قبل خمسين عاما، سقط النظام الملكي في العراق نتيجة أنقلاب عسكري دموي نفّذته مجموعة من الضباط quot;الأشاوسquot; لا يجمع بينهم سوى الكره للحياة ولكل ما هو حضاري في هذا العالم والجهل في السياسة بأسم الوطنية المزيفة. أذا كان من كلمة يمكن أن تجمع بين الذين نفذوا الأنقلاب الذي يسميه المنافقون quot;ثورةquot;، فأن هذه الكلمة هي التخلف. أنه التخلف بكل أشكاله وتلاوينه المرتبط بالحقد على كل صعيد. تكفّل هؤلاء بجعل العراق لا يرى يوما أبيض منذ الرابع عشر من تموز ndash; يوليو 1958. لف السواد البلاد منذ تولت مجموعة من الضباط أستولت على السلطة قتل أفراد العائلة المالكة من بينهم الملك الشاب فيصل الثاني بطريقة أقل ما يمكن أن توصف به أنها وحشية. لم ينته العراق الذي عرفناه، والذي قام نتيجة أنهيار الدولة العثمانية في العشرينات من القرن الماضي، لم ينته في العام 2003 أثر الأجتياح الأميركي للبلد وفرض نظام جديد يقوم على المحاصصة بين الطوائف والمذاهب وعلى الفيديرالية أرضاء للأكراد ولبعض الأحزاب الشيعية. أنتهى العراق في الرابع عشر من تموز- يوليو 1958 عندما أجتاح التخلف بغداد والبصرة والموصل وكل مدينة من مدن العراق حيث كانت النخب المتميزة في كل المجالات... والمدارس والجامعات التي تنتج مثقفين حقيقيين وليس أشباه أميين لا يؤمنون سوى بلغة القتل وألغاء الآخر.
منذ العام 1958، يوم سقوط النظام الملكي في العراق نتيجة المد الناصري الذي لم يرحم بلدا في المنطقة العربية بما في ذلك لبنان وسوريا، بدأ الأنهيار الكبير على الصعيد العربي. هذا الأنهيار الذي توج بهزيمة العام 1967 التي تسبب بها النظام البعثي السوري المزايد والجهل الناصري بكل شيء، بأستثناء التفنن في جعل المجتمع أكثر تخلفا. كان أفضل تعبير عن هذا الجهل طريقة تحقيق الوحدة المصرية- السورية على أسس واهية تقوم على تعاون بين الأجهزة الأمنية في البلدين مع غلبة واضحة للأجهزة المصرية. كيف يمكن تحقيق وحدة بين بلدين عربيين لا حدود مشتركة بينهما بمجرد أن الأجهزة الأمنية قررت ذلك وصورت الوحدة أنتصارا تبين في النتيجة أنه ليس سوى أنتصار دفع ثمنه الشعبان المصري والسوري؟
أنتهى العراق الذي كان يؤمل بأن يكون نموذجا لما يمكن أن تكون عليه دول المنطقة. أنتهى في العام 1958 .جاء ضابط مجنون أسمه عبدالكريم قاسم ألى السلطة بذهنية متخلفة كان أفضل تعبير عنها تهديده بأحتلال الكويت وحشد الجيش العراقي على حدود الدولة المستقلة حديثا محاولا وضع قوانين جديدة للعبة التوازنات الأقليمية بدل الأنصراف ألى معالجة المشاكل التي يعاني منها العراق حقيقة على الصعيد الداخلي. أنه المرض نفسه الذي لازم الناصرية، خصوصا منذ العام 1956 أثر القرار القاضي بتأميم قناة السويس. هذا القرار الذي خلق وهما لدى أنظمة معينة في المنطقة بأن في أستطاعتها تحقيق أنتصارات ليست في واقع الحال سوى هزائم ولعب دور أقليمي أكبر منها. كان هذا القرار في أساس الأنتصارات العربية المزيفة التي لم تأخذ في الأعتبار لا التوازنات الأقليمية ولا التوازنات الدولية ولا حتى معنى الخروج من الدائرة الحضارية التي أسمها التفاعل مع العالم المتقدم،أي الغرب، أو أن تكون هناك جاليات أجنبية في هذا البلد العربي أو ذاك. الأهم من ذلك كله، أنّه لم يوجد من يقول لجمال عبد الناصر أنه لم يحقق أنتصارا وأن كل ما في الأمر أن الولايات المتحدة أوقفت العدوان البريطاني- الفرنسي- الأسرائيلي على مصر لسبب في غاية البساطة. هذا السبب يتمثل في أن أميركا أتخذت بعد الحرب العالمية الثانية قرارا بأنها الجهة التي تمتلك قرار الحرب والسلم عندما يتعلق الأمر بالمعسكر الغربي. أرادت بكل صراحة أبلاغ كل دولة من الدول التي كانت لا تزال تعتبر نفسها أمبراطورية في حدّ ذاتها، على رأسها بريطانيا العظمى، أن القرار الغربي صار أميركيا وأنه لم تعد هناك أمبراطوريات خارج الأمبراطورية الأميركية وأن القرارات الكبيرة في حجم شن حرب على مصر محصورة بأميركا وحدها وأن بريطانيا عظمى بالأسم فقط!
