منذ سقوط نظام الطاغية صدام حسين وحصول الشعب الكردي في إقليم كردستان على الحرية والأمن، بعد عذاب وشقاء ومجازر سنوات عديدة، فتح فجأة في الصحافة والحياة اليومية العربية ملف جديد هو الوجود الإسرائيلي في الإقليم، واختلطت المعلومات والشائعات إلى أن تبنت المخيلة العربية ما يشبه حقيقة غير قابلة للنقاش مفادها (أن الموساد والشركات الإسرائيلية تعمل علنا في كل شارع وحارة من السليمانية إلى أربيل بعلم السلطات الكردية و حمايتها، وأن العديدين من العرب شاهدوا العلم الإسرائيلي بنجمته السداسية يخفق عاليا في سماء كردستان)، وقد تجذرت هذه الشائعات إلى ما يفوق الحقيقة، إلى حد أنه بعد عودتي من زيارتي إلى إقليم كردستان في فبراير من عام 2004، سألني العشرات من أصدقائي في أكثر من عاصمة عربية عن الوجود الإسرائيلي هناك، واستغرب غالبية هؤلاء الأصدقاء أنني لم أشاهد الإسرائيليين وموسادهم في الشوارع والمطاعم والحدائق الكردية. وقد عادت هذه الحقيقة - الإشاعة إلى الواجهة في الأسابيع القليلة الماضية عقب زيارة مسعود البارازاني رئيس إقليم كردستان إلى الكويت، حيث سئل من الإعلام هناك عن العلاقات الكردية ndash; الإسرائيلية، فأجاب بوضوح شديد قائلا:(لا أدري إلى متى سوف أسأل عن التغلغل الإسرائيلي في الإقليم فذلك غير صحيح، وإسرائيل متغلغلة في كل الدول العربية... و العلاقة معها لا نعتبرها جريمة. لكننا جزء من الدولة العراقية، فإذا أقامت بغداد علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، بطبيعة الحال سيكون لنا علاقات مماثلة. القنصلية الإسرائيلية ستفتح في أربيل إذا افتتحت السفارة الإسرائيلية في بغداد، وبعكسه لن تكون هناك علاقات مع إسرائيل).

هل هناك صراحة ووضوح أكثر من ذلك، فمسعود البارازاني في هذا التصريح أجرأ و أصدق من العديد من المسؤولين العرب الذين يقيمون أوسع العلاقات السرية والعلنية مع إسرائيل، وشعوبهم تعرف ذلك ولكنهم يكذبون أمام الإعلام وينفون هذه العلاقات. في حين أن مسعود البارازاني فعلا كما نقول يضع النقاط على الحروف فهو يعلنها صريحة: نحن أي الأكراد (جزء من الدولة العراقية)، وفي هذا رد حاسم على كل من يدّعي أن الشعب الكردي في الإقليم يخطط للتقسيم أو الانفصال، وكان الزعيم الكردي جلال الطالباني رئيس الجمهورية العراقية قد أكد ذلك في الأول من يناير لعام 2005 قبل انتخابه للرئاسة العراقية، إذ قال لجريدة الشرق الأوسط اللندنية حرفيا:(إن وجودنا ضمن العراق يسهم في تأسيس عراق ديمقراطي يكون لنا دور فيه.... باختصار نريد أن نكون جزءا من العراق الديمقراطي الفيدرالي... إن فكرة الانفصال تصلح شعارا جذابا لكن بالتأكيد ستقود إلى العبث.. إن الانفصال غير واقعي وغير مفيد وغيرمثمر). وما دام هذا هو الواقع المعترف به كرديا والمطلوب عربيا عراقيا، فلا يجوز لرئاسة الإقليم أن تقيم أية علاقات مع إسرائيل، وإذا أقامت الدولة العراقية التي تمثل كل أطياف المجتمع العراقي علاقة واعترافا بإسرائيل فمن الطبيعي عندئذ أن تفتح قنصلية لإسرائيل في أربيل وربما البصرة، وهذا الأمر تحدده عندئذ الدولتان(العراق و إسرائيل) وليس حكام إقليم كردستان وحدهم. الغريب أن غالبية الإعلام العربي مستمر في ترديد الإشاعة عن التغلغل الإسرائيلي في كردستان، متجاهلا تصريحات مسعود البارازاني الواضحة، ومتجاهلا كذلك تأكيده أن الأكراد وإقليم كردستان جزء من الدولة العراقية، مستمرا في ترديد رغبة الأكراد وتخطيطهم للانفصال عن العراق. إن هذا لا يعني سوى الإصرار المسبق على بث روح العداء والفرقة بين الشعب الكردي والشعوب العربية وهذا ليس في مصلحة الجميع، لأن التداخل بين نسيج الشعب الكردي والشعوب العربية خاصة في العراق وسورية لا يمكن تجاهله، والعاقل فعلا لا يعمل إلا من أجل تمتين هذا الترابط لأنه يخدم مصلحة الطرفين. وإذا أردت مجاراة نظرية المؤامرة السائدة في الثقافة الشعبية العربية، أستطيع القول أن بث روح الفرقة والكراهية بين الشعبين لا تستفيد منه إلا إسرائيل، و إلا لماذا يسكت العرب على علاقاتهم القائمة فعلا مع إسرائيل وفي كل المستويات علنا، ويبثون إشاعات وأوهام مضخمة عن علاقة مفترضة بين إسرائيل وإقليم كردستان؟.

