قبل نصف قرن صدر كتاب quot;وعاظ السلاطينquot; لعلي الوردي, عالم الاجتماع العراقي الراحل، الذي اثار نقاشا وجدلا حادا وهجوما عنيفا وصل الى حد التهديد بالقتل. وقد صدرت للرد عليه اكثر من خمسة كتب ومئات المقالات في الصحف والمجلات، من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، وامتد الهجوم عليه الى المساجد والمجالس والاندية الثقافية وحتى المقاهي والبيوت، بسبب ما طرحه من اراء وافكار نقدية صريحة و جريئة لم يألفها القراء حول وعاظ السلاطين والخطباء والكتاب والشعراء، الذين يعتمدون في خطبهم واحاديثهم وجدلهم على اساس منطق الوعظ والارشاد الافلاطوني القديم، الذي لا يقوم على ما في الطبيعة البشرية من نزعات وميول لا يمكن تغيرها بسهولة، ويستخدمون في ذلك المنطق الشكلي لتبرير ارائهم، وهو منطق السلاطين والمترفين والجالسين في ابراج عاجية. وبحسب الوردي، فان الطبيعة البشرية لا يمكن اصلاحها بالوعظ والارشاد المجرد وحده، حيث لا يمكن التاثير على الانسان قبل معرفة ما جبل عليه من صفات وما تعلمه من سلوك.

وكان القدماء يعتقدون بان الانسان عاقل وحر ويجب ان يسير في الطريق الصحيح الذي يختاره في ضوء المنطق المجرد. ولهذا يكثر الوعاظ من الوعظ والارشاد اعتقادا منهم انهم يستطيعون بذالك تغيير اخلاق الانسان وسلوكه. وقد بقي الوعاظ يمطرون الناس بخطبهم ومواعظهم دون ان ينتفع احد منها بشيء. والمصيبة كما يقول الوردي، انهم دأبوا على وعظ المظلومين وتركوا الظالمين ولهذا اتخذهم المستبدون آلات في ايديهم لينذروا الناس بعذاب الآخرة، وينسوهم بذلك ما حل بهم من عذاب في هذه الدنيا.
وقد رأى الوردي، بان العرب هم من اكثر الشعوب حبا في الوعظ والارشاد والجدل. وان وعاظ السلاطين وشعراء الملوك ومادحي الطغاة، الذين يريدون تغيير طبيعة الناس وتنظيف نفوسهم من ادران الحقد والحسد والانانية والنفاق، هم انفسهم اكثر انانية وحسدا ونفاقا. كما ان تغيير طبيعة الانسان لا يتم الا بتغيير الظروف الاجتماعية التي كانت سببا فيها والدوافع التي دفعت اليها.وعلى وعاظ السلاطين ان يغيروا ما بأنفسهم اولا قبل ان يطلبوا من الاخرين ذلك.

ان العلم الحديث يحاول التعرف على الظروف والدوافع الظاهرة والخفية التي تؤثر في تفكير الناس وسلوكهم وبعد ذلك يحاولون اصلاحهم، في حين ما زال وعاظ السلاطين يتجادلون، كما كان الفلاسفة القدماء، في جدل عقيم وفي مسائل تاريخية عفى عليها الزمن او في مواضيع لا علاقة لها بحياة الانسان اليومية، وان اعادتها وتكرارها لا يخدم سوى تعميق الخلافات بين المسلمين.

لقد اعتاد وعاظ السلاطين ان يرجعوا سبب ما تعاني منها الامة من تفسخ اجتماعي الى سوء الاخلاق واعتبروا الاصلاح امرا سهلا وميسورا، ويقولون انه بمجرد ان يصلح المرء الاخلاق يغسل من القلوب ادران الحسد والانانية ويصبح الناس طيبين وسعداء.

