حكايات الاحتلال وتصحيح بعض المفاهيم (١٣)
وصلت أحوال مصر في quot;جنة العثمانليةquot; المتعفنة الدموية إلى مداها. ولكن كان هناك من يستعد ليطرق الأبواب.
***
كانت laquo;دولة الفرنسيس قد عظمت وكبر سلطانها على يدي قائد عسكرها بونابرته الكبير، بعد انتصاراته في الحملة الإيطالية، فكان لا ينكف عن تدبير الحيل لكسر شوكة دولة الإنجليز، العدو الذى لم يبق من معاد سواه؛ وذلك بنزع المملكة الهندية من يدهم. ورأى أن هذا الأمر لا يتم إلا بنزوله على مصر واستخلاصها من يد المماليك، وجعلها مقرا لحركاته الحربية ومناوشاته السياسيةraquo;.
خرج بونابرت في أسطول من ٥٥٠ مركبا، على رأس جيش من ٢٨ ألف مقاتل وفارس، و١٧ ألف طاقم معاون، وأربعين من نخبة القواد و١٦٠ من المهندسين وأهل العلم بتخطيط الأرض وأصحاب الكيمياء والطبيعة ومعهم مطبعة عربية وفرنسية، وجماعة من الكتاب والمترجمين والأطباء والجراحين والكحالين ومن الصناع وأصحاب العمل والحفر والنقش.
وفي ليلة ٢ يوليو١٧٩٨ نزل بونابرت وجيشه في أبي قير. ومع الصباح كان بالإسكندرية، حيث قابل أعيان الثغر.
وحرر منشورا يُتلى على الأهالي حيثما يتحرك الجيش، ليؤمِّنهم ويطمئنهم، يستهله بـ [بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله ولا ولد له ولا شريك له. من طرف الفرنساوية، المبني على الحرية والتسوية (المساواة) السرعسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابرته]. ثم يُعرِّف أهالي مصر بأسباب الحملة وهي القضاء على المماليك الظالمين [وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم]. ثم يبشرهم بمباديء الثورة الفرنسية [أن جميع الناس متساوون عند الله لا يفرقهم إلا العقل والفضائل والعلوم]، ويطمئن الجميع بشأن نواياه [يا أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد، قولوا لأمتكم أن الفرنسوية هم أيضا مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا (..) وكانوا في كل وقت محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء لأعدائه]. ويحذر من مساندة المماليك وضرورة الالتزام بالهدوء.
أخذ مراد بك، كبير المماليك، يستعد بجيشه للقاء الفرنسوية. وكان العلماء ومشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية والابراهيمية والقادرية وغيرهم يعملون الأذكار بالأزهر، وأطفال (الكتاتيب) يضجون كل يوم بـ laquo;يالطيفraquo;. وخرج الفقراء بالطبول والزمور والأعلام والكاسات وهم يضجون ويصيحون بأذكار مختلفة. وصعد السيد عمر مكرم، نقيب الأشراف، إلى قلعة الجبل فأنزل منها البيرق النبوي ونشره وحولُه الألوف المؤلفة من العامة وبأيديهم النبابيت والعصي وهم يهللون ويكبرون. وجلس العلماء والمشايخ ببولاق القاهرة يدعون ويبتهلون إلى الله بالنصر. وأرسل ابراهيم بك إلى العربان المجاورين لمصر ليكونوا في المقدمة بنواحي شبرا، ثم جمع الفرنجة الذين بمصر والقاهرة فحبسهم وفتشوا بيوتهم لعلهم يجدوا فيها شيئا من السلاح، وكذلك فتشوا جميع بيوت الشوام والقبط والروم وجميع الكنائس والأديرة؛ والعامة لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود، فمنعهم الحكام.
وبعد معركة أولى مع الفرنسوية عند (شبراخيت)، دامت أقل من ساعة، هرب مراد بك وجيشه. ثم ألقى بونابرته على جنوده خطبته الشهيرة قرب سفح الأهرام (أربعون قرنا ....) قبل معركة ثانية قصيرة عند إنبابه في ٢١ يوليو، هزم وفر بعدها مراد للصعيد الأعلى. ودخل بونابرت القاهرة في ٢٤ يوليو.
اجتمع مع المشايخ لتدبير الأمور وأمر بتقليد الوظائف لمن يرون فيه الأهلية، فألحوا بإعطاء منصب والي الشرطة لأحد المماليك خلافا لما أشار به بونابرته، laquo;لأن سوقة (رعاع) مصر لا يخافون إلا من الترك ولا يحكمهم سواهمraquo;.
