في أوائل العام 2005 كتبتُ في مقال عنوانه quot; الديمقراطية اللبرالية وتيارات الفكر السياسي العراقي المعاصر quot; عن الديمقراطية اللبرالية ما يلي:
quot; إنها كأي منجز بشري لا يخلو من العيوب ولكنه يحمل آلية تصحيح ذاته quot;.
لا شك أن بوسع المرء أن يعدد الكثير من العيوب في النظام السياسي اللبرالي، ولكن من الواضح ايضا أن التداولية التي هي السمة الجوهرية في الديمقراطية اللبرالية كفلت دائما الإرتقاء الى مرحلة جديدة مختلفة نوعيا بتجاوز مرحلة سابقة لم تعد تتلائم مع المستجدات وهو مثال يتلائم مع الديالكتيك على أي حال اكثر مما أستطاعت أن تعرضه علينا أنظمة سياسية شمولية من أمثلة قامت بالتبشير بالدياكيتك والحركة المطلقة كلعبة ايديولوجية لقضاء اوقات الفراغ تسعى الى افراغ الديالكتيك من لازمته، الحركة لكي تمنع التغيير وتضفي على قادة الدول الاشتراكية في حينها صفة الخلود.
سيجد الجامدون الشتامون مناسبة للتعريض بدعوى التنكر لافكار الامس وكأن الوفاء للمبادئ يقتضي تحوليها الى آلهة والسجود لها حتى اليوم الاخير.
اليوم شكل انتخاب باراك اوباما بدون شك مرحلة نوعية في تطور الديمقراطية اللبرالية بعد سنوات من هيمنة الرجل الأبيض بشكل مطلق على مركزي الرئيس ونائب الرئيس في الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها.
هذا النجاح توج سنوات طويلة من مسيرة الحقوق المدنية للسود والملونين التي قطعت اشواطا كبيرة وثابتة مرت خلالها بمراحل صعبة ودموية دفع فيها قادة السود والملونين في الولايات المتحدة حياتهم على هذا الطريق، بل دفع ثمنها قادة بيض تجرئوا على دعم تشريعات لصالح الحقوق المدنية للسود تمثلت في اغتيال الرئيس الامريكي جون أف. كندي. لم يكن بعض هذه الامثلة ببعيد فحتى وقت قريب رفض كولن باول مقترحات للترشيح لانتخابات الرئاسة الامريكية بعد تعرضه لتهديدات تنصحه بضرورة العدول عن الترشيح بعد أن أصبح الاكثر شعبية في الولايات المتحدة بعد حرب الخليج الثانية التي كان فيها رئيسا للأركان.
الطرف الآخر والخطأ القاتل
ما كان عنصرا حاسما في مسيرة الديمقراطية اللبرالية وما ضَمَنَ لها المزيد من التطور اللاحق أي التداولية كان في الوقت نفسه نقطة ضعف الانظمة التي طرحت نفسها كبديل أي الانظمة الاشتراكية التي قامت على خصائص ترتكز ضمن اشياء اخرى على نقد الديمقراطية اللبرالية والمسعى لتقديم بديل أفضل. فالافتقار إلى التداولية كان الخطيئة القاتلة التي ادت الى انهيار الانظمة الاشتراكية بعد سنوات من تراكم النواقص والأخطاء، ولو كانت هذه الانظمة تعتمد على التعددية السياسية والاحتكام الى صناديق الاقتراع لكنا شاهدنا شيئا آخر، سيكون عندئذ بوسع القوى الاجتماعية التي تدعو الى التغيير بعد سنوات من الاداء الخاطئ أن تصل الى اوسع الاوساط من الناس من اجل تغيير سلس.
و لكن كل نأمة تدل على التغيير قبرت في المهد ولا زال quot;كتابquot; وquot; مفكرون quot; يتحدثون رغم كل هذه المآسي عما يسمونه بـ quot; التحريفية quot; التي تستدعي صراطا مستقيما مستمدا من الفكر الديني، لا زالوا يصرخون بكل هذا الهراء حتى وهم في طريقهم إلى قعر الهاوية.
لقد قبرت كل محاولات التغيير في المهد حين تجرأ قادة من هنغاريا وجيكوسلوفاكيا على طرح رؤى مختلفة وكرس كأنما للأبد نظام الحزب الواحد الذي يقود للفرد الواحد والايديولوجية الواحدة ومنعت الصحافة الحرة ومنعت التعددية الفكرية وعطلت بذلك هذه الآلية المهمة مما جعل الانظمة التي تتسمى بالاشتراكية بعد سنوات من تراكم عناصر العجز انظمة خارج التاريخ.
