السياسة، كالتاريخ، حافلة بالمتغيرات. إذن هي نقيض المبادئ الجامدة التي تتجاهل المستجدات. قانون الانتخاب الطبيعي الدارويني يفرض على الجميع، في الطبيعة كما في السياسة، النجاح في امتحان التكيف مع متغيرات المناخ الطبيعي أو السياسي، مَن يسقط في الامتحان تبتلعه حفرة التاريخ السوداء التي لا تقل هَوْلا عن quot;الحفرة الفلكية السوداءquot; التي تبتلع كل دقيقة 200 مليار شمس كشمسنا! لتفادي هذا المصير، يحاول صناع القرار في العالم استخدام ذكائهم الاستراتيجي لعدم الرهان على سيناريو واحد متفائل. بعد تعريف هدف القرار، الذي هو دائما المصلحة القومية المفهومة فهما صحيحا، ينتقلون إلى تخيل السيناريوهات الممكنة لتحقيقه. المصلحة القومية الفلسطينية هي جلاء جيش الاحتلال الإسرائيلي عن الضفة الغربية وحلول دولة فلسطينية محله. أقصى الأماني هي أن تكون دولة واحدة في الضفة الغربية وغزة عاصمتها القدس الشرقية. لكن ما كل ما يتمنّى المرء يُدركه... إذا واصلت حماس نضالها ضد المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لمنع ظهور الدولة الفلسطينية، فلماذا تبقى النخب الفلسطينية رهينة أوهام حماس الجهادية التي قد تكلّف الشعب الفلسطيني ضياع فلسطين اسما وأرضا؟
السؤال هو هل تستطيع إدارة أوباما المتعاطفة مع مأساة الفلسطينيين الدامية إقناع الحكومة الإسرائيلية، خاصة إذا ترأسها نتنياهو، بتجاوز شروط الرباعية التعجيزية، كنزع سلاح الميليشيات وتقويض بُنى الإرهاب...، بالعودة إلى شعار رابين الحكيم: quot;أفاوض كما لو لم يكن هناك إرهاب وأقاتل الإرهاب كما لو لم يكن هناك تفاوضquot;؟ لكن إذا فشلت في ذلك، فلماذا تزج السلطة الفلسطينية بنفسها في مأزق؟ السياسة لا تحتمل الفراغ، في غياب مصالحة وطنية فلسطينية دائمة، فإن غزة ستتحول إلى إمارة إسلامية تحارب السلطة الفلسطينية وتتعايش مع إسرائيل بهدنة طويلة. في هذه الحال لن ترى الدولة الفلسطينية النور، أو تراه لكن كمجرد اتفاق يوضع على الرفّ، يُطبق بعد 10 أعوام أن... شاء الله وصادف أن تحققت شروط الرباعية بمعجزة! وهكذا يبقى الجرح الفلسطيني مفتوحا، يتعفّن ويعفّن الشرق الأوسط كله. فلماذا لا تفكر النخب الفلسطينية في سيناريو بديل تلتفّ به على فيتو حماس على الدولة الفلسطينية؟
أعرف جيدا أن الوعي الجمعي الفلسطيني مسكون برُهاب التقسيم، وهو ككلّ رُهاب، هستيري، جرّ عليه الويلات منذ رفض تقسيم فلسطين في 47. أخذ الدرس من هذا الرفض هو الشفاء من رُهاب التقسيم إذا لم يكن من التقسيم بدّ. بالإمكان المراهنة باحتمالية معقولة على أن تقسيم فلسطين 4 يونيو 67 إلى دولتين، إسلامية في غزة وعلمانية في القدس، لن يدوم طويلا. وربما كان اتحادهما مسألة وقت. لماذا؟ الإسلام الجهادي ظاهرة عابرة تسبح ضد تيار العصر الجارف. تيار العصر هو تسارع التاريخ أي التقدم المتسارع إلى مزيد من الحداثة والعَلمانية. في المجتمعات التقليدية كل شيء هو من صنع العقل الإلهي وفي المجتمعات الحديثة كل شيء هو من صنع العقل البشري. وهكذا فروح عصرنا، العلم والتكنولوجيا وفلسفة القيم والثقافة والاقتصاد والسياسة، تحررت من الاعتبارات الدينية القديمة وتُحرِّر العالمَ منها لصالح تديّن انتقائي منفتح على الشك وعلى ارتيابية فلسفية منفتحة بدورها، ومتعايشة في سلام ووئام مع هذا التدين الجديد. عدوهما المشترك هو اليقين وقاسمهم