، وقاطعت أساسا الانتخابات التشريعية وهذا عمليا يعني عدم اعترافها بنتائجها، بدليل أن حركة حماس منذ وصولها لرئاسة الحكومة لم تطلق رصاصة واحدة على كل اعتداءات وعمليات القتل الإسرائيلية طوال الشهور الماضية، في حين أن حركة الجهاد مستمرة في عملياتها وأحيانا في داخل دولة إسرائيل.

إن المتحاورين الفلسطينيين لن يتوصلوا لأية نتيجة مشتركة سواء تحاوروا في غزة ورام الله أو في القاهرة برعاية مصرية أم برعاية جزر القمر العضو في جامعة الدول العربية، طالما لا تسمع القوى والتنظيمات لبعض، وتدخل صالونات الحوار وكل تنظيم منها يعتقد أن سياسته وخططه هي الأصح ويجب أن تسود حتى ولو بقوة سلاح قتل الآخر كما تشهد شوارع القطاع والضفة...والمبكي بدون ضحك أن كل تنظيم منها يدّعي أنه هو الحارس الأمين على الثوابت الوطنية دون الاتفاق على ما هي هذه الثوابت الوطنية؟. وبالتالي هل هو حوار عقلاء أم حوار طرشان؟؟. وهل كنت أنا الوحيد الذي سمع أثناء زياراته إلى القطاع والضفة تحسر العديد من الفلسطينيين على أيام الاحتلال (سقى الله أيام الاحتلال)..وكما يقول المثل : مين إللي لزّك على المرّ؟ قال : إللي أمر منّو...فعلا إن حروب فتح و حماس أمرّ من ظلم الاحتلال...والمبكي بدون ضحك أيضا أن جيش الاحتلال يواصل جرائمه الوحشية في كافة شوارع وأحياء القطاع والضفة، ويوميا يقدم الشعب الفلسطيني الشهداء والجرحى، والمتحاورون الفلسطينيون رعاهم الله لا يسمعون بعض ....فالكل على حق و الضائع هو الحق الفلسطيني!!. وكما كان يدعو جدّي: اللهم أجرنا مما هو أعظم!!. والكثيرون من الشعب الفلسطيني أعربوا عن تخوفهم من هذا الأعظم بعد فشل الحوار وتبادل التهم والتصريحات المتناقضة...نعم اللهم أجرنا مما هو أعظم!!.
[email protected]