(الكافي ج٣ ص ٢٧٩ـ ٣٠٠ وهوامش ١١٤٨ـ١١٨٢)
وفي أول أغسطس، تحطم الأسطول الفرنسي في أبي قير على يد القائد البريطاني نيلسون، فانقطعت سبل التموين الخارجي ولزم الاعتماد على الذات. وفي منتصف الشهر نفسه، أتم quot;السلطان الكبير بونابرتهquot;، الذي أصبح يقيم بمقر قيادته في قصر الألفي بك بالأزبكية، العام التاسع والعشرين من عمره.
***
بدأ بونارت في إجراءات لتنظيم مصر، أثارت معظمُها حفيظة الأهلين الذين اعتادوا طريقة حياة معينة منذ قرون، مثل شق أو توسيع الطرق في المدن، وإزالة أبواب الحارات، وإضاءة الشوارع والحارات والأسواق بالفوانيس، وإجراءات صحية بخصوص النظافة ومكافحة الأوبئة ودفن الموتي، وإجراءات تراخيص المحلات والملكية. كما رتب ديوانا سماه quot;محكمة القضاياquot; للفصل في أمور التجارة العامة والمواريث والدعاوي، وضع له أصولا وقواعد وعين له اثني عشر عضوا، من المسلمين والقبط، وجعل رئيسه المعلم ملطي القبطي. كما رتب دواوين بالأقاليم وديوان مصر العام من ممثلي أهالي البلاد، ومهمته النظر في شئون البلاد وترتيب الضرائب على العقارات والأملاك والحوانيت.
وأسس بونابرت المعهد العلمي المصري وشارك في أعماله، كما أنشأ مستشفيات في الروضة والإسكندرية ورشيد ودمياط، وأنشأ جريدتين بالفرنسية وواحدة بالعربية ومعامل لصناعة الأسلحة والورق والأقمشة وسائر ما يلزم البلاد، وجعلوا بيت حسن كاشف مكتبة للمطالعة. laquo;وفعلوا جميع هذه الأعمال العظيمة في مدة يسيرة جدا مع همة غريبةraquo;.
وفي نفس الوقت حرص بونابرت على اتباع quot;سياسته الإسلاميةquot; (quot;لكسب عقول وقلوب الناسquot;)، مثل احترام المناسبات الدينية والاحتفال بها، كالمولد النبوي واحتفالات رمضان. ونقل الوظائف الدينية من العثمانيين إلى المشايخ المصريين. وفي إطار هذه السياسة كان حريصا على ألا يتسبب حصول غير المسلمين على بعض الحقوق المدنية في quot;إثارةquot; المسلمين. وقد حدث أن حرر غير المسلمين أنفسهم من بعض القيود المذلة التي كان المسلمون يعدونها شرطا من شروط بقاء الإسلام (!)، لكن بونابرت أدرك ما في هذا التحرر من إساءة للشعور الإسلامي إذ قال في مذكراته: laquo;لا فائدة في إظهارنا الاحترام العميق للدين الإسلامي إذا كنا نسمح للأقباط والروم والمسيحيين الغربيين بقدر من التحرر يغير من منزلتهم الماضية. وقد أردت أن يكونوا أكثر خضوعا وأكثر احتراما لكل ما يتعلق بالإسلام وبالمسلمين كما كانوا في الماضيraquo;. ونجد في الجبرتي تأييدا لذلك، فيذكر في حوادث (فبراير ١٧٩٩): laquo;رجع نصارى الشوام عن لبس العمائم البيض والشيلان الكشمير الملونة والمشجرة وذلك بمنع الفرنسيس لهم من ذلك، ونبهوا (الفرنسيون) أيضا بالمناداة في أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عادتهم مع المسلمين أولا، ولا يتجاهرون بالأكل والشرب في الأسواق ولا يشربون الدخان...raquo; (هوامش ج٤ ص ١٣١٩).
***
والآن نتابع الأمور من زاوية كُتّاب حوليات مخطوطات quot;تاريخ البطاركةquot;:
٤٣ـ ثم تولى الأنبا (مرقس الثامن) (١٧٩٦ـ١٨٠٩) وكان راهبا من دير الأنبا أنطونيوس، وعاصر الحملة الفرنسية ثم مجيء محمد علي.