المشترك هو الشك واللايقين. إسلام المستقبل هو إسلام براغماتيك، روحي، صوفي، نقدي، عَلماني، شخصي مفتوح على الشك شعاره الآية 24 من سورة سبأ: quot;وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍquot;، قل: يا محمد لمخالفيك في الدين قد نكونوا نحن أو انتم على هدى، أو قد نكون نحن أو أنتم في ضلال مبين. الرب وحده quot;هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَquot; (7، القلم) كما تقول آية أخرى. سيكون إسلامُ الغد، على غرار جميع الأديان الأخرى المعاصرة، إسلاما مُتعددَ الهُويات المفتوحة، هُويّات في حالة سيولة لا تعرف الجمود ودائما قيد التشكّل وإعادة التشكّل، إسلاما مُتلاقَحا مع جميع الثقافات، لا مكان فيه للحقيقة المطلقة التي ليست إلا وهما مطلقا، ولا لكراهية الآخر ولا للنرجسية الدينية؛ لا مكان فيه لمشروع حماس وأخواتها الطالباني، الشرعي الجهادي السادي والاستشهادي، لا مكان فيه للتدين المتشنج النرجسي، المنغلق، المنطوي على نفسه، المهووس بالموت والكاره للحياة ومحبي الحياة، الببغائي النصّي quot;أمام النص نقول سمعنا وأطعناquot; وأرسلنا عقولنا في إجازة طويلة! إسلام الغد هو إسلامٌ انتقائي يترك للمؤمن مطلق الحرية ليختار من دينه ومن الأديان الأخرى بما فيها الوثنية ما ترتاح اليه نفسه... فلا يعود المتدين سجينَ شعائر عُصابية جماعية تعبّر عن روح القطيع وأوامر ونواهي أنتجتها شروط تاريخية لم تعد موجودة. دشنت الثورة الخمينية ظهور حكومة الفقهاء. سقوط هذه الحكومة، وهو في المستقبل المنظور إمكانية جدية، سيغلق القوسين، فلا يعود بإمكان الفقيه الطموح الا إلى إمامة الصلاة إذا وجد مصلين: 3 على 10 من جوامع الجمهورية الإسلامية مغلقة لقلة المصلين.
إذا استطاعت نخب الدولة الفلسطينية العَلمانية في القدس الشرقية أن تجعل من الضفة الغربية سنغافورة فلسطينية فستعجل بسقوط الإمارة الإسلامية في غزة التي سيُحرّم عليها مشروعها الطالباني بناء دولة حقيقية وانجاز تنمية فعلية. التنمية والديمقراطية في ألمانيا الغربية هما اللتان اسقطتا راسمالية الدولة اللاديمقراطية واللا تنموية في ألمانيا الشرقية؛ وليس بعيدا ذلك اليوم الذي نرى فيه كوريا الشمالية تنضم سلميا لكوريا الجنوبية...
لماذا ضرورة التفكير في سيناريو الدولتين؟ لسببين أساسيين، أحدهما ايجابي والآخر سلبي. قد يمضي وقت طويل ليظهر في أمريكا رئيس متفهم لمأساة الفلسطينيين مثل أوباما. لأول مرة في التاريخ يكون أول من يُهاتفه خليفة ابراهام لنكولن، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، هو زعيم فلسطيني لدولة لم توجد بعد، محمود عباس ndash; أبو مازن، على المستوى الرمزي، الحدث تاريخي. رئيس افتراضي لدولة افتراضية يعطيه اوباما الأولوية على جميع الرؤساء الحقيقيين للدول الحقيقية! هذا الرمز واعد بترجمة نفسه إلى انجازات سياسية خاصة إذا رُفع فيتو حماس على ظهور الدولة الفلسطينية. إذا لم تظهر هذه الدولة في ولاية اوباما الأولى فقد لا تظهر أبدا. أما السبب السلبي فهو عائق حماس التي ترى في ميلاد الدولة الفلسطينية من رحم المفاوضات سِفاحا مُحرّما، كما ترى من واجباتها الدينية إجهاض هذا الجنين اللقيط. قد تغيّر حماس من قناعاتها الهاذية. لكن الشفاء من الهذيان الديني - السياسي يتطلب وقتا قد يطول، والوقت ليس في صالح الدولة الفلسطينية.
