كان لا بد من التحرك عربيا في أتجاه العراق. ليس طبيعيا التفرج على ما يجري في العراق والأكتفاء بالقول أن البلد ضاع وأنه لم يعد جزءا من المنظومة العربية وأنه صار مقسّما أو بلدا من دون هوية واضحة. على الرغم من تعقيدات الوضع العراقي والتهديدات التي يتعرض لها البلد، كان الخيار واضحا. أنه بين الوقوف على الحياد من جهة والسعي ألى لعب دور أيجابي في التأثير على الأحداث من جهة أخرى. بدل لعن الظلام، يمكن أضاءة ولو شمعة كما يقول المثل الصيني. ما يفعله بعض العرب الذين يمتلكون حدّا ادنى من الرؤية المستقبلية في هذه المرحلة بالذات هو أضاءة شمعة في الظلمة العراقية بدل الأكتفاء بلعن الظلام. هناك فرصة لتحرك ما في العراق. حسنا فعل من ألتقط الفرصة نظرا ألى أن العراق يشهد تطورات في غاية الأهمية لا يمكن تجاهلها في أي شكل. كل ما فعلته دولة الأمارات العربية المتحدة أنها اضاءت شمعة في الظلمة العراقية مستثمرة في المستقبل العربي بدل البقاء في أسر الماضي وعقده.
قبل كل شيء، لا مفرّ من الأعتراف بأن تحسنا طرأ على الوضع الأمني في هذا البلد العربي المهم الذي يُعتبر ركيزة من ركائز التوازن الأقليمي القائم منذ العشرينات من القرن الماضي بعد أنهيار الدولة العثمانية أثر الحرب العالمية الأولى ونشوء الكيانات السياسية القائمة حاليا ومن بينها العراق نفسه بحدوده الراهنة. ما يشير ألى تحسن الوضع الأمني في العراق توقف عمليات التطهير ذات الطابع المذهبي في مختلف مناطق العراق بما في ذلك بغداد. ثمة من يقول أنه لم تعد أحياء مختلطة في بغداد وأن التطهير حصل ولم يعد مجال لأخراج السنة من الأحياء ذات الأكثرية الشيعية أو الشيعة من الأحياء ذات الأكثرية السنية، نظرا ألى أنه لم يعد هناك شيعة في الأحياء السنية ولا سنة في الأحياء الشيعية. هذا صحيح ألى حد كبير ولكن ما لا بد من الأعتراف به في الوقت ذاته، وما قد يكون صحيحا أكثر، أن الجو العام تحسن بعدما أظهرت حكومة نوري المالكي أنها تعبّر ألى حدّ كبير عن رغبة في أن يكون العراق بلدا لجميع العراقيين أوّلا وأن يكون شيعة العراق مختلفين عن شيعة أيران، أي أن يكونوا عربا غير تابعين لنظرية quot;ولاية الفقيهquot; التي تحاول أيران غزو العالم العربي من خلالها.
حصل تحسن في الوضع الأمني في العراق عموما. لا يمكن تجاهل هذا الواقع. ما لا يمكن تجاهله أيضا أن الأيرانيين لم يكونوا مرتاحين ألى نتائج معركة البصرة الأخيرة ثم معركة السيطرة على مدينة الصدر في بغداد. لم ينتصر الجيش العراقي في تلك البصرة بشكل حاسم، أنما أضطر نوري المالكي الى التوصل ألى أتفاق لوقف النار مع quot;جيش المهديquot; الأيراني الذي يقوده مقتدى الصدر في مدينة قم الأيرانية بأشراف قائد quot;فيلق القدسquot; في quot;الحرس الثوري الأيرانيquot;. لكن ذلك لا يمنع من الأقرار بأن معركة البصرة كانت أشارة ألى رغبة المالكي في الحدّ من النفوذ الأيراني الذي يمارس عليه بشكل مباشر. أنه تحد كبير لرجل مثل رئيس الوزراء العراقي الحالي المحاط برجال تابعين للنظام الأيراني من كل حدب وصوب والذي يحاول القول أنه عراقي أولا... وأنه غير مذهبي ألى حدّ ما.
