لا يختلف إثنان في العالم العربي والإسلامي أنّ سماحة السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله قد تحولّ إلى ظاهرة سياسية وثقافية وإجتماعية وأكثر الشخصيات قدسيّة على وجه الإطلاق، ولا شكّ أنّ الرجل الذي أحبّه ويدعو له مليار ونصف مليار مسلما بالنصرة والغلبة والتوفيق في جهاده ضدّ الكيّان الصهيوني الذي تسببّ في نكبة العالمين العربي والإسلامي على مدى عقود و في كل تفاصيل النكبة لم يحظ بمثل هذه المكانة فجأة و بدون مقدمات ربانية و إنسانية على حدّ سواء..فما زلت أتذكّر وعندما عزيته في بيروت وفي قلب الضاحية الجنوبية بإستشهاد إبنه البار محمد هادي وكان ذلك في ساحة عزاء أقيمت في ساحة عامة متاخمة لقناة المنار كان الرجل متماسكا بل فرحا بعنوان الشهادة لإبنه هادي، بل إنّه طلب من إبنه الذي يلي محمد هادي السيد محمد جواد بأن يستلم بندقية أخيه ويستعّد للإلتحاق بجبل الصافي وهو الجبل الذي أفرز عمالقة المقاومة الإسلامية أمس واليوم..

لم يتخرجّ سماحة السيد حسن نصر الله الذي ولد يوم 31 آب - أغسطس 1960 سنة في حي الكرنتينا الفقير بالضواحي الشرقية لبيروت والذي يعود في أصوله إلى بلدة البازورية في جنوب لبنان والذي كان الأكبر سناً بين 3 أشقاء و5 شقيقات، من جامعات العالم العربي أو الغربي، ومع ذلك فقد أصبح مرجعا لكل المثقفين والمفكرين وحملة الشهادات العليا الذين يتمنون من أعماق قلوبهم أن يتركوا القلم جانبا وأن يحملوا البندقية مع الأطهار الذين يصنعون لنا أعظم إنجاز حضاري في الراهن العربي، فسماحة السيد نصر الله أنهى دراسته الإبتدائية في مدرسة quot;الكفاحquot; الخاصة في بيروت، وجزءاً من المتوسطة في quot;الثانوية التربويةquot; بمنطقة سن الفيل. ومع إندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975 أضطرت أسرته للنزوح إلى بلدتها الأصلية البازورية، التي أكمل فيها تعليمه الثانوي، وإلتحق في سن مبكر بالجهاز الحزبي لحركة quot;أملquot; التي أسسها الإمام موسى الصدر والذي لعب هو الآخر أكبر الأدوار في تاريخ لبنان المعاصر.

وفي مدينة صور التي يتهاطل عليها الحقد الصهيوني قذائف وقنابل إلتقى سماحة السيد حسن نصر الله بالشيخ محمد الغروي الذي لعب دورا في توجّه السيد حسن نصر الله إلى مدينة النجف الأشرف في العراق حيث مرقد الإمام علي وثلّة من أهل بيت النبوة، ودرس هناك ما يعرف بالمقدمات في الحوزة العلمية في النجف الأشرف وكان في ذلك الوقت في أوج إزدهاره وعطائه العلمي والفكري، فقد عاصر السيد حسن نصر الله السيد محمد باقر الصدر الذي أعدم في وقت لاحق من قبل النظام الصدامي، وهو مؤلّف الروائع في الفكر الإسلامي كإقتصادنا وفلسفتنا و مجتمعنا والبنك اللاربوي في الإسلام وكتاب مشروع الدولة الإسلامية والذي أرسله إلى الإمام الخميني عندما نجحت ثورته الإسلامية العارمة في إيران، وفي النجف الأشرف درس حسن نصر الله المقدمات وهي المرحلة الأولى من الدراسات الحوزوية وفيها يدرس الطالب منطلقات النحو والصرف والبلاغة والفقه والمنطق والأصول وبعضا من التفسير وعلم الحديث، فمن الكتب التي درسها سماحة السيد قطر الندى وبلّ الصدى في النحو والمعاني للتفتازاني وعلل الشرائع وغيرها من الكتب الضرورية التي تؤهل الطالب أن يلتحق بمرحلة السطوح وهي المرحلة الثانية وفيها يدرس الطالب كتاب اللمعة الدمشقية للشهيد الأول العاملي، وفرائد الأصول للعلامة الأنصاري، بالإضافة إلى بعض كتب الفلسفة والعقيدة والكلام وفي هذه المراحل تعرف السيد حسن نصر الله على أفكار صدر المتألهين والطباطبائي والأنصاري والشهيد الأول والثاني وغيرهم كثير...

