حالُ المذاهب الدينية تلك، تـُشبه الى حد بعيد حالَ اللهجات العربية. فلولا الالزام القسري بقوة السلاح باقتصار التعليم على لغة قريش، لكان متاحا لتلك اللهجات انْ تتطور وتنمو لتصير لغاتٍ مستقلة ً تحمل طبيعة مجتمعاتها واساطيرها واحلامها وهوياتها المحلية، دون ان تظل، شعوب اللغة العربية، اسيرة ازدواج مَرَضي واغتراب معرفي ونفسي وتناشز سلوكي. فرغم اشتراك هذه الشعوب في لغة التعليم الا انها بقيتْ، وهو قانون حَتمي، محافظة على خصائها الذاتية، فلكلّ شعب منها آليات تفكيره وطبائعه المختلفة عن الشعب الآخر، رغم المحاولات الدموية التي شهدناها في عصر الجنون القومي لدمجها في كـُوز النقاء العربي، او غربلتها مِن كل ما خالف لونَها او خالط َ شكلها.
***
تمايزُ الطبائع في شعوب اللغة العربية أملاهُ، او أسهمَ في صياغته تمايزُ اللهجات. فاللهجة هي لغة الطفل التي لا يعرف سواها حتى يبدأ في تعلـّم العربية في اوّل يوم يدخل المدرسة في سن السادسة مثلما يتعلم، بالضبط، لغة اجنبية.
***
علمياً، تـُوصف اللغات بأنها لسانُ الام. وقد اثبتتْ المختبرات العلمية انّ الطفل يسمع اللغة والاصوات والموسيقى، في رحم امه، حين يبلغ ثلاثة شهور من العمر وربما قبلها. وقد وصَفَ احد الاكاديمين اللغة العربية بقوله:quot; اللغة العربية ليستْ لسانَ الأم لأيّ احدٍ ماquot;(Arabic is the mother tongue of no one)
***
طفولة كلّ من اللغة والدين، والطفولة عفوية وبراءة، تجدُ ما يعضّدها في قولة للمسيح: quot; الحق اقول لكم انْ كنتم لا تتحولون وتصيرون مثل الاولاد الصغار فلنْ تدخلوا ملكوت السماء quot;. متـّى 3- 18. او تؤكده المقولة الشائعة: quot; اعطني مولودا جديدا الى حد السابعة من عمره وهو مُلكي مدى الحياة. وهو ما يذكره الحديث الشهير في الولادة على الفطرة للرسول الكريم محمد ابن عبد الله (ص).
***
الفطرة في الاسلام، هي التسليم لله، وهو فضاء كلـّي مفتوح على فضاءات البشرية الكبيرة وتلوّن اطيافها، ويقوم على مبدأ الايمان بكلّ الانبياء والرسل، الميزة التي يفتقدها اخواه غير الشقيقين، الموسوية والانجيلية، quot; قولوا آمنا بما انزل الينا وما انزل من قبلناquot;.
***
الفطرة هي الايمان المطلق بالله دون حدود او صفاتٍ او تسميات جنسوية او قومية، وغير المشروط بعقائد الفقهاء وشبهات مكاييلهم ومتاهات خرائطهم وطلسمات احكامهم. وهو معنى التنزيه، الذي يقول فيه الاب اللبناني غريغوري حدادquot; ان اكثر المنزهين لله هم الملاحدة، حيث لم يجعلوا لله حدودا ولا صفاتquot;.
***
تعلـّم اللغة يشبه تعلـّم الطيران. فالطير الذي يُولد في قفص لا يمكنه الطيران اذا بلغ سن النضج. يمكن مقارنة الامر باعجوبة الحرية، اذ لايمكن امتلاك هذ السيف ذي الحدّين بأمانٍ الا لتلك الاجنـّة في الارحام، فهي، الحرية، تنمو مع اللحم والعظم وتصبح جزءا من الفرد فيتآلف معها ويتعايش معها سلميا. اما الحرية التي تأتي عن كِبـَرٍ فهي شرّ مستطير، اشبه بعلبة كبريت في يد طفل، خاصّة اذا وُهبتْ اليه مجّانا دونَ عناء وكدحٍ ووعي، او دون قصد وتدبير وسعي.
