في مجتمع كبير العدد، فقير العدة، مشتت النظرات، محتار بين طبيعته وثقافاته، لا ينفك يتلمظ طريق الفكاك من براثن الازدواج، ومعاقل الإزهاق الروحي، يبحث بن دهاليز الأشياء ويترنح بين طموح الكلمات، الريب يستشري في شريانه، يعجز عن التعبير عن حرف أو جملة، يقول الكلام، ويمتعض فؤاده من فعل الكلام، بين الفعل والقول ينبعث الإحباط، ويتلبسه اليأس، وكأنما ينحت البحر تمثالا للفرح، ويحيل الصحاري كرنفالا للبهجة !
هكذا حال اليأسين، ضحايا الانفصام ؛ مابين الأنا المتعالية والواقع الهش، مابين الأرواح الزكية وبؤر السرطنة المجتمعية، صورة مهشمة، وقلوب متشظية، تتلمس الفكاك، تصرخ من الأعماق للأعماق، ومن فجاج الداخل إلى غياهب الحزن الدفينة.
سؤالها الأول : من أنا ؟ ولماذا هنا ؟ وإلى أين ؟
عُدمت الإجابة وفقدت الثقة بالعالم، ما ثمة لديها إلا العبث، ولا يستبين لها إلا الفوضى ؛ فوضى تدمر فوق ما تعمر، وتعري أكثر مما تجمل، وتتهكم بشكل لايبدي مواربة.
لعل ما سبق تمّ إلغازه، واستهدفَ الحرفُ فيه الإخفاء بديلا من الفضح، وهذا حال المحبط ؛ لذا كانت الكتابة عنه ستر للخافي أكثرَّ منها إبانة عنه.
في بيئةٍ مهلهلة الفكر، متناقضة الاتجاهات، لايلم شعثها نظام، ولا يقود وهجها نُظم ! في حالة أدعى للرثاء، حالة تلغي كل بناء غض وتغتال كل عقل حرّ، وتقصي المصداقية، وتتغزل بالأكاذيب، تقرب التسطيح، وتستبعد شبكات الفهم وآليات التعقل، لا مكان فيها لتفتق العقول، ولا مجال لدعم الفردانية، مجتمع بنيته الأساس التوحش، و هاجسه الأكبر ((قطعنة)) الأمة ! في تحرش سافر لنواميس الحضارة.
ماذا يمكن للمبدع هاهنا سوى التألم على نحو مبدع، في تقافزٍ خلاقٍ لحروف الألم، وخطابات الاستنكار المستمر ؛ فهو غيرَّ ممكنٍ من خلق الواقع المنتج، ولا الحال المستفزة للبناء الفائق..
هنيئا لكم معشر المحبطين العرب، فأرضكم (أرض السواد)، وبيتكم المغزول من الصوف، أمسى مستوردا من حجر كئيب، وحروف الأكابر تبني سياجا عليكم ndash; لأجلكم ndash; تمنع عنكم زفر الخاطئين، ودنس الآخرين، أما بيوتات العلم ndash; بأخبار الهالكين ndash; فترسم لكم مستقبلكم المخطوط في أسفار الغابرين، فلم الإبداع وقد كفيتم عَنته، وسلمتم من غبنه، فناموا ما تبقى من عمر البقر، وأيام السلاحف، فالمجتمع يقدس العبودية التي خلق لها ndash; زعموا ndash; عبودية الفرد للقطيع، والعقل للهجيع، والنور للظلمة، والصدق للغلبة.
يتكاثر من حولي المحبطون من براثن الواقع، وواقع الجهالة، المتحفزون لنور العقل وانبلاجات الحرية، أعني حرية الحرف واللغة، اليافعون في غمار الرجولة، الناضجات في جماليات الأنوثة، الموحدون في جدليات اللغة والفكر، يتكاثرون حدّ نسيانهم، ويصرخون حدّ غثيانهم، ويبدعون بدم الروح حروف الرحمة والأدب، الأدب الذي يمقته نيشيه و يطرب له هيجل.
يالصبيانيتنا الجميلة، يالحروفنا البكر، وكلماتنا المنسجمة، كم لنا من رقصة على معزوفات الواقع البائس تحيي فيها ما قتلته الماورئيات الحمقاء، وما صدته تلال الخُلق الراقي و(أسطورة الأدب الرفيع) !
سيداتي آنساتي سادتي هل قرأتم سوى الشعور ؟ وهل وجدتم سوى اللحن النشاز كالوقع المعاش ؟
لي أمثلة أوردها من مبدعي العرب الأحرار تحدد معالم ما أقوله، وتخلق له واقعا مضافا آخر.

[email protected]