مررت قبل فترة على السفارة السورية في الحي الدبلوماسي في الرياض مصادفة، ووجدت ازدحاما شديدا عندها، فتذكرت الاعلان الذي قرأته في الصحيفة والذي يدعو الجالية السورية التي تعيش وتعمل في السعودية الى التوجه الى السفارة من أجل ما يسمى ب quot;تجديد البيعة للرئيس السوري quot;وهو اعلان لم أر مثله من قبل أي دولة أخرى، فالذي أعرفه أن التصويت يفترض أن يكون اختياريا، ومن يحتج يمكن أن يصوت بورقة بيضاء باطلة ليعبر عن رفضه، وأن التصويت يعني وجود عدة خيارات أمام الناخب يختار منها ما يناسب مصالحه وميوله أو حتى في أسوأ الأحوال جيبه، لكن ما شاهدته هنا حرص على (الديمقراطية) والتصويت فريد من نوعه، حيث التجديد لرئيس (الجمهورية) الذي (ورث) الحكم من والده الذي بدوره وصل الى الحكم عبر الانقلاب العسكري!، انها الديمقراطية العربية بأبهج صورها وفوق ذلك كله لا يكتفى من المواطن الاستسلام وقبول الأمر الواقع والخضوع الصامت، بل يطلب منه -وامعانا في الديمقراطية !- أن يذهب ويقف في طابور السفارة كي يجدد البيعة وسيختم على هويته ليعرف ان كان جّدد أم لم يجدّد، وياويله اللي بيقول لأ.
وقبل أيام قليلة، اتصلت بي امرأة عراقية اعتادت على زيارة الرياض أيام الحصار وجمع المساعدات والعودة بها الى العراق، أخبرتني قصة أغرب من الخيال، حيث اختطف زوج ابنتها وطلبت العصابة دية للافراج عنه وبعد مفاصلات ومساومات و(أوكازيونات )وصلوا الى اتفاق على ربع مليون دولار وبعد جمعها وتدبيرها من هنا وهناك، سلمت الدية للخاطفين الذين استلموا المبلغ ثم رشوا المخطوف بسبع رصاصات، ورموه، لكن كتب له عمروعاش وجاءوا به الى السعودية ليتعالج وفور استيقاظه قال لهم أن العصابة التي اختطفته هي برئاسة صديقه وابن جيرانه الذي ينتمي الى طائفة أخرى،، فيالها من ديمقراطية التي نجحت أكثر ما نجحت فيه هو احياء روح الانتقام والطائفية ؟ وكيف لم نتوقع أن يحدث ذلك في مجتمع عاش عقودا طويلة في الخوف والشك والريبة و نطلب منه أن يتحول بين ليلة وضحاها وبعصا سحرية- أميركية بوشية- الى دنمارك أخرى ؟
أما في فلسطين فرغم الأوضاع السيئة منذ عقود، والاختلاف الطويل حول تأييد أو رفض السلام مع اسرائيل، الا أننا لم نصل الى مرحلة أن يكون أقصى طموحنا هو عقد(معاهدة سلام )بين الفلسطينيين والفلسطينيين بدلا من الاسرائيليين، الا عندما قررنا تطبيق نموذج الديمقراطية الغربية عليهم.
ويظل وضع الديمقراطية الكويتية أهون من غيره أو (نص مصيبة ) كما يقولون، والسبب في رأيي هو وجود الأسرة الأميرية الحاكمة والتي تشكل صمام أمان للكويت حيث مهما بلغت الخلافات تظل السلطة خارج الصراع، لكن حتى في الكويت الأعرق في الديمقراطيات العربية لا يخفى علينا سوء استخدام الديمقراطية، ولوألقينا نظرة على صفحات الجرائد الكويتية سنجد معظمها اما تتحدث عن مشاكل مجلس الأمة أو استجواب وزير وطرح الثقة فيه أو انتقاد المجلس وأعضائه بدلا من أن يكون الحديث عن مشاريع التنمية والتعليم والتطور في بلد يكفل دستوره الحريات مثل الكويت، وكأن المجلس أصبح صانعا للمشاكل ومعرقلا للتطور، بدلا مما يفترض أن يكون دوره كواضع للحلول.
وفي السعودية كانت لنا تجربة للتصويت في الانتخابات البلدية، كان من أهم ما أسفرت عليه هو تداول قوائم ذهبية عبر رسائل الجوال والايميل، تحث المواطن على التصويت لمجموعات اسلامية معينة على طريقة (صوّت تؤجر )، وهي مثل القوائم الانتخابية التي أفتى بوجوب التصويت لها السيستاني في العراق، فيكون اختيار المواطن ليس للأصلح للوطن ونموه وتحسين أوضاعه الشخصية من النواحي التعليمية والصحية والمعيشية وهو ما يفترض ما وضعت الانتخابات لأجله، بل تحول الاختيار الى باب آخر من أبواب الوصول الى الجنة، والذي ينجح في اللعب على هذا الوترهو الذي سيضمن الفوز.
باختصار: الديمقراطية ممارسة وسلوك وقيم تتضمن الحرية واحترام الآخروتقديم قيم المواطنة على الانتماءات الأخرى، أما تطبيق الديمقراطية بنموذجها الغربي، لن يفلح في مجتمعات يعمها التكاذب والجهل والشك والريبة والأدلجة والهوس بالسلطة وعشق الكراسي والخوف من الآخر وتصيد الفرص للانقضاض عليه.
[email protected]