في كلّ مرّة يصطدم منطق الثورة بمنطق الدولة، يكون الخاسر الأوّل هو الدولة. ولعلّ آخر دليل على ذلك ما شهدته شوارع بيروت مساء الأول من حزيران- يونيو الجاري عندما نزل أنصار quot;حزب اللهquot; الى الشارع بعد عرض برنامج تلفزيوني أعتبروه مسيئاً للأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله. لم يكن الموضوع موضوع أساءة الى زعيم حزب من الأحزاب اللبنانية يتميّز عن غيره بأن لديه ميليشيا مسلّحة. كان الموضوع موضوع توجيه رسالة الى كل من يعنيه الأمر فحواها أن quot;حزب اللهquot; على أستعداد لتدمير البلد على من فيه في حال طرح موضوع نزع سلاحه. كلّ ما في الأمر أن لدى الحزب رسالة تختصر بأن سلاحه لا يمكن أن يكون موضع تفاوض جدّي وان نزع هذا السلاح يعني بكل بساطة تعريض السلم الأهلي اللبناني للخطر. بالنسبة الى الحزب، على لبنان أن يبقى quot;ساحةquot; للنزاعات الأقليمية، بغض النظر عن الكلفة التي على شعبه تحمّلها...
يبدو مسلسل ألأحداث التي شهدها لبنان في اواخر الستّينات من القرن الماضي مستمراً الى الآن بعدما قرّر النظام السوري بدعم أيراني هذه المرّة أستخدام الألغام التي زرعها طوال سنوات في البلد الصغير بهدف أبقائه ضحيّة التصادم بين منطقي الثورة والدولة.
لو لم يكن الأمر على هذا النحو، لما كانت في لبنان مشكلة أسمها سلاح quot;حزب اللهquot; بعد العام 2000 ، خصوصاً بعد تأكيد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن أسرائيل نفّذت القرار الرقم 425 الذي يفرض عليها الأنسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلّة... ولما كانت هناك مشكلة أسمها السلاح الفلسطيني داخل المخيّمات وخارجها وهو سلاح لا يخدم في النهاية سوى أسرائيل التي سعت دائماً الى أبقاء لبنان quot;ساحةquot;. ظهرت النيات الأسرائيلية باكراً وبوضوح عندما أشترطت الدولة اليهودية على الجانب الأميركي الذي أعطى في العام 1976 الضوء الأخضر لدخول القوات السورية الى لبنان، عدم تجاوز السوريين جسر نهر الأولي في جنوب لبنان. كانت حجة أسرائيل وقتذاك أنها في حاجة بين وقت وآخر الى تبادل المناوشات مع الفدائيين الفلسطينيين في جنوب لبنان. ماذا يعني ذلك؟ هل يعني شيئاً آخر غير أن عدم وجود أستقرار في جنوب لبنان وبقاءه خارج سيطرة الدولة اللبنانية جزء من الأستراتيجية الأسرائيلية؟
كانت الخطة التي وضعها الدكتور هنري كيسينجر وقتذاك تقضي بأن تعمل القوات السورية على أحتواء الوضع في لبنان وذلك عبر تمكين النظام السوري من وضع يده على قوّات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. وأستناداً الى ديبلوماسي أميركي رافق دين براون، مبعوث كيسينجر الى لبنان أواخر العام 1975 ، لم يكن لدى وزير الخارجية الأميركي في حينه سوى همّ واحد يتلخص بالحؤول دون تحولّ النزاع اللبناني الى نزاع أقليمي.
كرّست الحرب اللبنانية التي أستمرت حتى العام 1990 لبنان quot;ساحةquot; للنزاعات الأقليمية أحياناً وللتجاذبات الأقليمية في أحيان أخرى، وكانت أسرائيل على أستعداد تام في كل مرة تسنح لها الفرصة للقيام بالمطلوب منها لتأكيد أن لبنان، خصوصاً الجنوب، منطقة خارجة عن سلطة الدولة اللبنانية. أستخدمت وجود المنظمات الفلسطينية المسلّحة حتى العام 1982 ، وها هي تستعين بالوجود المسلّح لquot;حزب اللهquot; والسلاح الفلسطيني الذي لا مبرر له في هذه المرحلة. الأكيد أن أسرائيل لم تنزعج من أطلاق صواريخ quot;مجهولةquot; من جنوب لبنان على قاعدة عسكرية لها في منطقة صفد داخل فلسطين المحتلّة. ربما أفتعلت أسرائيل الجريمة التي وقعت في صيدا، وذهب ضحيتها الأخوان مجذوب وهما مواطنان لبنانيان يعملان مع quot;الجهاد الأسلاميquot;، كي يكون ردٌّ بالصواريخ وكي تعرض عضلاتها في اليوم التالي في البقاع والناعمة والجنوب بهدف واحد وحيد هو أبلاغ العالم أنّ لا وجود لدولة في لبنان.
