أنتهت حقبة الأحلام والطموحات العربية الكبرى من غير أن يتحقق شيئاً منها.واجتاحت مشاعر الإحباط واليأس الشوارع والمجتمعات العربية شرقاً وغرباً. كما زادت الشكوك بالمستقبل العربي مع انسداد أفق الخروج من الأزمات التي تعصف بهذه المجتمعات وطالت كل بناها، السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وحتى الروحية.وبقي الفكر العربي المأزوم يخوض معارك قديمة- قومية وآيديولوجية- حسمت منذ زمن وتجاوزها العصر،كما أنه يخوض معاركه الجديدة بذات العقلية والوسائل التقليدية التي كانت سبباً أساسياً لهزيمته.رافضاً الاعتراف بما فرضته التحولات والتغيرات العالمية من قيم وأفكار ومصالح كونية،وبما أبرزته أو طرحته من مشكلات وقضايا جديدة.وبقيت(سياسة النعامة) هي المفضلة والمعتمدة لدى الحكومات والأنظمة العربية التي اعتادت على تجاهل مشكلات وأزمات مجتمعاتها والتنكر لها مهما بلغت من التأزم والخطورة، وإذا ما تفاقمت وانفجرت حتى حُملت المسؤولية للخارج المتآمر.على ضوء هذه الوصفة العربية ليس غريباً أن يرفض القوميون العرب، موالاة ومعارضة، طرح مسألة الهوية الوطنية لسوريا كاشكالية قائمة ترتبط بتركيبة المجتمع السوري وتعدد ثقافاته.فقد وقعت مسألة(الهوية الوطنية)،مع قضايا أخرى مهمة، ضحية الآيديولوجيا والسياسات الخاطئة للقومين العرب الذين تعاطوا مع مسالة الانتماء الى العروبة على أنها قضية محسومة وبديهية لجميع شعوب المناطق التي دخلها العرب المسلمون ونشروا فيها لغتهم وثقافتهم،دون أن يعيروا أي اهتمام أو اعتبار للثقافات واللغات الأخرى التي كانت سائدة فيها منذ آلاف السنين.ففي سوريا بدلاً من أن يأخذ القوميون العرب بالهوية السورية كهوية أصيلة وموحدة جامعة لثقافات كل الأقوام والشعوب السورية،فرضوا هويتهم العربية وثقافتهم ولغتهم بقدر ما استطاعوا على الجميع. بسبب نظرة الاستعلاء القومي هذه، والتعاطي السلبي مع ظاهرة التنوع والتعدد الإثني والديني واللغوي والثقافي التي يتصف بها المجتمع السوري، انحرفت هذه الظاهرة التاريخية والصحية عن مسارها الطبيعي وأضحت التمايزات الثقافية والاجتماعية شروخاً وتصدعات وانقسامات عمودية في البناء السوري،حتى بات يخشى أن تتحول الى كيانات سياسية متصارعة داخل كيان الدولة السورية،كما هو حاصل اليوم في العراق ولينان.