[[وقد نظر (الأب) شيئا من البلايا التي حاقت بسلفه، وقاسم المؤمنين مصائب ذلك الجيل المشئوم الطالع، وتفطرت أحشاؤه حزنا وقاسى بسماع الأذن ونظر العين تلك الصروف التي أبهظت ظهور المسيحيين، وقد زادت طينتُها بلة وشدتُها قساوة ومرارتُها علقما حينما احتلت عساكر نابليون بونابرته هذا القطر (١٧٩٨)، وذلك أنه لما وطأت أرجل جنود فرنسا أرض أبو قير والاسكندرية هاج في القاهرة رعاع المسلمين وشرعوا يجرعون النصارى كؤوس المرارة رغما عن (محاولات) أمرائهم الذين أخبروهم بأن هؤلاء المسيحيين هم من رعايا الدولة وأن من مس شرفهم فقد مس شرف الدولة نفسها (!!) فلم يرهبهم ذلك ولم يخشوا سطوة بونابرت وجنوده الباطشة]].
[[ولما حارب (الفرنسيون) المماليك وانتصروا عليهم وملكوا القاهرة وظن النصارى أن الجو المعكر قد صفا، قام على أثر ذلك معظم شيوخ الجامع الأزهر وتجمعوا فيه وأرسلوا (من) يطوفون في الأسواق منادين laquo;فليذهب كل من يوحّد الله إلى الجامع الأزهر، هذا اليوم يوم الجهاد في محاربة الكفار وأخذ الثأرraquo;، فهاجت المدينة لذلك وماجت وقفل المسلمون حوانيتهم وتقلدوا أسلحتهم واجتمعوا في الجامع الأزهر (*)، ثم جالوا ينهبون بيوت المسيحيين على اختلاف أجناسهم ويقتلون كل من صادفوه بغير تمييز بين الرجل والمرأة والطفل والشيخ. وكان الوجه القبلي الذي صار ملجأ لكل متمرد ومهربا لكل عاص ليس بأقل وطأة، فإنه لما هرب المماليك أخذوا يعيثون في الناس ظلما وينهبون أموال النصارى]].
(*) اجتمع الديوان العام لمصر في أكتوبر واقترع على اختيار الشيخ الشرقاوي رئيسا، وعين الديوان جماعة شرعوا في الإحصاء، فلما شاع الخبر بين الناس استعظموه واجتمع جمع عظيم حول رجل اسمه السيد بدر ومعه حرافيش الحسينية وزمر الحارات وهم ينادون laquo;نصر الله دين الإسلامraquo;، وساروا لبيت القاضي فرجموه لأنه لم يراودهم، واجتمع بالجامع الأزهر عديد من أولئك السوقة والغوغاء، وقُتل بعض فرسان الفرنسيس وأقيمت المتاريس بالقاهرة، ولم يشارك في هذا الحادث أهل مصر القديمة ولا بولاق. وخرج جنود الفرنسيس فقاتلهم المغاربة وخرجت العامة وبالغوا في الإفساد وتطاولت أيديهم إلى النهب ونهبوا دور النصارى الروم والشوام وما جاورها من بيوت المسلمين وسلبوا النساء والبنات. وانتظر بونابرت رد المشايخ على طلبه رد العامة فلم يردوا وبعد الظهر أمر بإطلاق مدافعه على قلب القاهرة وتوقفت الفتنة (ثورة القاهرة الأولى). وأرسل المشايخ منشورات للأهالي بشتى الأقاليم لكي لا يسمعوا كلام المفسدين فالفتنة نائمة لعن الله من أيقظها. (الكافي ج٣ ص ٣٦٠)
***
[[وما ظن النصارى أنهم نجوا من تلك الرزية حتى وقعوا بأشر منها، وذلك أنه لما نقضت المعاهدة التي عقدت بين القائد كليبر الفرنساوي والصدر الأعظم (رئيس وزراء الدولة العثمانية)، (التي تنظم شروط انسحاب الجيش الفرنسي من مصر) بأمر من الباب العالي، دارت رحى القتال بين الجانبين في المطرية، واغتنم المسلمون فرصة خروج عسكر فرنسا من القاهرة وثاروا على النصارى. وجاء ناصيف باشا، أحد قواد الجيش العثماني، إلى المدينة بجماعة من المماليك ونادى فيهم بأنهم قد غلبوا الإفرنج، وأمر بقتل باقي النصارى فشرعوا يجزرونهم (*) غير مميزين بين القبطي والسوري والإفرنجي. فاستدرك حالهم عثمان بك، أحد ضباط الأتراك، وجاء إلى ناصيف باشا وقال له laquo;ليس من العدالة أن تهرقوا دماء رعايا الدولة فإن ذلك مخالف للأرادة السنيةraquo; فأمر عند ذلك بكف أيدي المسلمين من قتلهم]].