في العهد الملكي، كان العراق بلدا متعدد القوميات والطوائف والمذاهب يحكمه دستور عصري في ظل نظام ملكي يختصر فلسفة الهاشميين في الحكم. أنها فلسفة الجمع بين الناس وليس التفريق بينهم بعيدا عن التعصب القومي الذي لا معنى له والمذهبية البغيضة، فلسفة تعطي في الوقت ذاته نموذجا في التواضع والأنفتاح على العالم بعيدا عن الشعارات الفارغة. لم يكن القصر الملكي (قصر الرحاب) الذي اقتحمه الأنقلابيون صبيحة الرابع عشر من تموز- يوليو 1958 لأرتكاب جرائمهم في حق الرجال العزل والنساء والأطفال سوى بيت متواضع يقل فخامة عن بيوت كثير من العراقيين الأغنياء.
دفع العراق ثمن المد الناصري وثمن الأنتصارات الوهمية التي وجد من يصدقها في صفوف ما كان ولا يزال يسمى quot;الجماهير العربيةquot;، تلك الجماهير التي لم تتعلم شيئا من دروس ما بعد الوحدة المصرية- السورية الفاشلة أو ألأنقلاب الذي حصل في العراق. أستمرت مصر في الغرق، ألى أن جاء اليوم الذي فهمت فيه بعد حرب تشرين الأول - أكتوبر 1973 أن عليها الأنصراف ألى أعادة بناء نفسها. واقتنعت مصر بأن ذلك لا يكون بالشعارات بل بالأعتراف بالموازين الأقليمية أولا وبأن هناك أيضا مشاكل داخلية محددة وواضحة لا مفر من معالجتها بدل الهرب منها. صحيح أنه لا يمكن مقارنة عبد الناصر، الذي كان رجلا محدودا من الناحية الفكرية قبل أي شيء آخر وأكتفى بأقامة دولة بوليسية، بدموي مثل صدّام حسين. ألاّ أن الصحيح أيضا أن التجربة الناصرية في مصر أسست لنظامي البعث في كل من العراق وسوريا ومكنتهما من تطوير الدولة لبوليسية ألى دولة قمعية بكل المقاييس. ولم تشف سوريا من كارثة الوحدة ألى يومنا هذا، أذ نخرها البعث نخرا وقضى على الطبقة الوسطى لمصلحة طبقة طفيلية تعتاش من الأبتزاز وتعتقد أن في الأمكان تصدير الأزمة الداخلية ألى خارج ألى ما لا نهاية، خصوصا ألى لبنان. أما العراق نفسه، فقد هرب من الأزمة الداخلية التي نجمت عن أنقلاب 1958 ألى مزيد من الديكتاتورية التي أفضت عمليا الى قيام نظام عائلي- بعثي تميّز بالوحشية ونقل البلد من أزمة ألى أزمة... من الحرب مع أيران حين لم يجد أن الجبهة الداخلية قادرة على تحمل أنعكاسات الثورة الأيرانية على البلد، الى غزو الكويت الذي شكّل تتويجا للأفلاس الكامل للنظام العراقي بكل المقاييس وفي شتى المجالات.