تجدر الإشارة هنا الى أن دستور 1950كان يسمي سوريا بـ(الجمهورية السورية)،لكن بقيام الوحدة القسرية مع مصر وإعلان (الجمهورية العربية المتحدة) 1958ومن ثم الانفصال1961،سميت بالجمهورية العربية السورية،وقد تمسك حزب (البعث العربي الاشتراكي) بهذه التسمية.وبعد وصوله الى الحكم 1963 رفع الهوية العربية الى مرتبة القداسة حتى بدأت الهوية الوطنية لسوريا تتآكل شيئاً فشيئاً وتختفي رموز الاستقلال الوطني أمام طغيان الرموز القومية العربية والحزبية التي فرضها البعث من شعارات وعلم ونشيد قومي ودستور جديد للبلاد نصب فيه(البعث) نفسه قائداً للدولة والمجتمع، واختزل الوطن والوطنية في شخص الحاكم وتعظيمه الى درجة التأليه. فضلاً عن تعريب شامل لمختلف مناحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية والتعليمية، واجراء تغيير ديمغرافي في منطقة (الجزيرة السورية) حيث التجمعات الآشورية والكردية والأرمنية، من خلال توطين فيها آلاف العائلات العربية التي استقدمها من محافظات أخرى.لا جدال، على أن سوريا اليوم هي جزء من محيطها العربي والإسلامي، لكن اطلاق صفة (العروبة) على الدولة السورية واختزال هويتها وحضارتها بالعروبة والإسلام يشكل انتقاص من مكانة الحضارة السورية العريقة التي تمتد لأكثر من ست آلاف عام قبل الميلاد، فضلاً عن أن في هذا الوصف مغالطات تاريخية وتناقضات سياسية عديدة،إذ ليس كل السوريين عرب كما ليس كل العرب مسلمين.والأخطر في موضوع الهوية السورية هو ما يلقنه حزب البعث للأجيال السورية من ثقافة اجتماعية وتربوية عبر مناهج ومقررات، تدرس في مختلف المراحل الدراسية والجامعية في سوريا ضمن خطة ممنهجة ومدروسة الهدف منها غرز عقيدته القومية وآيديولوجيته الحزبية في عقول ونفوس الأجيال السورية القادمة وضبط عملية التنشئة الثقافية والسياسية والاجتماعية لهذه الأجيال وتوجيهها بحيث تضمن ديمومة واستمرار النظام البعثي القائم.ذات الشيء ينسحب على الإعلام السوري (المسموع والمرئي والمقروء)،الذي يسيطر عليه البعث.مثل هذا النظام التعليمي والتربوي والإعلامي المؤدلج والمنحازة كلياً لفكر وآيديولوجية البعث و للتاريخ العربي الإسلامي يساهم،بشكل أو بآخر، في تصدع الهوية الوطنية لسوريا كما أنه المسؤول،بدرجة كبيرة، عن استنبات جذور التعصب القومي والإثني والديني والانحدار بالوعي الوطني والثقافة الوطنية للشعب السوري.فالعربي الذي يعطي لنفسه حق التطلع لدولة عربية واحدة تضم كل العرب،يبرر سعي الأكراد والآشوريين والبربر في أن يتطلعوا لوحدة أبناء جلدتهم وقوميتهم.وإلا ما تفسير أن يشعر العربي المسلم في سوريا بأن العربي والمسلم في جيبوتي وباكستان اقرب اليه من جاره الآشوري والأرمني، وبالمقابل الآشوري والمسيحي عامة في سوريا يتعاطف مع الآشوري و المسيحي أينما كان في حين تتسم علاقته مع جاره المسلم بالفتور والجفاء،وهكذا بالنسبة للكردي وغيره.وقد شاهدنا على مدرجات ملعب القامشلي لكرة القدم آذار 2004،جمهور عربي يحيي صدام حسين والفولجة المقاومة للاحتلال الأمريكي في العراق، يقابله جمهور كردي يحيي مسعود البرزاني وكردستان ابتهاجاً بسقوط صدام وتعبيراً عن نزعة أو رغبة كردية بالاستقلال عن الحكم العربي.