(*) كان بونابرت قد خرج سرا عائدا لبلاده (٢٢ أغسطس ١٧٩٩) بسبب تطورات الأحداث في أوروبا، وولىّ الجنرال كليبير مكانه. وكان الجيش قد أصبح نصف العدد الأصلي، وليس لديه من المعدات ما يكفي. وتحت ضغوط العثمانيين والإنجليز اتُفق على رحيل الفرنسيين. لكن شروط الاتفاق نُقضت. وبعد محاربة الباشا للفرنسيين (مارس ١٨٠٠)، قال للعامة laquo;اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهمraquo;، فعندما سمعوا صاحوا وهاجوا ومروا مسرعين يقتلون من يصادفونه من نصارى القبط والشوام وغيرهم. فذهبت طائفة إلى حارة النصارى وبيوتهم التي بناحية بين الصورين وباب الشعرية وجهة الموسكي فصاروا يكبسون الدور ويقتلون من يصادفهم من الرجال والنساء والصبيان وينهبون ويأسرون (...) فتخوف النصارى جدا، وجمع كل منهم ما قدر عليه من العساكر الفرنسوية والروم (للاحتماء بهم) ووقعت الحرب بين الفريقين وصارت النصارى تقاتل وترمي بالبنادق والآخرون يرمون من أسفل ويكبسون الدور و(يقفزون فوق أسوارها) حتى اليوم التالي (..) ولبث عثمان كتخدا بالجمالية، فكان كل من قبض على نصراني أو يهودي أو فرنسوي ذهب به عند عثمان بك ويأخذ عليه البخشيش (..)
وظهر رجل مغربي واجتمع إليه طائفة من المغاربة ففعل ما لا خير فيه من النهب والقتل والسبي وكان يتجسس على البيوت التي بها الفرنسيس والنصارى فيكبسها ومعه جمع من العوام وأسافل الناس فيقتلون من يجدونه منهم وينهبون الدار ويسجنون النساء ويسلبون ما عليهن وكانوا يقطعون رؤوس الأطفال وبعض البنات (..) وقام ببولاق رجل اسمه الحاج مصطفى البشتيلي وجمع إليه طوائف السوقة وحرافيش السبتية وساروا نحو معسكر الفرنسيس الذي كان بساحل بولاق وهجموا عليه فقتلوا منهم من أدركوه ونهبوا ما فيه من متاع ورجعوا وتترسوا حول بولاق واستطالوا على كل من كان بها من القبط والشوام فأوقعوا فيهم القتل والنهب فكان البلاء عاما والخطب شديدا جدا (..) (وهرب الباشا العثماني من مصر وحاول كليبير فرض سيطرته على الوضع وتمترس الناس) وأما أكابر القبط مثل جرجس الجوهري وفلتاؤوس وملطي فإنهم طلبوا الأمان من (كبراء) المسلمين لكونهم انحصروا في دورهم وهم في وسطهم فأرسلوا لهم الأمان فحضروا (أكابر القبط) وقابلوا الباشا والكتخدا والأمراء وأعانوهم بالمال واللوازم.
وأما (المعلم) يعقوب فإنه كرنك في داره بالدرب الواسع جهة الرويعي واستعد استعدادا كبيرا بالسلاح والعسكر المحاربين وتحصن بقلعته التى كان شيدها بعد الواقعة الأولى فكان معظم حرب حسن بك الجداوي معه، والمناداة في كل يوم بالعربية والتركية على الناس بالجهاد. وبعد بعض المجابهات وقع صلح بين كليبر والشيوخ لكن الإنكشارية والأتراك رفضوه فهاجم الفرنسيس المدينة. ووقع صلح جديد مع المشايخ.
(الكافي ص ٣٢٨ـ ٣٣٩ عن عجائب الآثار) (أنظر أدناه حول المعلم يعقوب).
***
[[وآخر ضيق طرأ على الأقباط في أيام هذا الأب (البطريرك) هو رفت المستخدمين منهم في دواوين الحكومة. وذلك أن الجنرال مينو لما تولى قيادة الجيش الفرنساوي بعد قتل كليبر، اعتنق الدين الإسلامي ودعى نفسه عبد الله (..) وكان ديوان القاهرة مؤلفا يومئذ من الأقباط (والمسلمين) فرفت (الأقباط) وعهد (للمسلمين) جباية الخراج]].
[[وكانت إقامة الفرنساوية في مصر ثلاث سنين (*)، وكانوا يُعرفون عند العامة بالفرنسيس]].
