دون أدنى شك، فإن الفشل السياسي والأمني المريع في العراق قد ترك آثاره المباشرة على مجمل عمليات التغيير في الشرق الأوسط والعالم العربي!، والفشل العراقي قد وفر محطة إستراحة طويلة ومفتوحة لبقايا الأنظمة القمعية والفاشية وحيث إستفاد البعض من التجربة الدموية المرة في العراق ليعيد صياغة وترتيب أولوياته وأوراقه، ويراجع مواقفه!، ويحاول تصحيح ما يمكنه التصحيح منها، ثم ليطلب العفو والغفران عن كل منزلقات وأخاديد الماضي القريب؟ وهو ما فعله تحديدا نظام العقيد الجماهيري في ليبيا الذي أحسن إستغلال الفشل العراقي في تعويم نفسه، وإبعاد الفوهات عن نظامه!! رغم أن القضية لم تنته بعد..! فما زال هناك الكثير من المطبات والألغام و الملفات المؤجلة التي يمكن فتح مغاليقها في أي لحظة..؟.
وعلى هامش تحرك المعارضة السورية الحافلة بالصراعات البينية والخلافات الفكرية والمنهجية، وتشكيل (جبهة الخلاص الوطني) في لندن والتي ضمت وجوها متناقضة وتيارات متصارعة كان بينها أرث دموي طويل وحافل من خلال جماعة (الإخوان المسلمين) والسيد (عبد الحليم خدام) الذي كان وحتى وقت قريب من الوجوه التاريخية البارزة لنظام البعث السوري وأحد مؤسسيه ورموزه قبل أن ينشق على خلفية الصراعات والأزمات المعهودة في الأنظمة الفاشية حينما تصل للحظات الأزمة والإفلاس السياسي والفكري وتتصاعد التناقضات الممهدة للرحيل النهائي، وقد كان واضحا أن الفشل العراقي ونتائجه المريعة قد خيما على أجواء المؤتمر بل على النفسية العامة لكل المعارضين السوريين على إختلاف أهوائهم ومشاربهم والذين تقض مضاجعهم أحداث العراق المريعة وإنفتاح صندوق العفاريت العراقي على خياراته السوداوية وهم بالتالي من حقهم الكامل أن يعملوا ويجدوا الوسائل المناسبة لمنع أن تتحول دمشق لنسخة عراقية ثانية وهو الخط الأحمر الذي يحاذر الجميع من الإقتراب منه وهو نفسه خشبة الإنقاذ التي يتشبث بها نظام دمشق الذي وصل لنهاية المطاف وبات عاجزا عن إصلاح نفسه أو عن إبتكار الحلول التي تديم حيويته وإستمراريته، لذلك ليس هنالك اليوم في السياسة السورية أفضل من التحجج بحكاية الفشل العراقي وبإشاعة أسطورة إن رحيل نظام البعث السوري يعني بداية الطريق لحرب أهلية سورية ولمرحلة تشظي وفوضى إقليمية جديدة!، ولمرحلة بروز دول طوائف جديدة تقسم المنطقة على أسس متخلفة كما هو الحال في العراق؟ والواقع أنه رغم نقاط التشابه العديدة في التعدد الطائفي والمذهبي وحتى الإثني بين سوريه والعراق إلا أن المستوى الثقافي العام، ودرجة الولاءات الوطنية بالإضافة لحجم المؤثرات الخارجية هو أمر مختلف بالمرة وبالمطلق، فالشعب السوري يختلف إختلافا بينا عن الشعب والمجتمع في العراق؟ و حالة الولاء الوطني لم تكن موضع شك لأي طرف سوري في يوم ما؟ وحتى على مستوى القيادات السورية العليا في المعارضة لا يوجد من يوالي أو يدافع عن مصالح دول إقليمية أخرى كما هو الحال في العراق الممزق منذ أيام معركتي (الجمل) و (صفين) قبل خمسة عشر قرنا من الزمان؟ نعم هنالك في سوريه مخاوف طائفية ملموسة كما فعلت جماعة (الأخوان المسلمين) أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات حينما أثارت في صراعها مع السلطة المسألة الطائفية وركزت على عمليات إغتيال ضد أبناء الطائفة العلوية لمجرد كونهم علويين وبمساعدة لوجستية كاملة من نظام صدام البائد في العراق!! مما ولد في الشارع السوري شعارات سخيفة عايشناها جميعا من خلال متابعة الشعارات على جدران دمشق القديمة لكلمات من أمثال : (يا رب عمر)!! أو (يا رب علي)!! أو (جماعة المرتضى مرت من هنا)!! وغيرها من شعارات التخلف الطائفية والتي يعانيها العراق حاليا! إلا أن تلك الصورة كانت تعبير عن طبيعة النزاع في تلك الفترة!، وطبعا لا أحد يرغب برؤية سوريه وهي تنحدر نحو المستنقع العراقي؟ كما أن المسألة ليست قضية الإستقواء بالأجنبي؟ ولكن ألا ترون معي من أن مطالبة الشعب السوري بإسقاط نظامه عن طريق العصيان المدني!! هي مطالبة حالمة أكثر من كونها واقعية؟ فكيف يتمكن الشعب الأعزل الباحث عن لقمة عيشه من مقاومة وعزل وإسقاط نظام متمرس في عالم المخابرات وفي حماية نفسه وفي شراء الولاء الطائفي ومحصن بأجهزة مخابرات متعددة ومشفرة وعريقة ومؤسساتية تحصي على الناس أنفاسهم وفي ظل جيش مهلهل لا يعتمد على قادته في إحداث أي نوع من التغيير!! هذا النظام المحصن أمنيا الذي ترك مهمة تحرير الأرض المحتلة من الإسرائيليين للزمن أو لمتغيرات السياسة الدولية ووفق سياسة المقايضة وتخصص في الدفاع عن نفسه وفي إلتهام وحجر كل الأصوات مهما كانت مسالمة! فأنظمة على هذه الشاكلة لا تسقط بالريموت كونترول!! وحتى في التجربة العراقية فقد صمد نظام صدام البائد رغم وعورة مرحلة المقاطعة الدولية التي إستمرت لأكثر من عشرة أعوام فشلت خلالها كل المحاولات الإنقلابية وأجهضت فيها كل الإنتفاضات الشعبية، وتهشمت خلالها كل قواعد الضبط والربط الإجتماعية وإنكفأ المجتمع القهقرى صوب الولاءات العشائرية والطائفية بينما صمد النظام في قصوره المحصنة وقلاعه الإستخبارية المنيعة بعد أن هيمن على المرجعيات الدينية والطائفية وركب موجة التدين والورع والتقوى!! والتي لم تنته حتى اليوم فما زال صداما يحمل القرآن الكريم بين يديه وهو في قفص العدالة!! رغم أنه لم يعرف القرآن ولا أحكامه حينما كان في السلطة يتحكم برقاب الملايين!! وهكذا هي الدكتاتورية لا تسقط إلا بالقوة! ولا نعتقد أن نداءات الذين إجتمعوا في لندن حول العصيان المدني يمكن أن تغير حال النظام السوري أو تجعله يخاف ويرتدع ويصلح الأمور ويتخلى عن الدكتاتورية طوعا وسلما.. فقد علمنا التاريخ من أن الطغاة لا يتعضون بتجارب غيرهم، ومن أنه لا يفل الحديد إلا الحديد! ثم أن شعوبنا ليست شعوب أوروبا الشرقية فهي محملة بتراث ثقيل وهائل من شعارات التدين والطائفية والقدرية، وتحكم حزب البعث لأكثر من أربعين عاما في الحياة السياسية والمعاشية والفكرية قد خلق أجيالا تائهة لا تعرف بداية الطريق من نهايته، فقد يبدو من السهل من الخارج دك حصون الدكتاتورية والإرهاب برشاش الكلمات وفذلكات البيان، ولكن لا يعرف الجرح إلا من بعه ألم، ولا الصبابة إلا من يعانيها، وكرابيج الدكتاتورية وجلادي المخابرات لا تتوارى بالريموت كونترول وبالنداءات من الفنادق المكيفة بل من خلال نضال الشوارع المكلف غاليا ومن خلال الدعم الدولي من قوى الحرية التي وحدها تملك من وسائل الضغط وأدوات التغيير ما من شأنه إنجاز المهمة.. أما نداءات (المشتهي والمستحي) فلن تطيل إلا في عمر الدكتاتورية.. تلك هي الحقيقة العارية للأسف......

[email protected]