لماذا ينسى أو يتناسى العرب أن جمهورية مصر العربية ذات الخمسة والسبعين مليونا، تقيم علاقات سياسية واقتصادية وسياحية مع إسرائيل منذ عام 1979 أي منذ أكثر ربع قرن؟. وغالبية السياح في كافة منتجعات سيناء من شرم الشيخ إلى طابا وذهب هم من الإسرائيليين. وبالإضافة للدول العربية المعترفة علنا بدولة إسرائيل بما فيها موريتانيا، هناك العديد من الدول تقيم علاقات علنية متنوعة دون الاعتراف الدبلوماسي العلني، كدولة قطر التي افتتح فيها المكتب التجاري الإسرائيلي منذ سنوات، دون اعتراض أو نقد من أي عربي بما فيهم فضيلة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي الذي يقيم ويعمل في قطر ويحمل جنسيتها. وأيضا الرئيس المناضل صدام حسين حامي البوابة الشرقية، ومؤسس جيش القدس بملايينه الخمسة وفدائيي صدام بمليون ونصف، وقاهر الفرس المجوس، وصاحب نظرية تحرير فلسطين انطلاقا من الكويت بسبب قرب حدودها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي أكثر من قرب جولان البعث السوري من الحدود الإسرائيلية، كان أيضا هذا القائد المؤمن يخطط ويتوق ويتمنى إقامة علاقات مع دولة إسرائيل، ورغم الوثائق والإثباتات حول هذا الأمر، إلا أن غالبية الإعلام العربي يتجاهل هذه الوقائع لانشغاله بتغذية إشاعة و وهم العلاقات الكردية الإسرائيلية. وكما نشرت (إيلاف) في السابع عشر من يناير لعام 2005، عن الوثيقة التي أعلنت في برلين بألمانيا (أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يهود باراك التقى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في البيت الأبيض في الخامس عشر من شهر كانون الثاني(يناير) عام 1999، وبعد المباحثات طلب من جميع المستشارين مغادرة المكتب ليتحدث باراك مع كلينتون في أمر سري جدا. وعندما خرج الجميع أعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي عن عزم بلاده إجراء محادثات مع صدام حسين، وذكر سببين لذلك: الأول هو أن إسرائيل ترى في إيران خطرا دائما على المنطقة ولذلك فإن مد الجسور مع العراق، عدو النظام المتشدد دينيا في طهران، قد يعود بالفائدة على إسرائيل. أما السبب الثاني فهو أن تحريك التقارب العراقي الإسرائيلي من شأنه أن يدفع دمشق إلى الدخول في محادثات سلمية حاسمة. وأبدى الرئيس الأمريكي يوم ذاك تفهما لحجج باراك وأعطاه الضوء الأخضر. وتمت بالفعل اتصالات عراقية إسرائيلية في مدينة أوربية يعتقد أنها لندن. ولم يكن هذا الاتصال الأول بين مسؤولين عراقيين وإسرائيليين، ففي منتصف التسعينات جرت أيضا سلسلة من اللقاءات السرية في عدة مدن أوربية علم بها السفير الأمريكي لدى إسرائيل مارتين أنديك، لكنه لم ير قيمة لها ولذا لم يرفع إلى وزارة الخارجية الأمريكية تقارير عنها). ومما يدعم ذلك ما كشفه محمد المشاط سفير العراق السابق في واشنطن، إذ كتب في جريدة الشرق الأوسط الصادرة في لندن، يوم التاسع والعشرين من مايو 2004 عن محاولات صدام التقارب مع إسرائيل، ومما جاء فيما كتبه قوله:(إن زيف صدام في دفاعه عن القضية الفلسطينية قد أصبح واضحا بعد تعييني سفيرا للعراق في واشنطن عام 1989، إذ قبل مغادرتي إلى العاصمة الأمريكية، استدعاني طارق عزيز وكان وقتها وزيرا للخارجية ليبلغني توجيهات صدام حسين، وقال بالحرف الواحدquot; عليك أن لا تتطرق إلى مشكلة فلسطين وذلك بانتقاد إسرائيلquot;، وقال أيضا ما معناه عليك أن لا تتحرش بإسرائيل، والإشارة إلى الأعمال التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين. ثم أشار إلى أن توجيهات الرئيس