(*) بعد خروج بواقي الحملة الفرنسية (سبتمبر ١٨٠١ بما في ذلك عبد الله مينو، الذي عاد لفرنسا وتقلد مناصب فيها) عادت السلطة للدولة العثمانية؛ فضيّق الوالي، محمد باشا، على الناس وشدد وأرهب وأخذ بالشبهات وأكثر من القتل والصلب والحرق وزاد في المغارم والمكوس وتتبع الأعيان بالمدن لا فرق بين القبطي والمسلم إذ كانوا عنده فريسة واحدة. وأمر بالقبض على ثلاثة من عظماء الأقباط وهم المعلم أنطون أبو طقية والمعلم إبراهيم زيدان والمعلم عبد الله بركات فقتلهم وختم على دورهم وأملاكهم ونقلوا ما فيها إلى بيت الدفتردار ليباع في المزاد. واستفحل أمر الأمراء المماليك بالصعيد واجتمت إليهم طوائف كثيرة من الهوارة وقبائل العربان وتحصنوا عند الهِوّ بسفح الجبل (قرب نجع حمادي) وطالبوا أن يعطيهم الوالي المنطقة من أسيوط إلى الصعيد الأعلى فيأخذوا خراجها، وعجز العثمانيون عن ردهم. واختل النظام من توالي هجمات الأمراء على البلاد وعبث الجنود السلطانية وتجاوزهم الحدود في القتل والنهب والتخريب والفحش. وتطاولت أيدي العربان في السلب والقتل. وهاجم المماليك وأعوانُهم العساكر العثمانية بالمنيا ودخلوا البلد عنوة وأعملوا فيها السيف وأحرقوا وخربوا وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها. (الكافي ٣٥٩ـ٣٦٥)
ويبدو أن الجزية على الأقباط كانت قد ألغيت لمدة ثلاثة سنوات في عهد الحملة الفرنسية على مصر، ولكن بعد خروج الحملة تم تحصيلها بأثر رجعي، فكان عليهم أن يدفعوا جزية ثلاث سنوات دفعة واحدة (رسالة دكتوراه laquo;الجزية في مصر وتأثيرها على أهل الذمة ما بين 1713 و 1856raquo;، أيمن أحمد محمود، كلية الآداب جامعة القاهرة (نوفمبر ٢٠٠٨)).
وثار عسكر العثمانيين بالقاهرة لعدم دفع رواتبهم لخلو الخزانة فانخلع الوالي محمد باشا وتولى نائبُه طاهر باشا فضيّق على أصحاب الميسرة وضرب على القبط غرامة خمسمائة كيس، ثم اعتقل جماعة من الكتاب القباط وقتل من أعاظم القبط والشوام خلقا ونهب دورا كثيرة. ثم قتله جنود الإنكشارية، وكثر فساد طوائف الأرناؤوط في الأرض فظهر نجم محمد علي سرجشمه (بكباشي في الجيش العثماني)، والتجأ إليه الأمراء والأعيان. ثم وصل الوالي الجديد علي باشا الطرابلسي وكان سيئ الخلق طاغية عنيدا جبارا معجبا بنفسه. وعاد (المملوك) الألفي بك الكبير من لندن بعد قضاء سنة (كان قد صحب القوات الإنجليزية التي أجبرت الفرنسيس على الرحيل) فطلب الوالي أن يقتله. ولدفع الأجور المتأخرة لجنود الأرناؤوط، فرض الأمراء مائتي ألف ريال على أقباط مصر منها خمسون ألفا على المعلم غالي كاتب الألفي وثلاثون على تركة المعلم بقطر كاتب البرديسي، واشتدت حركة الأرناؤوط وقتلوا ونهبوا واغتصبوا. ثم قُتل الطرابلسي باشا وتولى أحمد خورشيد باشا فضرب على أهل مصر والقاهرة خمسة آلاف كيس نقرة، منها ألف وخمسمائة على أعيان القبط. ووصل طلائع المماليك والعربان من الصعيد إلى مصر والقاهرة فحاربهم جنود محمد علي. ووصل رسول من دار السلطنة بتقليد محمد علي ولاية جدة فتمنع عن السفر. واجتمع جماعة من المشايخ والعامة ببيت القاضي يصرخون laquo;يارب يا متجلي أهلك طائفة العثمانليraquo; وحرروا ورقة بطلبات الرعية. (الكافي ٣٦٥ـ٤٠٥)
***
وكالعادة، دفع القبط ثمن مجئ الفرنسيس وثمن رحيلهم، وثمن عودة الجزارين العثمانيين وثمن إفساد المماليك.
لكن حدة العداء الشعبي ضد العثمانيين، بسبب حملات القتل والنهب التي أطلقوها، زادت لدرجة أن علماء الأزهر رحبوا في (أكتوبر ١٨٠٢) بالوزير المفوض من قبل بونابرت، المسيو سباستياني، وصارحوه بتمنياتهم بعودة الحكم الفرنسي مرة أخرى (!!). وفي تقريره لحكومته، أبدى المبعوث الفرنسي دهشته مما أبداه المشايخ من شجاعة في إعلان رغبتهم تلك.
