الثقافة والعولمة، كلمتان تستفزان الذاكرة والفكرة معاً، من منهما كان ومن منهما سيكون في سياق تحديد العلاقة التنويرية بين الفكر وتجليّاته؟. الثقافة نتاج معرفة، الثقافة ممارسة فاعلة لتأكيد المنتج المعرفي الإيجابي في سلوك الإنسان، الثقافة تستمد نسغها من ديناميكية إحداثيات جوهرية في سفر الحركة الحياتية،( التأريخ، الفكر، التراث، الفلسفة، العلم )، كل هذه العوامل تتفاعل معاً من خلال حالة توازن تؤدي إلى انتاج الرؤية المعرفية، الرؤية التي تلخص وجهة النظر إزاء الفعل الحياتي للكائن البشري، ومع اختلاف أنماط التعامل مع الإحداثيات الآنفة الذكر بين مجتمع وآخر، كانت الرؤية المعرفية تحتمل شيئاً من المغايرة في فلسفة تعليل وتأويل الظواهر الإجتماعية والسلوكية، لكنها تسهم في الخلاصة إلى تأكيد البعد الإنساني لمفردة الثقافة التي تجسد الجانب المعرفي في سلوك المجتمعات.

الثقافة تتجايل دوماً مع حركة الفكر الإنساني، ترسم ملامح التعبير إزاء الظاهرة، تنسجم مع حركة التاريخ بابعاده الزمانية والمكانية، الثقافة لا تتضاد مع الجديد في كل الحقول والميادين، بل تتفاعل مع إرهاصات المكتشف والمنتج الفكري، تنسج سماته التنويرية، تشكل مجساته التي تتحرى الأثر والتماثل مع الآخر، الثقافة إسهام جمعيٌ للمنتج المعرفي في تحديث الرؤية والموقف من الآني والمتوقع، الثقافة إنحياز لحالة التوازن لاخرق للمنطق، وتجسير لحالة الوضوح والتناغم مع المتغير، ويمكن وصف الثقافة على أنها معيار أكثر منها حالة تلبس للفعل.
العولمة مفردة منتجة لحالة تحول بارزة في تأريخ الحدث الحياتي، ولأن حالة التحول تلك تشكل تضاداً مع القراءة الأولى لحقيقة الجديد، بدت تلك المفردة تشكل غموضاً وتحرث الأسئلة تلو الأسئلة في بيئات نسج الصورة المقترحة لحالة التوائم بين الجديد ومسميات ثقافته، فكل جديد يسهم في تدوين مفهوم المغايرة في الخطاب الثقافي، ودائماً تحدث حالة التفاوض أو حالة المهادنة التي تفضي إلى تحديث الشعار الثقافي ليحتوي الأبعاد الجديدة للمنتج الفكري سواء كان هذا المنتج منبثقاً من ماضيه أو مبتكراً من حاضره، ولأن الثقافة هي حالة إستشرافية قائمة مع كل التحولات الجديدة فلابد لها أن تتوائم ومفهوم العولمة كي ترصد حالة التأثير والأثر بين الجديد كمنتج فكري وحالة الآن الزمانية والمكانية.

العولمة مفردة تثير الدهشة أحياناً، فملامح الحداثة المنضوية ضمن آفاقها مستساغة من حيث هي تحول وتجديد، مستساغة من حيث هي رؤية تتجاوز العادي والمتراكم، مستساغة من حيث هي تمرد ومشاكسة، وهذه التماهيات بحد ذاتها ترسم حولها الكثير من الدوائر الإستفهامية، فصورة التمدن والتحضّر التي تختصرها مفردة العولمة تنحو إلى الإنقطاع أحياناً وإلى تجاهل الواقع الكائن في أحيان أخرى، الواقع المتشكل مع تراكم وتفاعل الحياتي والزمني، فصورة النموذج الغربي للحياة والحضارة لم تكن منقطعة عن ساقية التأريخ والتراث، لم تكن منكرة للإرث الفكري والمعرفي للإنسان حتى وان كان ساذجاً وبوهيمياً في مرحلة من مراحل تكوينه، بل كانت قراءة متأنية لأدغال الماضي وحقوله المعرفية، ومع كل القفزات المعرفية التي سجّلتها صورة التحضر في العالم الغربي لم تحاول أن تؤشر إلى حرق منجز معرفي على حساب الآخر، بل كانت صورة تكافلية تنحت في الممكن بشحنات الماضي والحاضر، وكانت الثقافة كلمة حاضرة ومنسجمة مع إشراقات الجديد بكل أطيافه وملامحه، حتى بزغ مفهوم العولمة في أواخر القرن العشرين، وكأنه إعلانٌ عن تحد غريب أو حالة صراع بين الجديد وذاته.