ان خطأ هذا التفكير يعود الى ان النفس البشرية لا يمكن غسلها بالماء والصابون ليزول عنها ما علق بها من ادران. ومهما رفع الوعاظ اصواتهم لتهذيب اخلاق الناس، فانهم لن يؤثروا بمنطقهم المجرد، لان الطبيعة البشرية لا يمكن اصلاحها بالوعظ والارشاد لوحده قبل معرفة السمات والخصائص والظروف التي تحيط بالافراد. وينطبق هذا القول ايضا على الشعراء والمثقفين وغير المثقفين، الذين يطالبون الناس بان يغيروا ما في نفوسهم. ولذلك اعتاد الناس على ان يسمعوا المواعظ والخطب الرنانة من غير ان يعيروا لها اذنا صاغية. والغريب هو ان الوعاظ انفسهم لا يتبعون النصائح التي ينادون بها، كما انهم يتركون الطغاة والمستبدين يفعلون ما يشاؤون ويركزون اهتمامها على البسطاء والفقراء والمساكين.
والحقيقة لم ينتقد الوردي الدين كعقيدة مطلقا، وانما انتقد اولئك الذين لبسوا لباس الدين واستخدموه كسلاح لتحقيق مصالحهم ومنافعهم الخاصة وكذلك لمصالح واهداف الطبقة الحاكمة، وميز بين الدين الحقيقي وبين التفسيرات المختلفة له. فالنبي الكريم جاء بدين العدالة والرحمة والتسامح بين البشر، واعتبر الاسلام ثورة اجتماعية يطالب المستضعفون فيه بتحقيق العدالة والمساواة بين الناس. وكان هدف الوردي هو لفت الانظار الى خطر من يرتزق من وراء الخطب والمواعظ والتملق للسلاطين، الذين تربوا على فضلات موائد المستبدين، مشيرا الى ان اهم نتائج الوعظ السلطاني هو خلق صراع نفسي بين ما يسمعه الفرد وبين ما هو موجود في الواقع الاجتماعي.
من هذا المنطلق التنويري دعا الوردي الى ضرورة تغيير اساليب تفكيرنا وعملنا وسلوكنا وقال : quot; لقد ذهب زمان السلاطين وحل محله زمان الشعوب quot;، وليس لنا ونحن نعيش في القرن العشرين ان نفكر على نمط ما كان يفكر به اسلافنا من وعاظ السلاطين، كما آن لنا ان نفهم الطبيعة البشرية كما هي في الواقع quot;، ثم نضع على اساس ذلك خطة للاصلاح والتطوير.
واليوم، حيث تستشري الفوضى والعنف والارهاب في العراق ويفرز الاحتلال اسوء الماسي والكوارث والالام ويهدد حاضر ومستقبل العراق ووحدته وهويته الوطنية، فعلى العراقيين جميعا ان يتوحدوا في خطاب وطني واحد، وبخاصة أئمة وخطباء المساجد والجوامع والحسينيات، الذين يتخذون من المنابر وسيلة للدخول في عالم السياسة، وان يكونوا على قدر المسؤلية الدينية والاجتماعية والاخلاقية المناطة بهم، وعليهم ان لا يكونوا وعاظا للسلاطين ولا ابواقا لاثارة الفتن وتأجيج الصراعات الاثنية والقبلية والطائفية، وانما توجيه الناس نحو الاخلاق الاسلامية الرفيعة والدعوة الصادقة الى الخير والمحبة والتسامح والسلام بين جميع الاديان والمذاهب والطوائف والاقليات الدينية، وبالتالي لم الشمل ومداواة الجراح ومسح الدموع وتوحيد العراققين تحت مظلة وطنية واحدة هي الهوية العراقية المتعددة الثقافات. وهو الطريق الاسلم لتحمل المسؤلية الاخلاقية لاعادة الوحدة الوطنية و بناء الانسان العراقي المسحوق والمجتمع الممزق والمنقسم على ذاته والنسيج الاجتماعي المفكك والهويه الوطنية الممزقة.