فكما يقول الجبرتي، يبدو أن مفهوما جديدا للعدالة بدأ يتسرب لعقول المصريين: laquo;فالفرنسوية الذين لا يتدينون بدين يقولون بالحرية والتسوية (المساواة)raquo; وكانوا أعدل من الحكام العثمانيين المسلمين. وباستثناء ظروف الحروب والثورات، يندهش الجبرتي (في عجائب الآثار) لنزاهة الفرنسيين في المعاملات اليومية ودفعهم نقدا ثمن ما يقدم لهم من خدمات أو بضائع ومنعهم احتكار السلع، ويذكر بإعجاب موقف السلطات الفرنسية وعدالتها في محاكمة سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر laquo;بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العسكر، الذين يدعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون، وقتلهم الأنفس وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانيةraquo;.
لقد شكلت المحن عوامل يقظة جماهيرية، وأخذت تسقط من الأذهان فكرة الدين الذي يجمع بين المصريين والعثمانيين، (هوامش ج٤ ص ١٢٠٣).
وبينما أصبح علماء الأزهر على استعداد لإخضاع مصر مرة أخرى للحكم الفرنسي، في سبيل خلاصها، كان laquo;المعلم يعقوبraquo; يطرح فكرة مختلفة: استقلال مصر كوطن للمصريين...
***
ولن تكتمل صورة الأحداث في تلك الفترة الفاصلة إلا بمراجعة قصة المعلم يعقوب المثيرة للجدل. وليس هناك أفضل من محمد شفيق غربال، عميد المؤرخين المصريين المحدثين، لكي نأخذ عنه ملخصا لدراسته الهامة والفريدة عن يعقوب:
[لا يرى التاريخ الصحيح لمصر، في مواقف العامة وزعمائها وأهل الرأي فيها، أثرا لفكرة الاستقلال الوطني ولا يسجل إلا لمصري واحد من أهل هذا العصر فضل اعتبار الاحتلال الفرنسي لا فترة نحس يُرجى زوالها وعودة ما سبقها، بل بدء حياة جديدة لمصر المصريين، مهدت لها الحملة الفرنسية بقطع التبعية العثمانية وهدم قوة المماليك. وذلك المصري هو: المعلم يعقوب حنا.
لا أحب أن أغلو فأزعم أن يعقوب فهم تماما كل الاحتمالات التي انطوى عليها هدم النظم القائمة في مصر وحُكم أمة غريبة لها أو أنه تحول في هذه الأشهر القليلة التي قضاها مخالطا للفرنسيين من جاب من جباة الأموال، نشأ ودرج في بيت من بيوت الأمراء المماليك في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، إلى داع من دعاة الحركات الوطنية التي يعرفها الغرب في القرن التاسع عشر، بل أجد يعقوب يحتفظ حتى بعد مخالطة الفرنسيين ببعض صفات الجباة وعمال الإدارة المالية من أبناء طائفته في ذلك الوقت. يذكر الجبرتي عنه تأييده الحكم الفرنسي أثناء ثورة القاهرة الثانية laquo;بينما الرويسا الأقباط الآخرون بما فيهم أكبرهم جميعا جرجس الجوهري يدارون الثوار ويمدونهم بالمال واللوازم، صيانة لأرواحهم لا عطفا على حركتهمraquo;. أما يعقوب ـ كما سجل الجبرتي ـ فإنه laquo;كرنك في داره بالدرب الواسع جهة الرويعي واستعد استعدادا كبيرا العسكر والسلاح وتحصن بقلعته التي كان شيدها بعد الواقعة الأولى (أي الثورة الأولى أيام بونابرت) فكان معظم حرب حسن بك الجداوي معهraquo;.
لكن القارئ لا يجد في (كتابات) الجبرتي ولا في غيره أن يعقوب في سنة ١٨٠١ لما انتهى الاحتلال الفرنسي هاجر وتبع الجيش الفرنسي إلى فرنسا لتحقيق مشروع خطير، هو الحصول على اعتراف الدول باستقلال مصر.