هذا النفور والرفض المتبادل بين أبناء الوطن الواحد من جهة يعكس مستوى الانحدار في العلاقات الوطنية، ومن جهة أخرى هو أحد تعبيرات أو تجليات أزمة الهوية الوطنية لسوريا التي تبدو بعد ستة عقود مضت على الاستقلال، في تصادم مع ذاتها وبمواجهة العديد من الهويات القومية والمشاريع السياسية والعقائد والآيديولوجيات الدينية والمذهبية،جميعها ترفض صراحة أو ضمناً القبول والاعتراف بالكيان السوري القائم كوطن دائم ونهائي. بعض هذه العقائد تسعى لدمج(الكيان السوري) في كيانات سياسية قومية أو دينية أكبر، وبعضها الآخر تفضل تقسيمه الى كيانات أصغر تحت عنوانين مختلفة.فالقوميون العرب: يطمحون الى دولة عربية واحدة تذوب فيها جميع الكيانات العربية بما فيها الكيان السوري. والإسلاميون (الإسلام السياسي): هدفهم الاستراتيجي،على الأقل بعض تياراته، جعل سوريا دولة اسلامية ووضعها تحت حكم الخلافة الإسلامية- ورد في الميثاق الوطني لجماعة الإخوان المسلمين السوريين الذي أعلنوه من لندن آب 2002 (انتماء قطرنا إلى إسلامه، هوية ومرجعية)-.أما القوميون السوريون:فمشروعهم هو إقامة (سوريا الكبرى)،تضم بلاد الشام وبلاد الرافدين وقبرص.بعد تطورات الحالة العراقية والحقوق القومية والسياسية التي حققها أكراد العراق، بدأت العديد من الأحزاب الكردية في سوريا تطرح صراحة كردستان سوريا وتجاهر بصيغة الفدرالية كحل للمسالة الكردية، فضلاً عن تطلع الكثير من القوميين الأكراد الى قيام دولة كردستان الكبرى.وفي السنوات الأخيرة ظهرت تنظيمات سريانية آشورية محدودة الانتشار، تتطلع لكيان آشوري على أرض بلاد ما بين النهرين،الوطن التاريخي للآشوريين،تشكل الجزيرة السورية جزءاً أساسياً منه.كما هناك دعاة إحياء الهوية الآرامية القديمة لسورية ولبنان. بلا ريب،هذه الآيديولوجيات والعقائد تشكل، بنسب متفاوتة، خطراً كامناً أو مؤجلاً على مستقبل واستقرار الدولة السورية،وهي بمثابة قنابل موقوتة ما لم يتم نزع فتيلها.فإذا كانت مشكلة الهوية السورية قد أخذت في الماضي طابعاً صامتاً فهذا لا يعني أنها غير موجودة، وقد تأخذ طابعاً دراماتيكياً بعد أن خرجت من دائرة المحظورات وبرزت الى السطح في عالم مزعزع بالصراعات حول الهوية.وقد شهد المجتمع السوري في السنوات الماضية أحداث عنف عديدة لا يمكن فصلها عن هذه الصراعات.يبدو أن نظرية(صدام الثقافات)، لصموئيل هنتنغتون، تنسحب على الثقافات داخل الدول الواحدة.
إن تحصين الوحدة الوطنية واعادة التوازن للمجتمع السوري يتطلبان التعاطي الايجابي مع التعددية القومية والسياسية والثقافية واللغوية كظاهرة تاريخية وطنية، ومد الجسور المقطوعة بين ماضي سوريا وحاضرها من خلال اعادة كتابة تاريخها و صياغة هويتها الوطنية من جديد بعيداً عن العقائد السياسية والإيديولوجيات القومية والدينية، واعادة الاعتبار للحقب التي اسقطت من تاريخ سوريا، كالحقبة الفينيقية والكنعانية والآرامية والسريانية المسيحية،وصولاً الى صياغة هوية وطنية سورية موحدة جامعة، تعبر عن كل الطيف السوري، تكون فوق كل الهويات والخصوصيات المتحجرة،أو الهويات القاتلة،بحسب تعبير أمين معلوف. ليس من المبالغة القول: أن حل مسالة الهوية الوطنية لسوريا يشكل المدخل الصحيح والسليم لحل العديد من القضايا العالقة في المجتمع السوري، في مقدمتها مشكلة القوميات الغير عربية، وعليها يتوقف مستقبل الوحدة الوطنية والدولة المدنية والديمقراطية في سوريا.
سوري آشوري
مهتم بحقوق الأقليات
[email protected]
التعليقات