لا يمكن عزل الأنقلاب الذي شهده العراق قبل نصف قرن عن حال التراجع في العالم العربي التي تمددت في كل الأتجاهات والتي يظل أفضل تعبير عنها الحرب الأهلية في لبنان التي كانت في الوقت ذاته حروب الآخرين على أرض الوطن الصغير. هناك نصف قرن من التراجع المستمر الذي توجته أنتصارت وهمية على أسرائيل كما حصل صيف العام 2006. ليس من يريد أن يتوقف ويسأل كيف يمكن الحديث عن أنتصار بعد تلك الهزيمة التي لحقت بلبنان واللبنانيين. لا يمكن عزل ما أصاب العراق عن عملية القضاء على الطبقة الوسطى في كل المشرق العربي بطريقة منظمة لمصلحة أجتياح الريف للمدينة. بغداد لم تعد بغداد. دمشق لم تعد دمشق. بيروت التي تسودها ثقافة الحياة، بيروت الفخورة بأنها لكل الطوائف والمذاهب والثقافات صمدت ولكن ألى متى؟
سيبقى الرابع عشر من تموز- يوليو 1958 يوما أسود ليس في تاريخ العراق فحسب، بل في تاريخ المنطقة كلها. كان من المحطات الأساسية التي أدت ألى هزيمة 1967 ثم الهزائم المتتالية بما فيها الأحتلال الأميركي للعراق نفسه. مرّ الطريق ألى الهزيمة بالعراق أول ما مر في العام 1958، من يريد التأكد من ذلك يستطيع المقارنة بين ما كان عليه المجتمع البغدادي أو البصراوي في العام 1958 وما هما عليه الآن. الصور وحدها كافية. صور ما كان عليه العراق في تلك الفترة وما هو عليه الآن. هل من هزيمة حضارية أكبر من هذه الهزيمة؟
منذ العام 1958، يوم سقوط النظام الملكي في العراق نتيجة المد الناصري الذي لم يرحم بلدا في المنطقة العربية بما في ذلك لبنان وسوريا، بدأ الأنهيار الكبير على الصعيد العربي. هذا الأنهيار الذي توج بهزيمة العام 1967 التي تسبب بها النظام البعثي السوري المزايد والجهل الناصري بكل شيء، بأستثناء التفنن في جعل المجتمع أكثر تخلفا. كان أفضل تعبير عن هذا الجهل طريقة تحقيق الوحدة المصرية- السورية على أسس واهية تقوم على تعاون بين الأجهزة الأمنية في البلدين مع غلبة واضحة للأجهزة المصرية. كيف يمكن تحقيق وحدة بين بلدين عربيين لا حدود مشتركة بينهما بمجرد أن الأجهزة الأمنية قررت ذلك وصورت الوحدة أنتصارا تبين في النتيجة أنه ليس سوى أنتصار دفع ثمنه الشعبان المصري والسوري؟
أنتهى العراق الذي كان يؤمل بأن يكون نموذجا لما يمكن أن تكون عليه دول المنطقة. أنتهى في العام 1958 .جاء ضابط مجنون أسمه عبدالكريم قاسم ألى السلطة بذهنية متخلفة كان أفضل تعبير عنها تهديده بأحتلال الكويت وحشد الجيش العراقي على حدود الدولة المستقلة حديثا محاولا وضع قوانين جديدة للعبة التوازنات الأقليمية بدل الأنصراف ألى معالجة المشاكل التي يعاني منها العراق حقيقة على الصعيد الداخلي. أنه المرض نفسه الذي لازم الناصرية، خصوصا منذ العام 1956 أثر القرار القاضي بتأميم قناة السويس. هذا القرار الذي خلق وهما لدى أنظمة معينة في المنطقة بأن في أستطاعتها تحقيق أنتصارات ليست في واقع الحال سوى هزائم ولعب دور أقليمي أكبر منها. كان هذا القرار في أساس الأنتصارات العربية المزيفة التي لم تأخذ في الأعتبار لا التوازنات الأقليمية ولا التوازنات الدولية ولا حتى معنى الخروج من الدائرة الحضارية التي أسمها التفاعل مع العالم المتقدم،أي الغرب، أو أن تكون هناك جاليات أجنبية في هذا البلد العربي أو ذاك. الأهم من ذلك كله، أنّه لم يوجد من يقول لجمال عبد الناصر أنه لم يحقق أنتصارا وأن كل ما في الأمر أن الولايات المتحدة أوقفت العدوان البريطاني- الفرنسي- الأسرائيلي على مصر لسبب في غاية البساطة. هذا السبب يتمثل في أن أميركا أتخذت بعد الحرب العالمية الثانية قرارا بأنها الجهة التي تمتلك قرار الحرب والسلم عندما يتعلق الأمر بالمعسكر الغربي. أرادت بكل صراحة أبلاغ كل دولة من الدول التي كانت لا تزال تعتبر نفسها أمبراطورية في حدّ ذاتها، على رأسها بريطانيا العظمى، أن القرار الغربي صار أميركيا وأنه لم تعد هناك أمبراطوريات خارج الأمبراطورية الأميركية وأن القرارات الكبيرة في حجم شن حرب على مصر محصورة بأميركا وحدها وأن بريطانيا عظمى بالأسم فقط!
