يتخذ التطرف الثقافي أشكالا حادة من الطرح ، تتعدى مقولة الثقافة المتميزة عن غيرها بالإحالة إلى بنيات منطقية وعقلية صارمة، إلى اختصار التاريخ الجوهري للتطور البشري وتراكمات المعرفة كلها في ذمة ثقافة معينة، أو نوع من التفكير، مما ولّد فلسفة الإنوية الثقافية أو المركزية الثقافية، وهو الأمر الذي يهمش الثقافات الاخرى، بل يحكم عليها بضرورة التخلي عن هويتها ومكاسبها إنْ كا نت لها مكاسب وهوية، ويطالبها ضمنا بالالتحاق بثقافة مسماة لا غير، تلك الثقافة التي أختارها القدر لتسود الكون كله. المركزية الثقافية مرض معد ينتقل بسرعة مذهلة بين الثقافات، فيلغي أ ي أمل ما يطلق عليه البعض التنوع الثقافي، وما يمكن أن يترتب عليه من مشاريع إ نسانية تخدم كل البشر، بصرف النظر عن الانتماء الديني والعرقي والقاري والمذهبي.
لقد أجترحت تسميات متطرفة لتقسيم وتصنيف المَلكة المفكرة لدى الانسان / أي إنسان /، فكان هناك منطق وما قبل المنطق، وكان هناك عقل وما قبل العقل، والعقل ذاته أتخذ مجموعة من ا لانتماءات الجغرافية والحضارية، حيث أُلغيت فكرة تساوي البشر بالعقول، مما جعل العقلية بدل العقل، وأحل طريقة التفكير بدل مصدر التفكير ، وتمادى أتباع المركزية الثقافية بغرورهم فشطبوا على كل ثقافة لا تنتمي إلى طرز حضاري ولوني معين، وأسسوا لنوية ثقافية تجبر كل الثقافات الا خرى على الإلتحاق بها، بل والعمل على إفنائها، بتطويرها صوب الثقافة المركزية التي كتب لها القدر أن تسود وتحكم.
منذ أن أعلنها (رينان) عن عجز الفكر العربي من ممارسة التحليل، لما ينطوي عليه من قدرة رائعة على تفكيك المادة المعرفية والمادة الطبيعية، لأكتشاف العلاقات، ومن ثم تشكيل موجودات ومعارف جديدة، كان هناك سعي محموم لتجذير علم إنسان ينتمي إلى حضارة معينة، ليتحول إلى معمل يفكك تقنيات التفكير لدى الأخر باعتباره تفكيرا ينتمي إلى ماقبل التا ريخ، ويفتقد إلى معايير الصرامة والاتساق، وتمادت هذه النظريات بغيها، حتى طالبت بضرورة تشريح الادمغة البشرية على اختلاف إ نتمائها الحضاري والديني والقاري كي تُثبت للعالم أن هناك عقولا وليس عقلا!
كانت ثورة رائعة تلك التي أسس لها ليفي شتراوس عندما إنتفض على حصر نعمة المنطق أ والتفكير المنسجم مع ذاته بأبناء الجنس الابيض، فليس الفكر الوحشي كما تتصور المركزية الثقافية عبارة عن صدف فوضوية، بل يكمن خلفة بنيات منطقية خاصة به، وهناك تجاذب وتجانس وتماهي بين منطق هذه الفكر ونتاجه، فإن الفكر لا يقاس بمدى مطابقته للواقع في كثير من المحاولات التقييمية بقدر ما يقاس بمقدار تناغم وتجانس المقدمات والنتائج، حتى وإن كانت المقدمات فاسدة، وإلا هل ينكر هؤلاء أن هندسة (ريمان) وغيره عبارة عن بديهيات ومواضعات متسقة، قد لا تنتسب للواقع بشي، ولكن البناء الذي تأسس على هذه البديهيات والمواضعات المتسقة جاء وفيا لتلك المقدمات بشكل مذهل.
إن عملية النفي التي مارستها حضارة معينة لم تكن خارجية وحسب، بل مارست دمويتها وبشاعتها داخليا ايضا، وهل محاولات الفيلسوف الراحل (فوكو) وهو يشرِّح الموقف الاجتماعي المتطرف والغالي تجاه الخارجين على قيم المجتمع إلا ضحايا تلك الثقافة التي تدعي المركزية والإنوية؟ وعندما تتغير نظرة المجتمع الى هؤلاء من كونهم مجرمين إلى كونهم منحرفين إلى كونهم مرضى، إلى كونهم اسوياء وفق القانون الذي فطروا عليه إلا ثورة عارمة على التمييز الإنوي لثقافة ما؟
ليست فكرة أو مشر وع أو فلسفة الثقافة الانوية، أو الثقافة المركزية خاصة بعالم الشمال من المعمورة، بل هي اليوم مرض عضال، ينذر بتطرف ثقافي اعمى، يقضي على كل منجزات الفكر البشري، من دون النظر إلى مصدره وهويته، مقولة الاسلام هو الحل ، مشروع تقسيم العالم الى دار كفر ودار الا سلام، وغيرهما من المقولات تطرح بكل وضوح مشروع الثقافة الصافية، الخالصة، وهي بداية مركزية ثقافية ذات لون خاص بها، تقابل مركزيات ثقافية أخرى، هناك عملية نفي، وطبقا لهذه المقولات التي راحت تتوالد بشكل مذهل، لا نستغرب أن تطرح بل و الفعل ذلك ما حصل فعلا، فقد راحت ا لبحوث الأركولجية والمنطقية في القارة السوداء تبرهن على أن مركز العالم هناك، وإن اللون الاسود هو أصل العالم، والثقافة التي نبتت هناك تشمل كل ما تحتويه الثقافات الاخرى من إنجاز لصالح الحقيقة.
لقد آن الاوان لتاسيس فكر ثقافي جديد، ينبثق من تتبع المنجز التاريخي في العالم، ومن قراءة نابعة من تصور مسبق يقضي بكرامة كل البشر، ويحترم كل الثقافا ت، فأن الإنتماء الثقافي حقيقة من حقائق الخلق، وهي حقيقة جديرة بالدراسة والتحليل لما في ذلك من آثار على تحديد الهوية والتكامل، وإثراء حياة الإنسان، كما لا يساورني أدنى شك أن الانتماء الثقافي يجب أن لا يقودنا إلى التعصب الثقافي الذي يطوع كل قيم الحياة له على أساس انه نهاية المطاف كجوهر أو أساس للحياة والاخلاق.
لا يمكن لنا أن ننقد نظرية الإزاحة ـ مثلا ـ في النقد الادبي إقتصاديا، ولكن يمكننا أن ننقدها ثقافيا، ولا يمكننا أن ننقد نظرية فائض القيمة أ دبيا أو لغويا، ولكن يمكن أن ننقدها ثقافيا، ولا يمكننا أن ننقد أ خلاق العيادة الطبية الاوربية جيولجيا ولكن يمكننا أن ننقدها ثقافيا، ذلك أن كل نشاط إنساني يتم في سياق ثقافي، سليل موج ثقافي تراكم عبر تاريخ طويل وشاق، فللثقافة وجود حيوي في صميم كل شي، ومن هنا تتجلى عملية التوحيد الثقافي، وتظهر لنا بوضوح سماجة المركزية الثقافية.
وأخيرا ا ختم كلامي بمقولة لحكيم الهند غاندي (إنني على استعداد لأن أ فتح نوافذ بيتي لتدخله الرياح من كل إتجاه وكل جانب،ولكن من دون أن تقوض هذه الرياح الجذور اتي يقوم عليها بيتي والاسس التي ينهض عليها)

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية