ذات يوم و عندما دعا السيد أحمد غزالي رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق الأحزاب الجزائرية لبحث آليات الخروج من الأزمة الجزائرية و أتاح لكل رئيس حزب أن يقدمّ إقتراحاته في هذا السيّاق، إقترح زعيم حزب ليبيرالي على السيد أحمد غزالي الذي كان يسميه الجزائريون أبا فراشة نسبة إلى الفراشة القماشية التي كان يحيط بها عنقه بدل ربطة العنق المعروفة أن تبادر الحكومة الجزائرية إلى بناء بيوت الدعارة و المواخير حتى يتوجهّ إليها الشباب الجزائري بدل أن يتوجهوا إلى المساجد.
و في نظر هذا الليبيرالي فإنّ إرخاء العنان للشهوات من شأنه أن يبعد الناس عن أصالتهم و معتقداتهم و موروثهم الحضاري، و ماذهب إليه هذا الليبيرالي الجزائري هو عينه ما يذهب إليه شاكر النابلسي ومجموعة الليبيراليين الجدد الذين يدعّون أنهم يسعون إلى تحرير العقل العربي من الترهّات الأصولية و الظلامية و هم في الواقع يدعون إلى تحرير الشهوات، وحتى لا نلقي الكلام على عواهنه والإكتفاء بإيجاد ملازمة بين الليبيرالية العربية الجديدة و العهر لابدّ من الغوص في المبنى الفكري ndash; أقول الفكري هنا تجاوزا وتسامحا ndash; لهذه الفئة التي تزعم أنها تملك البديل النهضوي...
فعلى الصعيد النظري فإنّ هذه الفئة التي تعتاش على عطايا بعض الأنظمة القمعية و بعض الأجهزة الأمنية الغربية و العربية أخطأت في تشخيص حقيقة المرض الحضاري الذي إنتاب أمتنا العربية و الإسلامية و أخطأت في تقديم الدواء في نفس الوقت...
وتعتقد هذه الفئة أنّ الإسلام ساهم إلى أبعد الحدود في تعطيل المشروع النهضوي العربي، و أنّ العقل الإسلامي بل والعربي أيضا هو سبب التراجع الكبير في مسار التنمية، و بتعبير محمد عابد الجابري فإنّ أصابع الإتهام وجهّت إلى العديد من المتهمين بإرباك المشروع التنموي عدا العقل العربي الذي ظلّ بمنأى عن الإتهام وهو أولى بالإتهام حسب الجابري.
ولا تفرقّ هذه الفئة بين الإسلام في بعده الحضاري و فكره السامي و رؤاه الإنسانية و بين ممارسات المسلمين على إمتداد حركة الإنسان المسلم منذ أربعة عشر قرنا...
وهذا الخلط المقصود بين النظرية والتطبيق، بين النص ومفسريه، بين التنزيل والتأويل يستهدف الإسلام و مدرسته الحياتية بشكل عام، وهم يصرّون على هذا الخلط والدمج ويستصحبونه على الإسلام فقط دون بقية المدارس الوضعية، وهم أنفسم لا يطبقّون هذه المنهجية على رؤاهم و ما يذهبون إليه من أفكار....
فالليبراليون الجدد أو المارينز الجدد و عندما كانوا يساريين وماركسيين في فترات تاريخية سابقة وعندما كانوا يواجهون بالديكتاتورية اللينينة و الإجرام الستاليني ndash; معروف أن ستالين أباد نصف سكان الشيشان ndash; و حقائق سيبريا و المفكرين المنفيين إلى هناك، كانوا يردّون بأنّ النظرية شيئ و التطبيق شيئ آخر، و أنّ الماركسية الرائعة كما كانت في نظرهم لمّا تطبّق لأنّه وحسب تعبير كارل مارس في الرأسمال فإنّ الماركسية مرحلة متأخرة و تتحقق في نهاية المطاف عندما تذوب الدولة في الجماهير وعندما تنتهي الإدارة..
وبهذا الشكل دافعوا عن الماركسية وحتى لما وافق الإتحاد السوفياتي السابق على تقسيم فلسطين، وافقت ذينكم الفئة على التقسيم بإعتبار أنّ قرار موسكو معصوم ولا يرقى إليه الشكّ...
وكلما ووجه هؤلاء بحقيقة تردّي الأوضاع في أمبراطورية الدبّ الأحمر، كانوا يقولون أنّ العيب ليس في النظرية بل في التطبيق أو بالأحرى في الإنسان الذي لم يستوعب الفكر الماركسي المتألق في نظرهم...