منذ التوصل الى أتفاق القاهرة في العام 1969 ، أي منذ سبعة وثلاثين عاماً ولبنان يعاني من المشكلة ذاتها التي تتلخّص بمنطق الثورة في مواجهة منطق الدولة. المحزن في هذه الأيام أن هناك لبنانيين يصرّون على عدم الأستفادة من مآسي الماضي وعلى تكرار هذه الأخطاء رافضين الأعتراف بأنه لا يمكن الدعوة الى أحياء مؤسسات الدولة والعمل في الوقت ذاته على تكريس الجنوب اللبناني جبهة مفتوحة لعمليات أقل ما يمكن أن توصف به أنها لا تصبّ في مصلحة البلد. ولا يمكن الحديث عن دولة القانون متى يحتكم quot;حزب اللهquot; الى الشارع مهدداً بأحراق بيروت بدل الأعتراض بالطرق والوسائل القانونية على البرنامج التلفزيوني الذي يشكو منه. أنّه منطق اللامنطق الذي يستخدم لتقويض مؤسسات الدولة اللبنانية على رأسها الجيش الوطني الذي صار الجيش الوحيد في العالم الذي عليه القبول بالتنازل عن سلطته على الأرض اللبنانية، عليه التنازل عن صفة كونه السلاح الشرعي الوحيد في البلد، لمصلحة قوّات غير نظامية لديها أجندة خاصة بها لا علاقة لها بالمصلحة اللبنانية لا من قريب ولا من بعيد.
في النهاية، كلّ ما يمكن قوله أن لبنان لن يتمكّن مرة أخرى من الأستفادة من الفورة النفطية الجديدة في الخليج، تماما كما حصل غي منتصف السبعينات من القرن الماضي، وذلك بسبب وجود من يريد فرض منطق الثورة على منطق الدولة من دون التوقف برهة والتساؤل ولو مرّة واحدة: لماذا على البلد الصغير دفع كلّ هذا الثمن؟ هل يعتقد النظام السوري أنه سيستفيد من ألحاق كلّ هذا الضرر بلبنان؟ اليس هناك في دمشق من يستطيع التفكير بطريقة مختلفة تأخذ في الأعتبار أن سوريا وشعبها سيكونان أكبر المستفيدين من أنتعاش أقتصادي في لبنان وان مثل هذا الأنتعاش الذي سيصب في مصلحة الشعبين والبلدين الشقيقين يعتبر الردّ ألأفضل على المخططات الأسرائيلية؟
يفترض في الذين يراهنون على المواجهة بين منطقي الثورة والدولة لأبقاء لبنان في غرفة العناية الفائقة أن يتذكّروا في أستمرار أن هذه الأستراتيجية تؤذي لبنان، لكنّها ترتدّ في النهاية على الذين يستخدمونها. والدليل على ذلك أن لبنان، على الرغم من كلّ ما تعرّض له ما زال حياً يرزق وأن مؤسسات القطاع الخاص فيه لا تزال تعمل.
المؤسف أن لا أصوات عربية ترتفع عالياً وتقول أنه آن أوان وقف هذه اللعبة التي تدور على أرض لبنان والتي لا تخدم سوى أسرائيل. أن غياب مثل هذه الأصوات العربية الداعمة للحق أوّلاً ولشعب عربي صغير يتعرض لعملية أبتزاز في غاية الوضوح ستكون لها أثارها ونتائجها على المنطقة ككلّ. صار اليوم لبنان quot;ساحةquot; للتجاذبات الأقليمية ترافقها محاولات لعقد صفقات مع الولايات المتّحدة على حسابه. اليوم يُستضعف لبنان في ظلّ صمت عربي مريب. دور من غداً بعد لبنان من الدول العربية الصغيرة؟