يبحثون عن المطلق. ولأن لا وجود لما يبحثون عنه سوى في مخيالهم، تراهم حزانى، وفي غير قليل : آسين. إنهم معشر الشعراء يا سيدي. أصابتهم هم أيضاً الجرثومة. تلك التي لا شفاء منها، مثل سرطان متقدّم في الغدد اللمفاوية. قال صاحبهم ذات يوم : ( ما أبتغي جلّ أن يُسمى ]. لم تكن كلمة المطلق معروفة آنذاك، وإلا لقالها. ولكنهم يعرفونها اليوم، وبعضهم يقولها عن إحساس عميق، وبعضهم عن مجاراة لما يقرأ.
المطلق : اليوتوبيا : أو بكلمةٍ : دنيا غير هذه الدنيا، وعالم غير هذا العالم. ألم يقل المسيح ذات يوم : مملكتي ليست من هذا العالم ؟ ترى هل كان المسيح شاعراً ؟ لا أشك في هذا، حتى لو لم يكتب الشعر. لقد عاشه بكل روحه وجسده، ويكفيه ذلك، لأعتبره من معشر الشعراء. كل التائقين إلى دنيا غير هذه الدنيا، هم شعراء. المتدينون الوضعيون والسماويون. الفلاسفة. الرحالة. المتأملون. المفكرون. الصعاليك. الملحدون. العشاق. كل هؤلاء هم شعراء ولو لم ينتجوا شعراً. فكل هؤلاء باحثون عن المطلق وتائقون إلى تحقيق جزء منه، ما دام تحقيقه كله مستحيلاً.

والمطلق طريدة البشري ابن حواء فقط. فحتى هذه اللحظة، لم يثبت علمياً أنّ الكائنات الأخرى مشغولة بهذا الهمّ. مع أننا ربما نكون نرجسيين ونحن نزعم أمثال هذا التصوّر. فمن يدرينا أنّ الأشجار مثلاً، لا تفكّر في المطلق ؟ ألا تستمتع بالموسيقى ؟ ألا يزداد نموها، أو نمو البعض من أنواعها حين تستمع للموسيقى ؟ ثم ما هي الموسيقى ؟ أليست هي بالذات وبالأخص : مطلق ؟ وماذا عن الحيوانات ؟ ألا يحلم بعضها هو أيضاً ؟ وأليس الحلم نوعاً من المطلق ؟ فإن لم يكن الحلم مطلقاً فما هو المطلق ؟
أظنّ من ناحيتي، أنّ لكل كائن حي، مطلقه الخاص به. والفرق فقط في الدرجة لا في النوع : وفي قدرة هذا الكائن على الإبانة. نحن مُنحنا لساناً وأصابع لنكتب. الشجرة والكركدنّ، لم يُمنحا هذا الامتياز. لذا لم يتكلمّا عن المطلق ولم يكتباه. إنهما، كما يخيل لي : يحلمان به : يحلماه. لذا فالجملة السابقة، عن البشري ابن حواء، هي جملة متنطعة وغير دقيقة. فالمطلق، كما أحدس، هو طريدة كل الكائنات الحية. فكل الكائنات الحية تعاني. وكل الكائنات الحية تحلم بمعاناة أقلّ، وبأوضاع أفضل.

وليس هذا فحسب. ففي الجانب المقابل، كل الكائنات المرتاحة والسعيدة نوعاً ما، تحلم هي كذلك بسعادة أكبر وأشمل. تحلم ربما بسعادة خالصة. وهذا نوع من المطلق أيضاً. البحث عما هو غير ممسوك باليدين. والنظر إلى ما هو أبعد من القدمين.
لذلك يصحّ القول بأنّ مطلق الجائع هو الرغيف. ومطلق المليونير هو إضافة أصفار على اليمين. ومطلق المريض هو الصحة، ومطلق الواقع تحت احتلال هو الاستقلال، وهكذا دواليك. وحين يتحقق المطلق لبعضهم، فإنّ مطلقات أخرى، تولد حينئذ. ذلك أنّ الكائن الحي، وبضمنه الإنسان، لا يكفّ عن استيلاد مطلقات جديدة، كلما حقق مطلقاته القديمة. فالكائن الحي هو حيوانُ استهلاكٍ للمطلق. مستهلك للمطلق من الدرجة الأولى. فهو في الواقع والحقيقة، لا يستطيع أن يحيا بلا مطلق. فالمطلق خصيصته العامة والخاصة في آن.
بهذا المعنى، فأبناء حواء هم حيوانات مطلق بامتياز. ودعونا هنا لا نتكلم إلا عنهم، بوصفنا منتمين لجنسهم ونوعهم حتى إشعار آخر. إنّ لدى هؤلاء ملايين المطلقات. كل واحد منهم وله مطلقٌ على مقاسه. مطلق يناسب ثقافته وتربيته. مطلق من بيئته. وكلها أو معظمها مطلقات نسبية. فالطالب الجامعي مطلقه في الوظيفة المحلوم بها. ثم في خطوة تالية : الاستقلال ببيت خاص والزواج وتكوين أسرة. بعد ذلك يأتي مطلق الترقية في الوظيفة وربما العمل على مشروع اقتصادي صغير خاص.