ويقول بعض المقربين من سماحة السيد حسن نصر الله أنّه عرف بذكاء حاد قلّ نظيره وعرف ببصيرة ثاقبة قل نظيرها وأنّه لو لم ينهمك بالقضايا السياسية و ينافح عن مظلومية الأمة الإسلامية كجدّه الحسين بن على لحاز على درجة الإجتهاد التي تخولّه إستنباط الحكم الشرعي من مصادره الصحيحة دون العودة إلى أي مرجع تقليد... ووسط هذه الأجواء العلمية والفكرية والثقافية بدأت ملامح تشكلّ عقل حسن نصر الله والذي أفاد كثيرا من وجود كوكبة كبيرة من العلماء في النجف الأشرف كما أفاد من وجود شخصيات علمائية لبنانية كانت موجودة في النجف الأشرف ومنها السيد عباس الموسوي أبو ياسر الشهيد الذي قضى في طريقه من الجنوب إلى بيروت بصاروخ أطلقته على سيارته طائرة مروحية إسرائيلية، ومعروف للخاصة والعامة أنّ السيد عبّاس الموسوي كان مثالا في الزهد والتواضع والإعراض عن الدنيا و في بعض الأحيان لم يكن لديه حتى الشاي ليقدمه لبعض زائريه...

وغير المنطلقات التي جئنا على ذكرها والتي شكلّت منطلقات التكوين المعرفي للسيد حسن نصر الله فإنّ هناك ثلاث مرتكزات و لبنات صقلت هذا التكوين إلى أبعد مدى و زادته نضجا، اللبنة الأولى العرفان أي إرادة الوصول إلى الله و حبّه والذوبان في عشقه عبر التعبّد المطلق والإخلاص له جلّ في علاه و في نظري فإنّ هذا البعد هو الذي جعل سماحة السيد حسن نصر الله صلبا في عقيدته وإيمانه و صادقا في قوله وفعله، و البعد الثاني سيرة الإمام الحسين صاحب معركة الطف والذي خرج ضد الذين أرادوا تحريف المسيرة الإسلامية وهو صاحب العنوان العظيم والذي طالما رددّه حسن نصر الله ودربّ مجاهديه عليه : هيهات منّا الذلّة..هيهات منّا الذلة...والبعد الثالث هو جمعه بين الدين والسياسة فهو لم يتبحّر في علوم الشريعة فحسب بل إنّ إنضمامه إلى أفواج المقاومة الإسلامية أمل التي أسسّها السيد الإمام موسى الصدر ساهم في تفتق ذهنه على الواقع السياسي اللبناني بتعقيداته السياسية والمذهبية و على الواقع العربي و الإسلامي.

وفي سنة 1978 غادر السيد حسن نصر الله مدينة النجف الأشرف إلى مدينة بعلبك حيث زاول الدراسة والتدريس في مدرسة إسلامية برفقه صديقه الأمين العام لحزب الله السابق الشهيد عباس الموسوي، و في هذه الأثناء كانت ملاح الثورة الإسلامية في إيران تتشكّل وتمكنت ولأول مرة في تاريخنا المعاصر عمامة سوداء يمتدّ جذرها إلى الحسين بن علي صاحب معركة الطف الشهيرة من الإطاحة بشرطي الخليج الشاه بهلوي، وإنتصرت الثورة الإسلامية في إيران وهي الثورة التي تفاعل معها السيد حسن نصر الله إلى أبعد مدى، وشكلت بداية خروجه من حركة أمل و الإلتحاق بالخلايا الأولى لحزب الله هذا الحزب الذي سيلعب في وقت لاحق أكبر الأدوار في تارخ لبنان و التاريخ العربي والإسلامي بل في تاريخ العالم...