صدام حسين تقضي بالتغاضي عن القضية الفلسطينية والامتناع عن انتقاد إسرائيل). وقد أكدّ هذه الاتصالات الرئيس العراقي جلال الطالباني في حديثه لجريدة الشرق الأوسط المشار إليه سابقا، إذ قال: (إن مسعى النظام العراقي السابق لإقامة علاقات مع إسرائيل جرى من خلال أستاذة في جامعة هارفارد الأمريكية، أتت إلى كردستان أثناء الحرب العراقية- الإيرانية لتفتش عن محاولة انقلابية جرت وفشلت ضد النظام البائد)، وقال الطالباني أنها التقته وأخبرته أنه (خلال وجودها في واشنطن اتصلت بها منظمة يهودية وطلبت منها لقاء سفير العراق نزار حمدون بناءا على رغبة منه لعلمه بقربها من رئيس الوزراء الإسرائيلي حينئذ إسحق رابين. وبالفعل التقت السفير العراقي الذي طلب منها الذهاب إلى بغداد للقاء وزير الخارجية طارق عزيز لحمل رسالة إلى إسرائيل. وفي بغداد أخبرها طارق عزيز عن استعداد العراق للاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات معها وعدم التشدد تجاه القضية الفلسطينية بشرط أن تؤيد إسرائيل العراق في حربه ضد إيران وإقامة علاقات مباشرة بين الموساد والمخابرات العراقية تكون سرية عبر واشنطن. وعندما ذهبت الأستاذة الجامعية إلى إسرائيل والتقت مع رابين و أخبرها بأنه سيعطيها الإجابة بعد يومين. وعقب ذلك ردّ عليها قائلا: نحن لا نثق بصدام ونريد ورقة بخط يده تحتوي على كافة هذه النقاط. وقال لها أيضا: إن صدام عقد اتفاقية مع إيران واحتفل بها وها هو يحاربها الآن. أما بالنسبة لإجراء علاقات بين بغداد وجهاز الموساد فهي موجودة بالفعل ومتواصلة). وأضاف الطالباني:(وعندما وصلت الأستاذة إلى بغداد وأبلغتهم بالرد الإسرائيلي، أجابها طارق عزيز بأنه يمكنه أن يوقع بخط يده على كافة التعهدات. وعندما أبلغت رابين بذلك رفض وصمم على موقفه أن تكون الورقة موقعة بخط صدام. وعندما عادت إلى طارق عزيز الذي كان يحتل منصب وزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء أجابها: من يضمن إذا حدث شيء للرئيس صدام ألا تستعمل هذه الورقة ضده. وأبدى استعداده مرة أخرى للتوقيع على العرض العراقي كورقة رسمية، ولكن تمسك إسرائيل بشرطها وعدم ثقتها بحكام بغداد أفشلا المسعى). وهل هناك من العرب من ينتقد أو يركز على اعتراف تركيا الدولة المسلمة بدولة إسرائيل منذ أكثر من نصف قرن، وقيام علاقات مخابراتية واقتصادية ومناورات عسكرية علنية بين الدولتين؟. وهل هناك من انتقد زيارات وزير الخارجية القطري المتكررة لإسرائيل، أو اعتراف الفلسطينيين الرسمي والعلني منذ اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988 بدولة إسرائيل ضمن حدود عام 1967 أي على حوالي ثمانين في المائة من مساحة فلسطين التاريخية؟. والنظام القومي العروبي الوحدوي السوري، بدأ مباحثاته العلنية مع دولة إسرائيل عقب مؤتمر مدريد عام 1991، واستمرت علنية في العديد من العواصم الغربية حتى عام 1995، ثم استؤنفت في ديسمبر عام 1999 بعد توقف أربع سنوات، ومن أجل تسريعها كان لقاء الرئيس حافظ الأسد مع الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في جينيف في مارس عام 2000، ومن يريد تفاصيل هذه المباحثات السورية الإسرائيلية من وجهة النظر السورية، فعليه العودة لكتاب (السلام الداني.. المفاوضات السورية-الإسرائيلية) ل (رضوان زيادة) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 2005، مع الانتباه أنه صادر عن (مركز دراسات الوحدة العربية) وليس جهاز الموساد في إسرائيل، وقد جاء في 860 صفحة وفيه تفاصيل و وثائق تلك المباحثات.