ولأنّهم لا يثبتون على قرار و لا أساس معرفي متين لديهم، فقد خرجوا من عباءة جهاز الستازي إلى عباءة المخابرات الأمريكية وعندما تفتتّ الدبّ الأحمر وتعفنّت جثته راحوا يبشرّون بالأمبراطورية الأمريكية الراهنة على طريقة المغلوب يقلّد الغالب ليس في المجال العسكري فقط بل حتى في المجال الفكري..
فتركوا كارل ماركس و أعتنقوا فكر آدم سميت و إنبهروا بالمدنية الغربية التي تعاني من الويلات اليوم إلى درجة أنّ أحد الباحثين الغربيين يقول ياليت الغرب بقي محافظا على فترته الزراعية، لأنّ المرحلة التقنية جردّت الإنسان من إنسانيته كما جاء في كتاب روني دوبو : إنسانية الإنسان...
وعندما جوبهت هذه الفئة بالممارسات الأمريكية في الفيتنام وأفغانستان و العراق والصومال وغيرها ، إدعّت مجددا بأنّ الخطأ ليس في النهج الليبيرالي الحداثي ذات المنطلق الغربي بل الخطأ في بعض الممارسات الأمريكية السياسية وهذه لا علاقة لها بالفكر الذي يصيغ منطلقات السياسة الأمريكية أو الغربية في كل أبعادها...
و عندما تسقط الأمبراطوية الأمريكية كما يرى نعوم شومسكي وغيره كثير في الخارطة الأمريكية سيلتحق الليبيراليون الجدد بأمبراطوية جديدة لأنهم هكذا كالطحالب الضارة تعيش على هامش المستنقعات الحضارية، و بدل أن يلتحقوا بركب أمتهم فإنهم يفضلّون أن يلعبوا دور الزانية التي لا تعرف مبدأ الوفاء أبدا...
وبالإضافة إلى ذلك فهم يعارضون أهم مبدأ يتشدّقون بأنهم يؤمنون به، فهم يدعّون أنهم مع المبدأ الديموقراطي و مبدأ الأغلبية غير أنهم في إتجاه معاكس تماما لما تراه الأغلبية، فالأغلبية في العالم العربي والإسلامي مع الإسلام وهم ضدّه، والأغلبية مع الحضارة الإسلامية و هم ضدها و الأغلبية مع الحق الفلسطيني وهم ضده، و الأغلبية مع خيار المقاومة وهم ضده، و الأغلبية ضدّ الأمركة و الصهينة وهم معهما قلبا وقالبا و ظاهرا وباطنا والأغلبية ضد الديكتاتورية و الطغيان وهم يقبضون من أكثر النظم ديكتاتورية و تسلطا........
و تعمل هذه الفئة بكل ما أوتيت من قوة على كسر الجمجمة الإسلامية و مسخ الموروث المعرفي الإسلامي وقد فشلوا في كل معاركهم و قضاياهم لأنهم لا يملكون قضايا بالأساس، تنتعش سوقهم عبر التاريخ تزامنا مع إنطلاق الحركة الإستعمارية، كما ظهروا بقوة مع الحركة الإستعمارية الأمريكية الأخيرة...
لقد كلفت هذه الفئة بإفراغ العالم الإسلامي من مقوماته و يعملون على دكدكة العقل الإسلامي من خلال الدعوة إلى إرخاء العنان للشهوات كما طالب السياسي الليبيرالي الجزائري إياه..
لكن هل الشهوات تبنى حضارة، وهل المشكلة الحضارية في العالم الإسلامي تكمن في الحلال والحرام و في الإسلام الذي يعتبره الشهوانيون الجدد سببا للتخلف..
أليس الإسلام هو من طرد فرنسا من الجزائر و إيطاليا من ليبيا و أمريكا من إيران و إسرائيل من لبنان وقريبا من فلسطين....
أليس الإسلام هو من جعل رجلا ديبلوماسيا سويديا في قامة إنغمار كارلسون يقول في كتابه الإسلام والغرب، أنّه لولا مسلمو الأندلس لما أنتجت أوروبا حضارة.
وربما أكون قد أسهبت في تبيان بعض القضايا و تذكرت أخيرا أنّ الليبراليين الجدد يتقنون أكثر لعبة الشهوات و العورات و ليس العقليات و الإبتكارات......