صحيح أنّ السيد حسن نصر الله والذي كان قد إنتقل للسكن في بيروت وتحديدا في الضاحية الجنوبية سنة 1985 مع زوجته المصونة الفاضلة فاطمة ياسين ، و التي له منها خمسة أولاد أبناء هم: الشهيد محمدهادي، محمد جواد المجاهد، زينب، محمد علي، محمد مهدي، لم يكن على رأس حزب الله لكنّه تولى مهاما تنظيمية مفصلية أهلته أن يصيغ البنية السياسية لحزب الله، وهو الأمر الذي جعل مهمته بعد توليه الأمانة العامة لحزب الله يسيرة عقب إستشهاد السيد عبّاس الموسوي يوم 13/2/1992. وخلال سنتي 1989 و1990 إستقر السيد حسن نصر الله في مدينة قُم المقدسّة في إيران، وكانت قم المقدسة التي تضم مقام السيدة فاطمة المعصومة أخت الإمام علي بن موسى الرضا المدفون في مدينة مشهد في خراسان قد خطفت الأضواء من حوزة النجف الأشرف وتحولت حوزة قم التي أسسها العلامة البروجوردي إلى أهم حوزة علمية زاد في تألقها إنتصار الثورة الإسلامية في إيران وإستقرار معظم علماء النجف فيها وهم العلماء الذين لاحقهم النظام العراقي، و قد شكلّت هذه الحوزة العلمية القمية خزّان الدولة الإسلامية التي أسسها الإمام الخميني في إيران..

ساهمت حوزة قم المقدسة في صقل المكوّن العلمي للسيد حسن نصر الله الذي حضر بحوث الخارج لبعض العلماء وهي سلسلة بحوث تؤهّل طالب العلم لأن يصبح فيها أو مجتهدا وتنمّي لديه ملكة الإجتهاد، كما أهلته هذه المرحلة أن يواكب عمليّا مشروعا إسلاميا لطالما آمن به ودعا إليه... وفي هذه المرحلة أيضا كان سماحة السيد حسن نصر الله على صلة بالطلبة من مختلف العالم الإسلامي ولعلّ هذا الإحتكاك جعل تفكيره يمتّد من طنجة وإلى جاكرتا ولا يحصره في المسألة اللبنانية فحسب..

وعندما أستشهد الأمين العام السابق لحزب الله السيّد عباس الموسوي يوم 13/2/1992، أصبح سماحة السيد حسن نصر الله أمينا عاما لحزب الله، ومنذ ذلك التاريخ دخل نصرالله في مواجهات عديدة مع الجيش الإسرائيلي، أبرزها quot;حرب تصفية الحسابquot; في تموز ndash; يوليو 1993، وquot;عناقيد الغضبquot; في نيسان - أبريل 1996، وحققّ هو ومجاهدو المقاومة الإسلامية أبرز إنتصار في مطلع الألفية الثالثة وأجبر الجيش اإسرائيلي على الإنسحاب من جنوب لبنان في أيّار - مايو 2000. ورغم تحرير حزب الله للجنوب اللبناني إلاّ أنّ أمينه العام أقسم بأغلظ ألإيمان أن يعيد بقية الأسرى اللبنانيين إلى وطنهم الشامخ لبنان وأن يحررّ مزارع شبعا و كانت البداية مع عملية الوعد الصادق في 12 تموز- يوليو 2006 و هي العملية التي خطف فيها رجال المقاومة الإسلامية جنديين صهيونيين وبموجب ذلك أطلقت إسرائيل أكبر عملية إبادة ضدّ لبنان الدولة والمجتمع اللذين إحتضنا سيد المقاومة حسن نصر الله ورجاله...