أمراض خمسة تُناضل ضد إمكانية تغيّر غالبية قيادة حماس خلال ولاية أوباما الأولى. وكم أكون سعيدا لو يكذبوا توقعي المتشائم. تفسير عوائق تغيّر قادة حماس لقادة حماس أنفسهم، غير الواعين بها، قد يساعدهم على محاولة تجاوزها. في الطب المعاصر إفهام المريض حقيقة مرضه يساعده على التعاون مع الطبيب للشفاء منه. أتمنى أن تكون هذه هي حالة قادة حماس، المرضى الذين يجهلون أنهم مرضى. المرض الأول هو اليقين الأعمى بأنهم على حق وغيرهم في ضلال مبين، اليقين في صحة رأي سياسي، قبل دعوته للمثول أمام محمكة صنع القرار العقلاني لمساءلته عن سلامة المقدمات المنطقية والوقائع الفعلية التي تأسس عليها، هذيان. لماذا؟ لأنه انتقال من المعرفة إلى الغيبيات. ميثاق حماس وممارستها إلى اليوم غارقة في أكثر أعراض الغيبيات هذيانا. الغيبيات تعني في حالة حماس ادعاء معرفة الغيب. زعم الشيخ أحمد ياسين أنه quot;حسب نبوءة التوراة والقرآن، إسرائيل ستزول سنة 2027، بعد اربعين عاما من اندلاع الانتفاضة في 1987quot;! في التسعينات، زار مستشرق بريطاني مختص في حماس غزة. استغرب من واقعة أن قادتها كانوا جميعا على يقين بأن إسرائيل ستزول سنة 2023 هذه المرة دون أن يفسروا له لماذا. لأول وهلة ظننتُ أن المستشرق اختلطت عليه الأرقام 23 و27، إلى أن اكتشفتُ مصدر يقين حماس. إنه ليس إلا سيناريو متشائم لأحد معاهد الاستطلاعات الإسرائيلية توقع أن يتساوى عدد السكان اليهود والفلسطينيين سنة 2023 فيقع خلاف بين رئيس الحكومة اليهودية ورئيس الدولة الفلسطينية... حول الاحتفال بعيد استقلال إسرائيل... يدعو رئيس الحكومة الجيش للتدخل فيرفض... عندئذ يحزم اليهود حقائبهم للهجرة النهائية... من هذا السيناريو الخيالي الساذج صنع قادة حماس قرارهم السياسي ndash; العسكري! المرض الثاني هو البارانويا الجمعية المتفشية بين قادة حماس والتي خيَّلت لهم أن الجميع يتآمرون عليهم من فلسطينيين ويهود وعرب وأمريكيين وأوروبيين، لأن الله قد فضلهم على جميع الفلسطينيين فاصطفاهم لتحرير فلسطين حتى آخِر ذرة تراب... أعراض البارانويا: الأحكام الخاطئة، العدوانية الثأرية، تضخم الأنا، التأويل التهويلي الهاذي لأقل الأمارات والشك المزمن في الأبعدين والأقربين وغالبا تصفيتهم كما كان يفعل صدام؛ المرض الثالث هو التسمر في إسلام الولاء والبراء أي في الجهاد. ترجمت قيادة حماس الجهاد ترجمة عَلمانية بـquot;خيار المقاومةquot;. وهي بارقة أمل تُشير إلى أن قادتها بدأوا يشعرون بالخجل من اسم الجهاد فستروه بكلمة المقاومة كما تُستر العورة! المرض الرابع اعتبار التفاوض مع اليهود محرما دينيا. تحريم حماس على نفسها التفاوض مع اليهود على سلام دائم ليس شرطا ظرفيا مرتبطا بموانع سياسية وعسكرية قد تزول بزوال هذه الموانع، بل هو شرط جوهراني Essentialiste، أي يتعامل مع الأحكام الفقهية المجردة، كحقائق جوهرية سابقة عن الواقع وتتحكم فيه، كجواهر أسمى من متغيرات الزمان والمكان، كماهيات ذهنية تحتقر الواقع الملموس وتكذبه. تحريمهم التفاوض للتنازل لغير المسلمين شرط يوجبه إسلام الولاء والبراء الذي يحرّم على المسلم، الذي مازال لم يكيّف إسلامه مع تطور العالم المعاصر، التنازل ولو عن quot;شبر واحدquot; من أرض فلسطين للكفار خاصة لأشدهم quot;عداوة للذين أمنواquot;، أي اليهود كما تصفهم آية سجالية متقادمة، كان على الشيخ حسن عبدالله الترابي أن ينسخها فيما نسخ من آيات متقادمة في مارس 2006. اليوم، ولعار المسلمين، مازال الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحرم تحريما غليظا السلام الدائم مع غير المسلمين، أي مع زهاء 5 مليار إنسان! لا يعترف لهم إلا بالهدنة، كاستراحة المحارب، بين حربين. هدنة تدوم بين 4 و30 عاما ثم quot;تعود الحرب جَذَعَةquot; أي مجددا كما بدأت. الانتقال من الهدنة إلى السلام مع غير المسلمين يُضاهي الانتقال من الإيمان إلى الشرك. لماذا؟ لأن إسلام الولاء والبراء، إسلام الجهاد، قرر مرة وإلى الأبد أن quot;الجهاد باق إلى قيام الساعةquot; حتى قتل آخِر يهودي، كما يقول حديث في quot;صحيحquot; البخاري، تبنّته حماس في المادة 7 من ميثاقها! المرض الخامس لقادة حماس هو تبعيتهم السياسية والعسكرية لطهران التي يكتب خالد مشعل تحت إملائها قراراته الكارثية على شعب فلسطين!
صدّق أو لا تصدّق، هذا هو الحضيض الذي تردت فيه حماس. لم يبق أمام عقلائها إلا خيار الوقوف على أرض الواقع لينظروا للعالم في عينيه عسى ولعلّ...