***
نجد مداليل هذا القول في النموذج العراقي في ايامنا هذه. فما حدثَ اشبه بحريق مرعب اوقدته quot;شعلة الحريةquot; المباغتة التي سقطتْ في احضان الكبار والتفـّتْ عليهم مثل ثعبان هائل وامطرتْ بوابتها بالدم. دمٌ اراقته الحرية ذاتها بعد امتلاكها، وليس نتيجة السعي الى بلوغها او الى انتزاعها. بل وحَمَلتهم، تلك الحرية الفادحة، هُم واخوتهم الوافدين اليهم براياتِ (نصر من الله وفتح قريب) من بلاد العُرب الفسيحة، في لحظة احتلام شبقي على الابتهاج طربا بالموت والتهليل له، والاستبشار به. وقد ورَدَ في بعض الاخبار الطريفة، انّ بعض الانتحاريين، بعد تفجير نفسه، وَجَدَ الاطباء انّ ملابسه الداخلية مخضّبة بالمَنيّ. قل لي بربـّك، هل شهدتْ البشرية حالة موت شبقي منتصب كهذا من قبل. الهذا تعلو الزغاريد مع اشلاء الموتى. لاعجبَ في ذلك، فهي ليلة زفاف ونكاح حتى مطلع الفجر، حيث نال الشهيد كلاّ من الحُسنيين، الشهادة والزواج بحوريةٍ بكرٍ مستلقية في انتظاره على اريكة من ذهب وحرير. لم يمسسها من قبله انس ولا جان.
***
وفي مشهد قتل البوذيين، الفتية الاكثر شفافية من اوراق زهرة اللوتس الرهيفة، والذي شاهده اغلبنا على الشاشة، في لحظات الغليان العراقي، كان السياف يجلجل بصوته: quot;هؤلاء الكفرة الذين يقولون انّ (بوذا) ربهمquot;. ثم هوى عليهم بمديته طربا ومبتسما، مغمورا بيقين الحجر من انه حجر، وأنه انما يقوم بفعل الهي مبارك، او كأن مديته انما تقطـّع بطيخة صيفية لذيذة. أهي اذن قضية لغوية صِرف. قضية تسميات وانساق لغوية متباينة. وهل دفعَ اولئك الفتية حياتهم ثمنا لاختلاف اللغات التي تحتـّم مخاطبة الخالق باسماءٍ مختلفة.
***
يقول اهلُ العربية أنّ كلام الوحي قد حفظ َ لهم لغتهم من الزوال والاندثار. تعبير صحيح ودقيق ولا يجادل احد فيه. حَفـَظها لهم، نعم، بالتاكيد، وحافظ َ عليها وحفـّظهم بها وحَفـَظـُوها عن ظهر قلب، واحفظها عليهم من التلف والعطب والتغيـّر، تماما كما تـُحفظ جثة محنطة في قبر فرعوني، او سمكة في علبة سردين. حَـفـَظ َ لهم لغتهم ولكنهم بذلك اضاعوا انفسهم وزمنهم دون ان يعلموا وصاروا هم انفسهم جثثا محنطة منذ لحظة الوحي الصافية تلك حتى يومنا هذا. وهم يستميتون من اجل ذلك الحفظ العظيم والاقامة فيه الى ابد الابدين طربين مبتهجين ومغمورين بانتشاء روحي، وهم على اهبة الاستعداد لتقديم اطفالهم ونسائهم قرابين لتلك اللحظة الباهرة التي جعلهم الله فيها خير امة اخرجتْ للناس وامة وسطا. حيث لم (يحفظ) الله للبشرية سوى ما تكلم به اليهم بلسانهم واهمل ما تكلم به لسواهم وتـََرَكه عرضة للتحريف والتشويه والضياع وجَعـَل لغتهم لغة العالمين جميعا في الاخرة، في جنة الملذات المقدسة من خمر ولبن وفتيات في عمر الورود، كلما ضاجَعها واحد منهم وعاد اليها بعد اشتهاء وجَدها بـِكرا عذراء مرة اخرى. تلك الحياة الابدية التي تنمحي فيها كل اللغات والالسن ولا يبقى الا لسانهم ولغتهم. ولا غرابة في ذلك، فالله، سبحانه وتعالى، عربي الوجه واليد واللسان. ولا تحلو له الاقامة او العيش الا في ربوع رمال العُرب وتحت ظلال خيامهم، ولا يستانس او يحلو له الحديث الا معهم.