لم يكن ممكنا ترك العراق فريسة لأيران. كان لا بد من مساعدة العراق والعمل في الوقت نفسه على أيجاد توازن معين في العراق يصبّ في مصلحة وحدة البلد أوّلا من دون المس بالتنوع العرقي الذي يتميّز به والمحافظة على أستقلاله النسبي عن أيران ثانيا وأخيرا. بأختصار شديد، كان على العرب القيام بدور ما. زار وزير الخارجية الأماراتي الشيخ عبدااله بن زايد بغداد قبل نحو شهر، ثم عيّن الأردن سفيرا في بغداد مع أستقبال الملك عبدالله الثاني لرئيس الوزراء العراقي في عمان. ترافق ذلك مع أنفتاح كويتي وبحريني على العراق. لكن نقطة التحول ستظل تلك الزيارة التي قام بها المالكي لأبوظبي يومي الأحد وألأثنين في السادس والسابع من يوليو- تموز الجاري ومحادثاته مع كبار المسؤولين في الأمارات على رأسهم الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة وكبار المسؤولين في الدولة. لم تكتف ألأمارات بتقديم الدعم السياسي للمالكي وحكومته وللعراق كعراق، بل شطبت في الوقت نفسه الديون العراقية والتي تبلغ نحو سبعة مليارات دولار. والمبلغ يشمل الدين الأصلي المترتب على العراق والفوائد على الدين. أنه رهان حقيقي على الأستقرار في المنطقة وفي العراق نفسه من أجل تأمين توازن يقوم أولا وأخيرا على عراق متصالح مع نفسه قادر على أحتواء مشاكله الداخلية ومعالجتها بعيدا عن التأثير الأيراني وغير الأيراني... بما في ذلك التأثير الأميركي بحدود معيّنة طبعا. لا يستطيع العراق في نهاية المطاف التعاطي مع الولايات المتحدة والتوصل ألى معاهدة أمنية معقولة معها في غياب حدّ أدنى من التوازن في العلاقة بين الجهتين. هذا التوازن لا يؤمّنه سوى حد أدنى من الدعم العربي للحكومة العراقية بغض النظر عن مساوئها وشخصية المالكي نفسه والمخاوف من ميوله المذهبية. هذا الحدّ الأدنى من الدعم وفّره للعراق العرب الواعون لخطورة ما يجري في أرض الرافدين في الوقت الراهن وللتحديات التي تواجه البلد. وفّر الدعم أولئك العرب الذين يراهنون على أن مصلحتهم تكمن في عراق مستقر متفاهم مع أيران ولكنه ليس تحت سيطرتها.
كان التغيير في الأسلوب العربي في التعاطي مع شيعة العراق واجبا. ما يحصل حاليا على الصعيد العربي يمثل التغيير بحدّ ذاته. لم يكن طبيعيا بقاء العرب بعيدين عن العراق. كان مطلوبا الأقدام على خطوة ما. يبدو أن بين العرب من هو على أستعداد للأقدام على مثل هذه الخطوة التي تؤكد أن العرب ليسوا مذهبيين بمقدار ما أنهم يبحثون عن توازن أقليمي يضمن الأستقراروالأمن لكل دول المنطقة وشعوبها. كان لا بدّ من أمتلاك ما يكفي من الشجاعة لخوض رهان من هذا النوع. أنه رهان على العراق وعلى عروبة العراق بمعناها المنفتح، أي على العروبة البعيدة عن أي نوع من أنواع التزمت، العروبة التي تتسع للعراقي الكردي والعراقي العربي والعراقي التركماني مثل أتساعها للعراقي الشيعي والعراقي السني والعراقي الأشوري والكلداني واليهودي وكل مكونات المجتمع من الطوائف والمذاهب الأخرى التي يمكن أن تخطر أو لا تخطر على بال... كان لا بدّ من خطوة عربية شجاعة على غرار تلك التي أقدمت عليها الأمارات. كان لا بدّ من اعطاء معنى لزيارة رئيس الوزراء العراقي للأمارات، معنى حضاري للزيارة، وهو ما حصل بالفعل. كان لا بدّ من أضاءة شمعة في الظلمة العراقية.