كذلك المليونير لا يكتفي بملياراته. يريد مزيداً منها. العانس تريد عريساً. المريض يريد شفاء. العاشق يريد معشوقه، إلخ. فإنّ حُقِقَت لهم كل هذه المطاليب، فهل يكتفون ؟ لا. يريدون مزيداً فمزيداً. العاشق يريد معشوقة جديدة. فمعشوقته السابقة بيضاء، وهو رأى اليومَ امرأة سمراء، فوقع في سحرها ونكهتها المختلفة. فإن كان له عشيقة بيضاء، فماذا عن السمراء والصفراء والسوداء ؟ لكل واحدة منهن طعم آخر ونكهة أخرى. وهكذا، لا تنتهي النساء ولا ينتهي العاشق من صبواته وخيباته. فكل النساء صالحات للعشق، ولا تخلو امرأة من جمال، كما قال أبو الروائيين العرب، محفوظ.
وما يقال عن العاشق يقال عن سواه. الفرق فقط في الدرجة لا في النوع. فثمة مستهلك للمطلق على نطاق ضيق، متواضع وعملي، وثمة ما لا تكفيه كل هذه الدنيا.

والشعراء ينتسبون إلى هذا النوع الأخير. الحقيقي منهم، لا تكفيه الدنيا على رحبها. فمطلقه من النوع غير القابل للتحقق. غير الممسوك ألبتة. لذلك تراه تعيساً : تراه آسياً : تراه حائراً : تراه مكسور الروح : تراه ذاوي البشرة : غائرَ العينين : تراه رِجْلٌ هنا وأخرى هناك. فإن أردت معرفة وحقيقة ال [ هناك ] تلعثمتْ روحه وهو يردّ عليكَ. فهو أيضاً لا يعرف ما هي طبيعة وحقيقة [ الهناك ] هذه.
فهي بلغة الفلاسفة : quot; المُطلق quot;، وبلغة المتنبي : quot; جلّ أن يسمى quot;، وبلغة غيرهم : أشياء وأمور أخرى. وهي كما الموت، المآل الأخير للإنسان : تعددت الأسباب وهو واحدُ. تعددت الأسماء والموضوع واحدُ.
إنّ البحث عن المطلق يكون في نوعين : بحث عن مطلق أرضي وبحث عن مطلق سماوي. وفي حالة الشعراء، ربما لا يكفيهم هذان النوعان من البحث. ربما يبحثون عن نوع ثالث مزيج أو خليط من كليهما معاً، وصولاً إلى نوع واحد فقط.
أنا كشاعر، مُطلقي هو : القصيدة القادمة : القصيدة غير المكتوبة أبداً. وما دامت هذه لا تأتي وربما لن تأتي أبداً، ففي انتظارها، أقبل بمطلقات عظيمة، تعينني على تحمل وحشة الطريق وقلة الزاد : قراءة ما كتبه الآخرون، والاستماع والاستمتاع بما ألّفه الموسيقيون. والتأمل اليومي في صغائر الأمور، لأصل إلى ما ورائها من جلائل وكبائر.

وهكذا، ففي كل ليلة، لي سوناتا أو سمفونية. وفي كل ليلة لي كتاب أو بضع صفحات. وفي كل ليلة لي كرسي تحت شجرة الزيتون أو البرتقال. أجلس عليه، قبل الفجر بقليل، وأظل صافناً، مدهوشاً من جمال هذا العالم الساكن، ممغوصاً من أنني بعد سويعات سويعات فقط، سأنزل إلى دنيا الموظفين، إلى نثر الحياة اليومية البائس، فيضيع ما حصّلتهُ في الليل بشق الأنفس، هباءً منثوراً في مطالع النهار وأواسطه، وأيضاً نهاياته !

الواحد يكدّ ويتعب في الليل ليحصل على البيضة الذهبية، فإذا جاء النهار بنثره وبشره السقيمان، كُسِرَت البيضة، وتأسّف المرء على الزلال المسكوب !

معلش : خيرها في غيرها !