***
الكوارث التي حدثتْ تحت راية الدين،تكمن اسبابها، ليس في الدين ذاته بل في المنظومة اللغوية التي تبني عليها المؤسسة الدينية لاهوتها وناسوتها. الايمان باللغة كحاملة امينة للحقيقة، اضافة الى رخامة اللسان ومراوغاته البليدة مع الاذن التي هي اكثر بلادة منه ومراوغة، وذلك الايمان الاحمق بالترجمة كوسيلة توضيح وتفاهم وتواصل بين اهل الكلام من البشر، هي احدى اهم الاسباب المسؤولة عن الحروب والقتل في التاريخ البشري. ربما لهذا السبب، يخلو عالم الحيوان من الحروب والغزوات، فهي لم تتورط بضلالات اللغة وامراضها؟
***
وراءَ كل حرب يكمن وسيط رديء او خبيث هو المترجم، ليس بين لغة ٍ وأخرى، بل حتى بين اهل اللغة الواحدة. وهو ما يسمى في المصطلح السياسي، المبعوث او الرسول.
***
الآية التي افتتحنا بها الكلام، ارسال الانبياء بلسان قومهم، تحمل اشارة ضمنية من الربّ الى استحالة ترجمة او نقل اي دين، باعتباره نصاً لغويا ونظاما سرديا، من لغة الى اخرى، اذ انّ كل ترجمة هي نص جديد آخر وخيانة للنص الاول وخلعٌ لعرشه. واذا ما تمّ الامر على مستواه التفني فنحن بذلك انما نصنع دينا آخر، لا يربطه بالدين الاول، النص الاصل، سوى (الروح الدفينة) التي تتباين من لغة الى اخرى وفقا لطبيعة اللغة المنقول اليها، واللغة بنية اجتماعية وفكرية ونفسية متمايزة، ووفقا لمدى معرفة الوسيط، المترجم، اذا افترضنا عدم خـُبثه، بكلا اللغتين، ومدى صفاء روحه او ضبابيتها، حيث يقع النص في نسخَتيه، المنقول عنها والمنقول اليها، تحت ظلال رحمته او جنونه الذاتي او عُقده النفسية وسُوء فهمه، وايضا، وفقا لطبيعة المتلقي التي تختلف من فرد الى آخر. وبالتالي يتعدد الدين الواحد ويتباين استنادا الى تعدد اللغات التي يُترجم اليها وايضا استنادا لطبيعة المجتمعات المختلفة حتى في اللغة الواحدة ذاتها.
***
الوصول الى معرفة الله بالعقل الذي يتجسد في الكلمات مستحيلة، لانّ العقل حقل اسئلة غير منتهية، بينما الدين اجوبة ناجزة ومنتهية عن اسئلة دورانية، متجددة ومفتوحة.
***
يُعرف الله بالقلب الذي هو بيته بل رَحِمُه ومأواه. ونخاطبه بالشعور لا بالكلمات
***
ما تعلم امرؤ لغة قوم الا احبّهم، وآمنَ بدينهم.

Sydney
[email protected]
www.atyaf.20m.com