أخيراً، وبعد مخاض عسير حقاً، ها هو الدخان الأبيض يتصاعد من سماء غزة. وها هي حكومة الوحدة الوطنية التي طال انتظارها، تصبح واقعاً. إسماعيل هنية سلّم أسماء وزرائه الجدد للرئيس. والرئيس قبِل الأسماء، ويوم غدٍ السبت، سيعرضها على المجلس التشريعي، لنيل الثقة. لا شك أنّ الشعب الفلسطيني برمته، في الداخل والخارج، يشعر بالارتياح الآن. فالمعنى الأول لتشكيل هذه الحكومة الجديدة الفريدة، هو أن تُطوى صفحة الماضي السوداء إلى الأبد : أن يتوقف الاقتتال الداخلي الذي كاد يتحوّل إلى حرب أهلية، إلى غير رجعة. والمعنى الثاني هو الأمل الكبير في أن تكون هذه الحكومة قادرة على كسر الحصار الجائر، والعودة إلى ضخ المساعدات المالية للشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. أما المعنى الثالث، والذي لا يقل أهمية عن المعنيين السابقين، فهو المراهنة على إمكانية فتح طريق المفاوضات من جديد. ومحاولة تلمّس طرق أخرى للحصول على سلام جدّي، ينهي عقوداً من الحروب والصراع. فهذه الحكومة، هي حكومة معظم الشعب الفلسطيني حقاً وصدقاً. وهو أمر لم يحدث من قبل أبداً. الآن غالبية تنظيماتنا وقوانا المدنية وشرائح مجتمعنا موجودة وفاعلة وممثلة داخل هذه الحكومة. والأهم من هذا هو اتفاقها على برنامج سياسي واضح ومحدد المعالم. برنامج يعترف بالاتفاقات الموقعة من قبل، سواء مع إسرائيل أو غيرها. وفوق ذلك برنامج يعترف بمبادرة السلام العربية. إذاً فالكل الفلسطيني تقريباً سيذهب إلى قمة الرياض وإلى المجتمع الدولي، موحدّاً فيما بينه، ومتفقاً على البرنامج السياسي في خطوطه العريضة. أما ملف المفاوضات، إن حدثت مفاوضات بيننا وبين إسرائيل في المستقبل، فهو متروك لمنظمة التحرير وللرئيس. وإذا حدثت اتفاقات أو تسويات، وتمخّضت عن شيء ما، فحينها سيذهب الرئيس إلى استفتاء الشعب. هذا جيد وطيب. لم يعد لإسرائيل من حجج. حماس تركت الباب نصف مفتوح. وقبلت أخيراً بما ليس منه بد. المفاوضات من شأن الرئيس. والرئيس رجل سلام، وينبذ الكفاح المسلح. فماذا تبقّى لإسرائيل؟ إنّ الكرة الآن في شباكها. وهي إذا أصرّت على رفضها للتعامل مع الحكومة الوليدة، فإنما تصرّ عملياً على معاقبة شعبنا وعلى رفض أية محاولات لفتح ثغرة في النفق المسدود.
إننا نأمل ونراهن على موقف الاتحاد الأوروبي. أن تقف أوروبا الموحدة معنا. ألا تخذلنا. ألا تتذيّل لأمريكا. فأكثر من هذا البرنامج السياسي الذي أنجزناه بشق الأنفس، وعمّدناه بالدم الأهلي، لا يمكن وليس متاحاً ولن يكون متاحاً في القريب. لذلك على أوروبا، أن تكسر الحصار فوراً، الحصار بشقيه المالي والسياسي. وأن تعيد تعاملها معنا كما كان في السابق. وإلا، فستنهار هذه الحكومة، مهما كان الداخل الفلسطيني بألوان طيفه موحّداً. الضغوطات علينا، شعباً وطبقةً سياسية، فاق الحدّ. وأي استمرار له، بعد تشكيل الحكومة، سيبدو في عين الجميع، المعتدل قبل المتطرف، استهتاراً بنا وبمصالحنا. وحينها لا أحد سيعرف ما الذي يمكن أن يحدث. وما هو ردّ الفعل من قبل شعب مذبوح ويائس.
لقد قدمنا أقصى ما نستطيع في هذه المرحلة. وأية مطالب إضافية من أمريكا أو إسرائيل أو الاتحاد الأوروبي، ستثقل كاهلنا فوق ما هو مُثقَل، وستفتح الطريق واسعاً أمام مَن لا يريدون لهذه الحكومة النجاح.