في العهد الملكي، كان العراق بلدا متعدد القوميات والطوائف والمذاهب يحكمه دستور عصري في ظل نظام ملكي يختصر فلسفة الهاشميين في الحكم. أنها فلسفة الجمع بين الناس وليس التفريق بينهم بعيدا عن التعصب القومي الذي لا معنى له والمذهبية البغيضة، فلسفة تعطي في الوقت ذاته نموذجا في التواضع والأنفتاح على العالم بعيدا عن الشعارات الفارغة. لم يكن القصر الملكي (قصر الرحاب) الذي اقتحمه الأنقلابيون صبيحة الرابع عشر من تموز- يوليو 1958 لأرتكاب جرائمهم في حق الرجال العزل والنساء والأطفال سوى بيت متواضع يقل فخامة عن بيوت كثير من العراقيين الأغنياء.
دفع العراق ثمن المد الناصري وثمن الأنتصارات الوهمية التي وجد من يصدقها في صفوف ما كان ولا يزال يسمى quot;الجماهير العربيةquot;، تلك الجماهير التي لم تتعلم شيئا من دروس ما بعد الوحدة المصرية- السورية الفاشلة أو ألأنقلاب الذي حصل في العراق. أستمرت مصر في الغرق، ألى أن جاء اليوم الذي فهمت فيه بعد حرب تشرين الأول - أكتوبر 1973 أن عليها الأنصراف ألى أعادة بناء نفسها. واقتنعت مصر بأن ذلك لا يكون بالشعارات بل بالأعتراف بالموازين الأقليمية أولا وبأن هناك أيضا مشاكل داخلية محددة وواضحة لا مفر من معالجتها بدل الهرب منها. صحيح أنه لا يمكن مقارنة عبد الناصر، الذي كان رجلا محدودا من الناحية الفكرية قبل أي شيء آخر وأكتفى بأقامة دولة بوليسية، بدموي مثل صدّام حسين. ألاّ أن الصحيح أيضا أن التجربة الناصرية في مصر أسست لنظامي البعث في كل من العراق وسوريا ومكنتهما من تطوير الدولة لبوليسية ألى دولة قمعية بكل المقاييس. ولم تشف سوريا من كارثة الوحدة ألى يومنا هذا، أذ نخرها البعث نخرا وقضى على الطبقة الوسطى لمصلحة طبقة طفيلية تعتاش من الأبتزاز وتعتقد أن في الأمكان تصدير الأزمة الداخلية ألى خارج ألى ما لا نهاية، خصوصا ألى لبنان. أما العراق نفسه، فقد هرب من الأزمة الداخلية التي نجمت عن أنقلاب 1958 ألى مزيد من الديكتاتورية التي أفضت عمليا الى قيام نظام عائلي- بعثي تميّز بالوحشية ونقل البلد من أزمة ألى أزمة... من الحرب مع أيران حين لم يجد أن الجبهة الداخلية قادرة على تحمل أنعكاسات الثورة الأيرانية على البلد، الى غزو الكويت الذي شكّل تتويجا للأفلاس الكامل للنظام العراقي بكل المقاييس وفي شتى المجالات.
لا يمكن عزل الأنقلاب الذي شهده العراق قبل نصف قرن عن حال التراجع في العالم العربي التي تمددت في كل الأتجاهات والتي يظل أفضل تعبير عنها الحرب الأهلية في لبنان التي كانت في الوقت ذاته حروب الآخرين على أرض الوطن الصغير. هناك نصف قرن من التراجع المستمر الذي توجته أنتصارت وهمية على أسرائيل كما حصل صيف العام 2006. ليس من يريد أن يتوقف ويسأل كيف يمكن الحديث عن أنتصار بعد تلك الهزيمة التي لحقت بلبنان واللبنانيين. لا يمكن عزل ما أصاب العراق عن عملية القضاء على الطبقة الوسطى في كل المشرق العربي بطريقة منظمة لمصلحة أجتياح الريف للمدينة. بغداد لم تعد بغداد. دمشق لم تعد دمشق. بيروت التي تسودها ثقافة الحياة، بيروت الفخورة بأنها لكل الطوائف والمذاهب والثقافات صمدت ولكن ألى متى؟
سيبقى الرابع عشر من تموز- يوليو 1958 يوما أسود ليس في تاريخ العراق فحسب، بل في تاريخ المنطقة كلها. كان من المحطات الأساسية التي أدت ألى هزيمة 1967 ثم الهزائم المتتالية بما فيها الأحتلال الأميركي للعراق نفسه. مرّ الطريق ألى الهزيمة بالعراق أول ما مر في العام 1958، من يريد التأكد من ذلك يستطيع المقارنة بين ما كان عليه المجتمع البغدادي أو البصراوي في العام 1958 وما هما عليه الآن. الصور وحدها كافية. صور ما كان عليه العراق في تلك الفترة وما هو عليه الآن. هل من هزيمة حضارية أكبر من هذه الهزيمة؟
التعليقات