يمتاز الخطاب السياسي في عالم الغرب والدول الاخرى الشبيه به بالليونة والرفق. وهو يستمد طبيعته من ارضية لغوية تعود مرجعيتها الى كلمة polite مهذب، والتي اشتقت منها كلمةpolitic السياسي. ومن معانيها الاخرى الماهر والذكي والعاقل واللبق والحصيف و الداهية والخبيث وعادة ما يثير ذلك الخطاب الناعم اللطيف خلافات لغوية في تفسيره لدى المتلقي الذي لا يكاد يمسك منه بدلالة محددة. يتباين القول في براعته تبعا لبراعة المتحدث في ان يتكلم بلغة ثعلبية توفر له مساحة من الحرية والامان من ان يقع فريسة موقع حرج مميت لا يمكن الخروج منه.
شفافية القول او ضبابيته وتبطينه، الميزات التي توفر امكان التملص من تبعاته، حيث يُمسك المرء ويُربط ويُدان من لسانه، غريزة فطرية في الانسان. وهو مجبول عليها منذ ان وُجد الحوار بين البشر ومنذ ان صارت السياسة فن الممكن، والممكن وسيلة سلام لا وسيلة حرب وتلك مهمة السياسي الاولى والاساس. ولتلك الغريزة غايات دفاعية تحمي الفرد وتحمي حزبه او دولته التي يمثلهما من الخسارة او الهزيمة او دخول الحرب. حيث كل دخول في الحرب هو ثمرة فشل واخفاق وغباء في مقاييس السياسة. (التلطف) في القول، ومعناه الخفي المراوغة والمرنة والمكر، هو صفة كل خطاب سياسي. وكلما كان القول السياسي حمّال اوجه الى درجة كبيرة كلما كان السياسي بارعا في ادائه وقادرا على تحقيق مطلبه من خصمه بسهولة ويسر كبيرين. وهو امر توفره طبيعة اللغة ذاتها التي quot; اكثرها مجازquot; كما يعبر جدنا عبد القاهر الجرجاني.
لكن الامر على الضد من ذلك مع اهل العربية. فاغلب كلام اهل العرب في السياسة واضح وصريح، مغلق وصلد مثل quot;جلمود صخر حطـّه السيل من عليquot; وهو اقرب ما يكون الى اهازيج الحماسة التي يشحن بها العسكري جنوده لرفع الروح المعنوية وتسخينها قبل بدأ الهجوم العسكري الذي عادة ما يكون مصحوبا بقرع الطبول. هو اقرب ما يكون الى تلك التسخينات منه الى لغة السياسة الهادئ الرزين البارد برودة مؤخرة السقــّاء.
وعادة ما يدفع كثيرون من اهل الحل والعقد حياتهم ثمنا لتلك الصراحة والوضوح الباهضين. رئيسنا العراقي المخلوع، حارس البوابة الشرقية، صاحب التصريحات النارية الفذة، قدوة حسنة في هذا المجال. ونتذكر جميعا شقشقيات عبد الناصر التي حولت مصر، البلد القوي الغني انذاك ايام كان يتصدق على الكعبة بكسوتها كل عام، الى بلد يتسول على بوابات العالم الكثيرة، ونستعيد كذلك جنجلوتيات الاخضر الليبي ذلك الحصان البري الجامح، قبل ان تردعه القذائف الامريكية ليتحول بين ليلة وضحاها الى حصان عربة وديع، وتاريخنا العربي زاخر بامثلة بديعة على هذا الامر. وقد دفع النعمان بن المنذر، الذي هو قدوة حسنة اخرى بل هو قدوة القدوات الكريمة، حياته ثمنا لتصريحات نارية ضد ملك الفرس وجرجر البلاد الى حرب لا يقدر على حمل اوزارها. ربما، نستثني، مع بعض التحفظ، دولة الاسد الى درجة ما حيث ورثتْ البراعة السياسية للامويين، وبعض دول الخليج العربي التي شذبتْ صلادتها وحرارتها رفاهية عصر البترول، لكن كثير من تلك الدول لمْ، فقد بقيت حاملة امينة لموروث الفروسية العربية وعنتريات عمر بن كلثوم.

وقد ورثتْ المعارضة العراقية بعد استلامها مقاليد الحكم في البلاد ذلك المجد العظيم الذي كرسته سلطة البعث لاربعين عاما، وقد ادمنتْ عليه وصار بعض قاتها، عفوا، قوتها اليومي وغدا مستحيلا ان تجد فكاكا منه دون ان تكون فريسة المضاعفات التي يسببها الادمان على اي نوع من المخدرات. ادمان تحبل به وتلده ارض الواقع في سلوكنا الحياتي كافراد وفي انماط معيشنا اليومي. فكل اب في العائلة العراقية او العربية هو نموذج صغير لسلطة بعث بيتية وكل ابن مخالف لابيه هو معارضة. وكلاهما ينهل ماءه وسقياه من مورد واحد.الحماسة التي لا تصلح الا لايقاد النيران وخلق الاعداء.
لعل حرارة التصريحات السياسية وصرامتها في العالم العربي تجد مرجعيتها في دلالة كلمة السياسة في لسان العرب. يقول ابن منظور: quot;هو يَسُوسُ الدوابَّ إذا قام عليها وراضَها، والوالي يَسُوسُ رَعِيَّـتهquot; فسوسُ الرعية او سياستها يعني ترويضها وتدجينها مثل سوس الدواب وترويضها وهو امر لايحتاج بالطبع الى مهارات لغوية عالية ولا الى التلطف في القول بل الى حزمة من السياط والحبال وربما مع بعض التوابل من اهازيح الحداء.
افواه السياسيين من اهلنا العرب والعراقيين بوجه خاص اشبه بفوهة تنور متقد لا يصلح بالتاكيد، كأي تنور للتفاوض والمناورة مع الخصم، ولكنه قد يكون مفيدا لشوي اللحم او لتدفئة الجماهير العربية المرتعدة من البرد في ليل العروبة المعتم الجحيلي.