وقد عثرتُ على الأوراق الخاصة بهذا المشروع في سجلات وزارتي الخارجية الإنجليزية والفرنسية بعد أن كدتُ أطرح الأمل في العثور على تفكير مصري أو غير مصري في حل المسألة المصرية بالاعتراف باستقلال مصر. وهذه الوثائق أربعة: الأولى كتاب بالإنجليزية من القبطان إدموندس للورد الأول للبحرية الإنجليزية مؤرخ عن جزيرة منورقة في ٤ أكتوبر ١٨٠١ يتضمن أحاديثه مع يعقوب في الطريق إلى فرنسا؛ الثانية مذكرة مشروع استقلال مصر، مكتوبة بالفرنسية وملحقة بالكتاب المذكور بقلم الفارس لاسكاريس؛ والثالثة كتاب من لاسكاريس (بتوقيع نمر أفندي) للقنصل الأول لفرنسا (بونابرت، الذي تولى المنصب في نوفمبر ١٧٩٩) بتاريخ ٢٣ سبتمبر ١٨٠١؛ والرابعة بنفس التوقيع لتليران وزير الخارجية الفرنسي.
وبدأتُ بعد العثور على هذه الأوراق في تكوين رأي آخر في يعقوب وفي طبيعة علاقاته بالفرنسيين.
كانت خدمات يعقوب للحكم الفرنسي من نوعين: خدمات من نوع ما كان يقوم به للفرنسيين جرجس جوهري وملطي وأبو طاقية وغيرهم من كبار الأقباط، وأساسها السعي للنفع الشخصي من جهة، والخلاص مما كانوا فيه من امتهان لا يرفعهم من حضيضه ما ملكوه من مال وجاه ولا يفارقهم مهما زادت حاجة الحكام إليهم؛ وخدمات من نوع آخر أساسها التمهيد لمستقبل البلاد السياسي بالتعضيد المؤقت للحكم الغربي.
في تأييد يعقوب للتدخل الغربي كان يرى: أولاـ تخليص وطنه من حكم (عثماني مملوكي) هو مزيج من مساوئ الفوضى والعنف والإسراف ولا خير فيه للمحكومين ولا للحاكمين. فقد رأى يعقوب أن أي نوع من أنواع الحكم لا يمكن أن يكون أسوأ مما خضعت له مصر قبل قدوم بونابرت. وثانيا ـ أنه أتاح فرصة الاتصال بالغرب والتعلم منه، ولا يقل عن هذا شأنا ـ في نظره ـ ما أتاحه هذا الاحتلال من إنشاء قوة حربية مصرية مدربة على النظم العسكرية الغربية.
وكان وجود الفرقة القبطية إذن أول شرط أساسي ُيمكّن رجلا من أفراد الأمة المصرية، يتبعه جند من أهل الفلاحة والصناعة، من أن يكون له أثر في أحوال هذه الأمة إذا تركها الفرنسيون وعادت للعثمانيين والمماليك يتنازعونها ويعيثون فيها فسادا، علي الرغم من أنه لا ينتمي لأهل السيف من المماليك والعثمانيين. وبغير هذه القوة يبقى المصريون حيثما كانوا بالأمس: الصبر على مضض أو الإلتجاء لوساطة المشايخ أو الهياج الشعبي الذي لا يؤدي لتغيير جوهري والذي يدفعون هم ثمنه دون سواهم. وهنا الفرق الأكبر بين يعقوب وعمر مكرم: يعقوب يرمي إلى الاعتماد على القوة المدربة، بينما السيد عمر يعتمد على الهياج الشعبي الذي تسهل إثارته ولا يسهل كبح جماحه؛ إذ أن يعقوب لا يريد عودة المماليك والعثمانيين وإنما يعمل على أن تكون لفئة من المصريين يد في تقرير مصير البلاد..
ذكر الجبرتي في أحداث (مايو ١٨٠٣) في كلامه عن اشتباك العسكر الألبان بأتراك الوالي العثماني خسرو أنهم (الألبان) كانوا يقولون لأهل القاهرة: laquo;نحن (نتحارب) مع بعضنا وأنتم رعية... تخضعون لمن ينتصر مناraquo;. أراد يعقوب أن يكون الأمر غير ذلك، وعوّل على أن تكون القوة الحربية المصرية الجديدة مدربة على النظم الغربية، فكان سباقا إلى تفهم درس انتصار الفرنسيين على المماليك، وهو ما أدركه محمد علي بعد قليل.