والمثير للغرابة والريبة أن غالبية الإعلام العربي، يتغاضى عن هذه الحقائق القائمة بين إسرائيل والعديد من الأقطار العربية والإسلامية، ومحاولات القائد المؤمن صدام المستميتة إقامة علاقات مع إسرائيل، وجولات المفاوضات السورية-الإسرائيلية العلنية الموثقة، ويستمر في نفخ وتضخيم علاقات وهمية بين إقليم كردستان وإسرائيل وموسادها. إن هذا لا يعني أن الشعب الكردي كله من الملائكة، فكل الشعوب بما فيها الكرد والعرب فيهم الخيرين والأشرار، الطيبين والعنصريين، ولكن الغرض هو العمل على تقوية عوامل التقارب والمحبة بين الشعبين، فهما شعبان لا يمكنهما إلا العيش معا وليس من مصلحتهما الخصام والفتنة، وهذا لا يمكن أن يتحقق ميدانيا إلا بالثقة والصراحة والوضوح، وتوقف الطرفين عن الضخ في أسباب الفرقة والتناحر، لأن العاقل هو من يدرك أن ما يجمع الكرد مع العرب هو أكثر مما يفرقهما إن صحت النوايا، وتوقف الطرفان عن بث الإشاعات والتحريض المباشر و غير المباشر، لأنه من المحزن أن الكردي أصبح في الثقافة الشعبية العربية اليومية يساوي الإسرائيلي إن لم يكن أسوأ منه، بدليل التغاضي والسكوت على الوجود الإسرائيلي الذي أشرت إليه في بلدان العرب والمسلمين، والتركيز على وجود غير موجود في إقليم كردستان.

إن الوصول إلى هذا الغرض يتطلب العمل المشرك بين فعاليات الشعبين الكردي والعربي خاصة الكتاب والمثقفين والسياسيين، لبناء علاقات تفاهم ومحبة بدلا من التناحر والاحتقان الحالي، وعلى الطرف العربي تحديدا أن يرى الحقيقة من خلال النظرة الموضوعية المحايدة، إذ من غير المنطقي أن تكون إسرائيل وموسادها حلالا في الأقطار العربية والإسلامية وحراما في إقليم كردستان إن وجدت. أقصد أنه من العار أن يرى الشخص القشة في عين جاره و يتغاضى عن الخشبة في عينه!! أما الإعلام الكردي خاصة الناطق باللغة العربية فعليه مسؤولية كبيرة في هذا الجانب، ومن أهمها التأكيد الدائم للقراء والمستمعين والمشاهدين العرب، أن شعب الإقليم وحكومته لا يخططان ولا يرغبان في التقسيم والانفصال عن العراق، لأن هذا في الواقع من المستحيل وليس في مصلحة الشعب الكردي ضمن الظروف الإقليمية المحيطة، فلو تغاضى عرب العراق عن هذا، فلن تتغاضى تركيا مطلقا وليس من المستبعد عندئذ أن تجتاح الإقليم عسكريا، لتدخل المنطقة كلها في أوضاع أشد خطورة مما يجري حاليا. بوضوح شديد لا طريق سوى التعايش العربي الكردي القائم على العدل والمساواة والمحبة من خلال نبذ سياسة التفرقة والعنصرية، وإقصاء العنصريين من العرب والأكراد ففي الشعبين من يحرض ويشيع ثقافة الكراهية للآخر. وهذا من مسؤولية عقلاء الطرفين فمصلحتهما المشتركة تستدعي ذلك، ودونه يعني الخلاف والصراع والمشاكل... فهل يعمل العقلاء في الجانبين من أجل ذلك؟؟.
ahmad64@hotmail. com