إنّ على المجتمع الدولي أن ينتبه لهذه النقطة الحساسة. أية تنازلات أخرى، ليست في الإمكان. إسرائيل لا تكفّ عن طلب المزيد والمزيد من التنازلات. ولديها لذلك أسباب داخلية كثيرة. منها أنّ حكومة أولمرت هي أضعف حكومات دولة إسرائيل قاطبة. ولأنها ضعيفة، فستحاول تقوية نفسها على حسابنا نحن الفلسطينيين. ستطلب الأقرب إلى المستحيل. وطبعاً لن يستجيب لمطلبها أحدٌ منا. وبذلك تقفل القوسين، ويظل الوضع الحالي، بكل أزماته وملفاته المؤجلة، على ما هو عليه. بل ربما تذهب الأمور إلى خيارات أسوأ : شن حرب واجتياح عسكري كاسح على قطاع غزة المأسور، لإفشال هذه الحكومة الموحدة، وقلب الطاولة على رؤوس الجميع [ المقصود بالجميع بالطبع هم نحن وليس إسرائيل! ]
ومع ذلك، ما علينا. حتى لو اجتاحت إسرائيل القطاع، فلن تكون نهاية العالم. فكم مرة اجتاحته من قبل؟ وكم مرة نكّلت ببشره وشجره وحجره؟ عشرات المرات. لذا نأمل ألا تتحامق حكومة أولمرت وتفعلها من جديد.
إلى ذلك، سنذهب بعد قليل إلى القمة العربية في الرياض. سنذهب موحدين متفقين على نقاط محددة ومعروفة. ومن هناك، سنمد يدنا للسلام، يداً بيدٍ مع أيدي الأشقاء العرب. وعلى ذكر القمة العربية القريبة، نأمل من العاهل السعودي أن يدعم هذه الحكومة قولاً وعملاً، بما يوفّر لها أسباب البقاء والنجاح والصمود. فواضح حتى الآن، أنّ الموقف الأمريكي، ومن خلفه الموقف الإسرائيلي غير مشجع مطلقاً. بل هو موقف أقرب إلى الرفض العدمي منه إلى أي شيء آخر. حتى بتنا نشكّ بأنّ موقفاً كهذا هو موقف أيديولوجي لا سياسي! فهل يصحّ هذا؟ وهل يستقيم مع توجهاتنا الجديدة، كفلسطينيين وكعرب، بمد يد السلام؟
إننا ننتظر الكثير من الأشقاء العرب. دعمهم لنا ووقوفهم معنا بالأخص عند أولي الأمر في الولايات المتحدة.
إنّ أمام هذه الحكومة الوليدة الكثير من التحديات والعقبات. وهي تحديات وعقبات غاية في الصعوبة والقسوة. وإننا كفلسطينيين، لن نكون وحدنا، حتى لو صرنا على قلب رجل واحد، بقادرين على المواجهة. فالتعنت الإسرائيلي الأمريكي، البادي في الأفق، أقوى منا جميعاً، وبإمكانه أن يطيح بهذه الحكومة، لتدخل المنطقة برمتها في المجهول.
وبقدر ما على حكومتنا من تحديات، بقدر ما نعلّق عليها من الآمال. فنحن ننظر إليها باعتبارها صمام أمان لكل أطياف الشعب الفلسطيني. خصوصاً وأننا جربنا في الشهور الأخيرة، معنى كلمة أن نختلف ونفترق. سالت بحار من الدم. انكسر النسيج الاجتماعي المتماسك تاريخياً من جراء تلك الأحداث. رغبَ الكثيرون من شعبنا في الهجرة. جاع معظمنا، ودخل أكثر من 70 % من مجموع شعبنا تحت خط الفقر. تشاءمَ عقلُنا ولم يبق أمامنا سوى تفاؤل الإرادة. وها نحن بالإرادة المتفائلة رغم كل المحبطات، وهي عظيمة لو تعلمون، ننجح في تشكيل هذه الحكومة بوصفها أملنا في المستقبل ورسالتنا إلى العالم.

لقد مررنا بأخطر المنعطفات في تاريخ قضيتنا كله. فلا تعيدونا أيها الأمريكيون والأوروبيون إلى الوراء مرة ثانية. إنّ فشل هذه الحكومة في تحقيق الأهداف المرجوة منها، يعني شيئاً واحداً فقط : العودة إلى الاقتتال الداخلي، الذي سيكون هذه المرة أشرس بما لا يقاس، حيث وضعتم القط في الزاوية، وصولاً، لا قدر الله، إلى حرب أهلية فلسطينية طاحنة لا تبقي ولا تذر!

مرة ثانية : سنعتمد على تفاؤل الإرادة، ولن نوغل في تشاؤم العقل، على أمل أن يكون في هذا العالم الواسع، سياسيون عقلاء حكماء، يزنون الأمور، ولا ينحازون لمصالح حليفتهم الأولى، على حساب ومعاناة ومأساة أكبر شعب مذبوح في عموم المنطقة، وربما في قارات العالم الست!