وقد سار يعقوب في مسلكه إزاء الحكم الفرنسي في خطة تخالف ما كان عليه أبناء جنسه من حيث الهدوء والسكينة والصبر والاحتمال وافتداء أرواحهم وأعراضهم في بعض الأحوال ببذل المال والعطايا. ولم يكن البطريرك ورجال الدين راضين عن تصرفات يعقوب، ونصحه المرات العديدة عن هذه الخطة وأن يعيش كسائر إخوانه، فلم يقبل. وقد أثبت التاريخ ميله منذ أيام شبابه لأعمال القتال والفروسية على طريقة المماليك واشترك أيام كان يدبر التزام سليمان بك الأغا في بعض حروب المماليك ضد جنود القبطان حسن باشا العثماني. ولما جاء الفرنسيون، عمل مرافقا للجنرال ديزيه في فتح الصعيد، وهنا رفض أن يقصر همه على ما عُيّن له، من تدبير المال والغذاء ونقل الرسائل، بل راقب سير الحرب وحارب مرة تحت عيني ديزيه نفسه على رأس طائفة من الفرسان الفرنسيين ضد جماعة من المماليك وأبلى بلاء حسنا، حمل قائده على تقليده سيفا؛ ولم يكن المعلمون الأقباط يُقلدون السيوف بل يُكسون الفراء أو يُمنحون بالمال.
كان يعقوب ينصت لحوارات الفرنسيين وأفكارهم. وقد ساعده الفارس الإيطالي النبيل ثيودور لاسكاريس الذي حضر مع بونابرت وتقلد بعض المناصب الإدارية وتعلم العربية (وكانت له أفكار كثيرة مثل إنشاء قناطر القاهرة وضرورة التقدم نحو منابع النيل؛ وكلاهما تم على يد محمد علي). وكان يرى أن الحكومة الفرنسية يجب أن تعمل على تحقيق استقلال مصر بأن تُقوّي الفرقة المصرية تحت قيادة يعقوب بحيث تكون العنصر المرجح في تقاتل العثمانيين والمماليك.
عند جلاء الفرنسيين كان من شروط التسليم أن يكون لأي مصري ممن خدم السلطة الفرنسية البقاء في أمان أو الرحيل مع الجيش. أما يعقوب فإنه برغم إغراءات ووعود القبطان باشا حسين فقد سافر (مع زوجته وبعض أقربائه وجماعة من المترجمين ومن المسلمين وكثير من النصارى الشوام والأروام) بهدف السعي لدى الحكومات الأوروبية لتحقيق استقلال مصر، بعد أن رأى تشتت الجند القبطي، وأن القيادة الفرنسية لم تُعدّ شيئا لمستقبل الفرقة القبطية أو لمستقبل مصر. وكان الفارس لاسكاريس في صحبته على الباخرة الإنجليزية بلاس.
أصيب يعقوب، وهو على ظهر quot;بلاسquot;، بمرض (غامض) وتوفي في ١٦ أغسطس ١٨٠١ وقد راعي القبطان مقامه فلم يلق جثته في البحر كالمعتاد بل حفظها حتى مرسيليا حيث دفن هناك.
وقد استمر صديقه الفارس لاسكاريس في المهمة وأعد مذكرات مفصلة أرسلها للحكومتين البريطانية للفرنسية حول أهمية معاونة مصر على الاستقلال. لكنها وجدت طريقها إلى الأرشيفات...].
انتهى (ملخص) كلام محمد شفيق غربال الذي لا يحتاج لمزيد من التعليق، سوى تذكير المحدَثين الذين يتهمون quot;المعلم يعقوبquot; بالخيانة، بأنه في الحقيقة أكثر وطنية من معظمهم، وبأنه لا يقل وطنية عن أمثال laquo;عزيز باشا المصريraquo; الذي اتُهم بالاتصال (بمساندة بعض quot;الضباط الأحرارquot;) بالألمان أثناء الحرب العالمية الثانية ليعاونهم، تخلصا من الاحتلال البريطاني...
***
باختصار، فبرغم قصر فترة بقاء الحملة الفرنسية (١١٣٠ يوما بين دخول القاهرة ومغادرتها، منها بالكاد ٤٠٠ يوما في وجود بونابرت)، فإنها كانت بمثابة الصدمة على مصر، إذ حاولت إفاقتها من غيبوبتها وزرعت فيها، بين أشياء أخرى، عددا من الأفكار الغريبة التي لم تعرفها منذ الغزو العربي (عبر ١١٦٠ عاما)؛ مثل الاستقلال والحرية، أو تلك quot;الهدامةquot; مثل quot;المساواة أمام القانونquot;؛ كما فتحت أمامها الباب للتأثر بالحضارة (الغربية) بعد قرون طويلة من السجن في قبور الظلمات والتخلف.
لم يعد ممكنا لمصر بعد الحملة الفرنسية أن تبقى مثلما كانت قبلها. لكن هل هناك من يمكنه أن يبني على ما حدث، ويبدأ مرحلة جديدة تضع مصر على طريق الخروج من النفق؟
[email protected]
التعليقات