موقف الخاسرين
تعكس الخسارة أكثر مما يفعل الفوز خصال المتنافسين على المواقع والمراكز ا لقيادية في المجتمعات اللبرالية، فقبول الخسارة يمثل اشجع المواقف، لا تزال عالقة في ذهني كلمات الرئيس الالماني هورست كولر امام ناخبيه بعد أن حصل على أكثر قليلا من 50 % من الاصوات حين قال إنه يشكر الذين انتخبوه وسيعمل الكثير من اجل اقناع الذين لم ينتخبوه بأنه الرئيس المناسب. ويرحب الخاسرون بوصول الفائزين الى مراكز الحكم في المجتمعات اللبرالية بدون ضغينة وبشجاعة وتَطوى صفحات الصراع والخلاف والتشهير احيانا لتحل محلها دعوات الى العمل المشترك. إن الاعتراف بالهزيمة هو العمل الأكثر شجاعة بكثير من كل الانتصارات الزائفة التي سطرها قادة شموليون.
في المجتمعات المحكومة من قبل انظمة شمولية لا يقصى الرؤساء من السلطة الا بواسطة القوة أو الموت بعد ان يصل اغلبهم الى ارذل العمر ويصبح غير قادرا حتى على الكلام، وخلافا لمصالح الدول التي يحكمونها ومصالح المجتمع يتقاتل القادة الشموليون حتى آخر قطرة من دماء شعوبهم للبقاء في السلطة.
و لكن مع ذلك لا نزال نرى الكثير ممن لا يرى في المجتمع اللبرالي شيئا يستحق الثناء، وتؤخذ الظواهر المختلفة ككل واحد ويوصف بأنه اما سيء من قبل أعداءة وبالتالي لا يوجد فيه ما يدعو الى الدراسة والاقتداء او يُطرى بشكل طاغٍ دون القدرة على رؤية مثالبة.
إن ما هو جوهري في المجتمع اللبرالي وما هو قادر على اعطاء هذا المجتمع ديناميكية ايجابية تمكنه من تجاوز سلبياته هو التداولية والحريات العامة. توفر هذه الخصائص الإمكانية لمعرفة النواقص التي ترافق كل شكل من اشكال النشاط البشري ومن ضمنها الانظمة السياسية لكي يمكن استخدام آلية التداولية السلمية للوصول إلى أهداف وانجازات كانت تبدو مستحيلة التحقيق حتى قبل عقد من الزمان.
دوافع التشكيك في الديمقراطية اللبرالية
توجد دوافع متعددة ومختلفة لرفض الآليات الديمقراطية التعددية ولعل أسرعها ظهورا على السطح تلك التي ترفضها انطلاقا من أنها غربية المنشأ وقد أشار نفس المقال سابق الذكر إلى أن المنجزات هي منجزات بشرية ساهم في تطويرها كامل النشاط البشري. ثمة تداخل بين هذا الشكل من الرفض مع الشكل الرافض الآخر المعتمد على السجل غير المشجع للانظمة الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص في مساعدة انظمة طغيان على البقاء لفترة طويلة، ودعم انظمة عدوان احتلت اراضي الغير، ويحاجج هذا البعض معتمدا على امثلة حسية معروفة وخصوصا القضية الحساسة القائمة على الدعم المستمر لقيام اسرائيل باغتصاب حق الشعب الفلسطيني في العيش على ارضه.
هذه القضية هي من اكثر القضايا التي الحقت ضررا بقضية الديمقراطية في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الاوسط.
و لكن من الضروري الفصل بين الآليات الديمقراطية التداولية كشكل من اشكل تنظيم العلاقة بين الافراد والمؤسسات وكشكل من اشكال الحكم وبين الاتجاهات التي هي موضع نقد في السياسة الخارجية وأن يصار الى اعتبار ان هذه الميول السياسية ليس نتاجا للديمقراطية وانما هي مضادة لها. وسنرى من مثال الانتفاضات المتكررة للسود في الولايات المتحدة الامريكية وأمثلة القهر والاستعباد التي تعرضوا لها على سبيل المثال كيف انهم لم يتخلوا عن الديمقراطية كوسيلة للتغيير حتى في اشد الظروف الحالكة وادركوا ان هذه الآلية في التغيير هي الوسيلة الوحيدة التي تمكنهم من الوصول الى المساواة الكاملة على اساس انساني.
المزيد من الاندماج في المجتمع الامريكي
يبدو أن لحمة المجتمع الامريكي التي تعرضت الى ضرر كبير نتج عنه انقسام عميق نتيجة سياسات بوش وخصوصا في مجال مكافحة الارهاب مستعدة الآن لأن تسترد بعض عافيتها. فقد اجمع الناخبون الامريكيون بغض النظر عن لون البشرة على دعم المرشح الديمقراطي، وكان ضمن الداعمين قادة بارزون من الحزب الديمقراطي الامريكي مثل بل وهيلاري كلنتون التي تجاوزت بسرعة سعيها لمنافسته وأل غور وآخرون وعلى صعيد الناخبين شهد دعم المرشح اوباما وانتخابه تلاحما بين الامريكين الساعين الى التغيير دون اكتراث للون البشرة أو العرق والأصل. واكدت التداولية ان السياسات التي تسيء التقدير في المجال الاقتصادي أو في مجال السياسة الخارجية أو في أي مجال آخر لا بد ان تكون بثمن باهظ دفعه الجمهوريون هذه المرة بشكل مضاعف في انتخابات الرئاسة وفي انتخابات المجلسين . أما في المجتمعات المحكومة من قبل أنظمة شمولية فإن مرتكبي الاخطاء القاتلة والتي تتسبب في الكوارث المتلاحقة ليسوا عرضة للمسائلة ولا للإزاحة وهم على العكس من ذلك يستطيعون تحويل هزائمهم الى انتصارات بحكم احتكارهم وسائل الإعلام التي تعيد انتاج الوعي الجمعي بشكل مزيف.
رافقت الإنتخابات ظواهر جديدة ومتعددة سوف تجعل منها ذات ملامح جديدة سنراها مرارا وربما بشكل مطور اولها انخراط الشباب بشكل فاعل في عملية الاقتراع والتخلي عن السلبية وعدم الاكتراث في المنعطفات المهمة والاخرى هي الدور الكبير الذي اضطلع به الكومبيوتر ووسائل الايصال الاعلامي مثل الانترنت في حشد المزيد من الناس للمشاركة في الانتخابات وخصوصا لصالح المرشح الديمقراطي اوباما.
ماذا نتوقع من اوباما؟
هل يرتقي اوباما الى مستوى التحديات ويحقق وعوده بالتغيير؟
هذا السؤال منطقي ومبرر وقد طرحه الكثير من المحللين المتسائلين لسبب بسيط أن صناعة القرار في الولايات المتحدة التي رغم إنها دستوريا من صلاحية الرئيس ذي المركز القوي حسب الدستور والنظام السياسي الامريكي زائدا مجلسي البرلمان، إلا عوامل quot; غير مرئية quot; تساهم في صناعة القرارات وربما القرارات الحاسمة بعد أن يصل الرئيس إلى السلطة.
و بالرغم من أن الفرق بين الساعي للرئاسة والرئيس الفعلي دائما موجود في كل دول العالم الا ان هذا الأمر في الولايات المتحدة على وجه الخصوص واضح وضوحا ملفتا للنظر.
و الرئيس ليس بمستطاعه حين يصل الى سدة الحكم في هذا البلد الذي هو اقوى بلد في العالم اقتصاديا وعسكريا أن يتجاهل الكثير من العناصر التي تساهم في صنع القرار خصوصا وانه كرئيس هذه المرة وليس مجرد مرشح للرئاسة سيكون بمستطاعه الاطلاع على طيف واسع من المعلومات والمخاطر والوقائع الستراتيجية غير المعلنة التي تجبره ربما على اعادة ترتيب اولوياته ما يفسر لنا الفرق الكبير بين الوعود الرئاسية والانجازات الرئاسية للفائزين.
فهل سيكون بمستطاع اوباما الخروج من أسر المصالح المعولمة للولايات المتحدة التي تواجه تحديات كبيرة على المستوى العالمي بطريقة ما؟
شهد العقود الماضية تراخيا من قبل الديمقراطيين في مواجهة بعض الظواهر العالمية قبل استفحالها مما جعل مهمة المواجهة امام رئيس جمهوري، وقد طرح آل غور والرئيس بل كلنتون رؤى ذات طابع عالمي وخصوصا في مجال البيئة والعلاقات الدولية ولكن التحديات من الضخامة بحيث تبدو احيانا اكبر من قدرة المؤسسة الرئاسية الأمريكي او النظام الامريكي نفسه. فكيف سيواجه اوباما هذا وغيره من التحديات وهل سيحافظ في دوامة التحديات القادمة على الق الكارزما التي اوصلته إلى البيت الأبيض؟