كان طبيعيا أن يعيد أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح، بما عرف عنه من حكمة ودراية وخبرة، تكليف الشيخ ناصر محمد الأحمد الصباح أعادة تشكيل الحكومة. الحكومة لم تسقط أصلا. الحكومة ممثلة برئيسها أرادت توفير مجال لألتقاط الأنفاس والتفكير في العمق في ما آل أليه النظام السياسي في الكويت، فكان أن قدمت أستقالتها. قدمت أستقالتها تفاديا لتحول مجلس الأمة ألى سوق عكاظ آخر ومسرح للمزايدات التي لا تنم سوى عن تدهور في مستوى النقاش السياسي في ظل غياب ما يردع بعض النواب من أثارة مسائل لا حاجة ألى أن تثار. أنها مسائل لا تقود سوى ألى أثارة أسوأ نوع من الغرائز، أي الغرائز المذهبية. ألا يريد هؤلاء النواب أن يتعلموا شيئا مما يجري في المنطقة وعلى حدود الكويت؟ ألا يعتقدون أن من الأنسب التفكير في المستقبل بدل أخذ البلاد ألى قعر الماضي، أي ألى أسوأ ما فيه بدل السعي ألى البناء على الصفحات المشرقة والمضيئة من تاريخ الكويت؟
كثيرة الصفحات المشرقة والمضيئة في تاريخ الكويت. يكفي أنها ذات تجربة ديموقراطية عريقة. ويكفي أنها كانت دائما بلد الأنفتاح والتسامح. يكفي أنها كانت دولة رائدة أقتصاديا وأجتماعيا. يكفي أنها كانت تفكر دائما في مستقبل أجيالها فوظفت ثروتها في خدمة تلك الأجيال. ويكفي خصوصا أن شعبها وشيوخها وقفوا وقفة رجل واحد في مواجهة الأحتلال العراقي والتصدي للمغامرة المجنونة لصدّام حسين الذي أراد أحلال نكبة بالكويت وأهلها شبيهة بتلك التي أحلها بالعراق والعراقيين. وسمح ذلك في العام 1990 للأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد وولي عهده الشيخ سعد العبدالله ومعهما الأمير الحالي باللجوء ألى الوسائل اللازمة للتخلص من الأحتلال وأستعادة الكويت لحريتها وسيادتها وأستقلالها وأستعادة العزّة والرفاه.
سيشكل الشيخ ناصر حكومته، وهي الخامسة في أقل من ثلاث سنوات. هذا ليس دليل عافية بمقدار ما أنه دليل على أن هناك عطبا ما في النظام السياسي المعمول به. لا مفرّ من تشكيل حكومة جديدة ولكن لا مفرّ ايضا من تركيز الجهود في المرحلة المقبلة على البحث في كيفية أصلاح العطب الذي يهدد بنسف الحياة السياسية في الكويت، بل يهدد الأسس التي تقوم عليها التجربة الكويتية التي سمحت لكل مواطن بأن يشعر بالفخر بسبب أنتمائه ألى الكويت.
من يحب الكويت ويبدي حرصا عليها، يعترف أوّلا بأن هناك مشكلة مرتبطة بالنظام السياسي القائم. ويعترف خصوصا بأن المشكلة أدت ألى دوران في حلقة مقفلة. هل يجوز لبلد كان منارة لدول المنطقة، بلد عرف كيف يتجاوز كل الصعوبات منذ أستقل في العام 1961 أن يكون في السنة 2008 في وضع من يدور على نفسه؟ ليس طبيعيا بقاء الوضع على حاله. ثمة حاجة حقيقية ألى كسر الحلقة المقفلة وتجاوز النظام السياسي الحالي الذي بات محكوما بعلاقة تصادمية بين الحكومة والبرلمان. مثا هذا النظام يستولد الأزمات المتتالية ولا أفق له، ألاّ أذا أعتبرنا التصعيد اليومي بين الحكومة والنواب هدفا بحدّ ذاته.
لعل أدق وصف للحال التي يعاني منها النظام السياسي الحالي في الكويت ما قاله متابع للوضع من قرب. يقول هذا المتابع أن في أساس المشكلة حكومة تحتاج دائما ألى حماية نفسها من النواب كي تمرر المشاريع التي تهم البلد والمواطن بالتي هي أحسن، فيما لدى عدد لا بأس من النواب همّ واحد محصور في تمرير معاملاتهم. وفي حال توقفت هذه المعاملات لسبب ما، قد يكون قانونيا في أحيان كثيرة، تصدح أصوات لنواب يطالبون بضرورة أحترام الدستور والقانون. أما أذا تعرقلت صفقة حكومة- نيابية لسبب ما، تعلو أصوات لوزراء يدعون أنهم يتعرضون لحملات من من كل نوع نظرا ألى أنهم رفضوا تجاوز الدستور والقوانين المعمول بها. النقاش في شأن من يتحمل المسؤولية لا ينتهي. أما النتيجة، فأنها تتلخص بأن كل مشاريع التنمية توقّفت. هناك، على سبيل لمثال وليس الحصر، مشروع تطوير الحقول النفطية في الشمال. لا يزال هذا المشروع في الأدراج منذ عشرين عاما. هل يمكن تخيل العائدات التي كانت جنتها الكويت لو كانت حقول الشمال تنتج نفطا وسعر البرميل قريب من مئة وخمسين دولارا؟ مشاريع أخرى مرشحة للأنضمام ألى حيث أنتهت حقول الشمال. من بينها مشروع المصفاة الرابعة الذي أسال حبرا كثيرا قبل دخوله مرحلة الجمود... ومشاريع مختلفة مرتبطة بالخصخصة والنظام الضريبي والأستثمار الأجنبي والمدن الجديدة التي يستفيد منها المواطنون. يظهر أن الأدراج تتسع لكل أنواع المشاريع في الكويت.
توقّفت التنمية في الكويت. كان طبيعيا أن يؤدي ذلك ألى بروز ظواهر مقلقة مرتبطة بالطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية بدل تراجع هذه الظواهر. أدى ذلك ألى تكريس العامل القبلي وتحوله ألى العامل الأساس في الأنتخابات، خصوصا في الدوائر الواقعة خارج العاصمة. صارت الحكومة تعتمد المحاصصة لأرضاء الجميع وأسكاتهم. صارت تعتمد المحاصصة لأرضاء الشيعة والسلفيين والأخوان والليبيراليين أضافة ألى المنتمين ألى كل عشيرة من العشائر الكبيرة وحتى الصغيرة أحيانا. يحصل ذلك في وقت يطرح الأمير وولي العهد ورئيس الوزراء الذين يعرفون تماما ما يدور في العالم وحول الكويت رؤية مستقبلية تتفق مع امكانات الكويت ودورها الحقيقي، رؤية تستهدف، بين ما تستهدف، تحويل الكويت ألى مركز مالي أساسي ومحوري في المنطقة...
هل من مخرج؟ الجواب أن لا شيء يمكن أن يحصل بين ليلة وضحاها. لكن لا شيء يمنع من التفكير منذ الآن في خطوة أولى تقوم على تغيير النظام الأنتخابي في أتجاه يؤمن أنصهارا وطنيا وتطويرا للنظام السياسي بما يسمح بتنظيم العلاقة بين السلطات بشكل أفضل. أنها علاقة يمكن توظيفها في سبيل تحصين الكويت في منطقة ليس مستبعدا أن تتعرض لعواصف في المستقبل القريب!