العولمة تميل في إستبطانها للمعنى نحو تغليب لغة الماكنة، وتطلقها كأنها تعويذة العصر التكنولوجي الذي يبشر بفلسفات وأفكار تبدو للوهلة الاولى أنها قطيعة تأريخية ومعرفية مع الذات والمنتج التراكمي، العولمة تبشر بذاتها التي تصر على فرادتها وتثير تذمراً من مصافحة مفهوم الثقافة التجايلي، وكأنها تتوخى الحذر من التعامل مع هذا المصطلح الذي شكّل سماته من حركة التاريخ والحياة، وإذا سلّمنا إفتراضاُ أنها هكذا، ترى مامعنى الثقافة في فلسفة العولمة ؟ وهل هناك محاولة لإنتاج قالب ثقافي يختلف عن السائد كي يحتوي تجليات العولمة ؟ كل هذه التساؤلات ربما لاتكون ذا فائدة إذا ما تم تدعيم مفهوم العولمة على أنه حالة مكثفة للحداثة ونزوع صارم لإعادة قراءة مفهوم التحضر والثقافة، إنما التبشير الأولي لمفهوم العولمة ينبئ بغير ذلك، فالتفسير المعلن لتداعيات فكرة العولمة يشير إلى ملامح القطيعة، والمخيف في هذا التداعي أنّ القطيعة فيما لوحدثت ستكون ذا أبعاد خطيرة ومخيفة في آن، فقطيعة التأريخ والتراث والقيم الأخلاقية تعني نشوء جيل بدائي في مفهوم التراكم المجتمعي، جيل بحاجة إلى هوية وهذه الهوية قطعاً تنزع للبحث عن قوالب معرفية وأيديولوجية جديدة كي تسهم في توضيح الملامح الأولية لتلك الشخصية المتشكلة من فجوة الإنفصال عن الأسس والحاضنات الحياتية، لان العولمة لاتؤمن بحركة التأريخ الذي سبق اختراع لغة الماكنة، والعولمة لاتؤمن بمنظومة القيم الأخلاقية والإجتماعية بقدر إيمانها بلغة التقنية التي هي لغة العولمة الفعلية.

وأمام هذا الطرح الذي بدأنا نقرأ تفاعلاته مع حالة التحديث التي أفرزت عدّة معطيات يمكن من خلالها صوغ الكثير من الإستفهامات ورسم خطوط ولو إفتراضية لحالة التصادم المتوقع بين نزعة تجديدية استحوذت على الخطاب المعرفي وبدت تتدخل في تشكيل مفاهيم فكرية واجتماعية واخلاقية من خلال منظور واحد ألا وهو المنظور التقني العلمي البحت وبين منظومة معرفية أوجدتها حركة الفعل الحياتي وواكبت جميع مراحل وتجليات الفكر البشري. هنا هل نستطيع أن نقول أن ثمة صراعاً حقيقيا قد بدا يلوح في الأفق بين العولمة وتجلياتها وبين المنجز الإنساني المتراكم مع تأريخ البشرية؟ وهل الشعوب قادرة على تصور ثقافة جديدة لاعلاقة لها بتأريخها وجغرافيتها وإرثها أم أن نزعة العولمة سوف تستحيل حالة تجديدية وتهادن قضية الوجود إذا ما أكتشفت تلك الشعوب البعد التدميري لفلسفة العولمة ؟ أسئلة كثيرة وحقول مازالت تحتمل الكثير من الجدل والتأويل ويبدو الجزم في حقيقة معينة في الوقت الراهن أشبه بغربلة للريح.