1:

قال تعالى: (ونزّلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات لها طلع نضيد، رزقا للعباد وأحيينا به بلدةَ ميتة كذلك الخروج).
قال تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون)
قال تعالى: (و هو الذي أنزل الرياح بشرى بين يدي رحمته وأنزلنا من السَّماء ماءً طهورا، لنحي به بلدة مَّيتا ونسقيه ممّا خلقنا أنعاما وأناسيَّ كثيرا).
قال تعالى: (والله الّذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميِّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور).
قال تعالى: (والله أنزل من السَّماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها إنَّ في ذلك لآية لقوم يسمعون
قال تعالى: (ومن آياته يُريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السَّماء ماءً فيحي به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون).
قال تعالى: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيَّ ا لأرض بعد موتها إنّ ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيئ قدير).
قال تعالى: (ولئن سألتهم من نزَّل من السّماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون).
قال تعالى: (... وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبثَّ فيها من كلِّ دابَّة وأنزلنا من السَّماء ماءً فأنبتنا فيها من كل زوج كريم).
قال تعالى: (إنّ في خلق السَّموات والأرض واختلاف الليل و النهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل لله من الَّسماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الرياح والسَّحاب المسخَّر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون).
قال تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسّما ء بناءً وأنزل من السَّماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون).
هذه هي الآيات التي تتحدث عن (إحياء الأرض بعد موتها) وللوهلة الأولى يمكن أن نقول إن معنى (الاحياء) في هذا العرض القرآني المجيد هو جعل الأرض خضراء، إنّه اخضرار الأرض (ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماءً فتصبح الأرض مخضرَّة)، واخضرار الأرض كناية عن بهجتها وزروعها وشجرها (... فإذ أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج)، (وأنزل من السّماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقا لكم)، وفي تحليل أعمق إنّه حركة الزرع، نشاطه وتكاثره وتناسله وانتشاره وإثماره، فالأرض أصبحت حية بهذه الحركة التي حصلت في تضاعيفها، وفي تحليل أكثر عمقا من هذه المرتبة، إنه يعني نفس إحياء الأرض بسبب الماء، أي حدث الإنبات ذاته، الإنشاء نفسه، وهذا معنى عميق جدا، وتدل عليه اللغة المساقة أيضا، ذلك إن التأكيد على (أخرج، أحيينا، نحيي، أحي، أنبتنا... أنشرنا...) وليس على الأرض المخضرة وإن كان ذلك بعد جدب، ولا على ذات الزرع، أو ذات حركة الزرع، بل التوكيد جاء منصبَّاً على ذات الإنبات، ذات الإخراج، فالآية ليست هي الأرض الحيَّة، بل الآية هي الإ حياء كعملية، نفس الإحياء، وإذا كان هذا هو معنى الحياة في هذه الآيات بالنسبة إلى الأرض الحيّة، فإن الأرض الميِّتة يعني كونها جدبة، أو كونها لا نبات فيها ولا شجر ولا ثمر، حيث الملحوظ هو حركة هذا النبات وليس النبات بحد ذاته، أو إنعدام عملية الإنبات فيها أصلا، وذلك تبعا لمراتب معنى الحياة المذكورة التي أسلفنا بيانها، وفي ضوء هذا التناظر يمكننا أن نكتشف بعض معاني الحياة في القرآن الكريم.
إن الآيات السابقة لا تتحدث عن الحياة، بل عن خلق الحياة، عن إيجادها، عن زرعها، إنباتها، إبداعها، ليس المهم أن تكون هناك إشارة إلى الحياة، بل المهم هو الحديث عن خلق الحياة، لأن الهدف من الآيات هو إ ثبات إمكان الحياة بعد الموت بالنسبة للبشر.
إن هذه المقاطع من الآيات القرآنية وفي خصوص إحياء الارض بعد موتها تندرج تحت القاعدة القرآنية العامة (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، ومقتضى القاعدة إن الماء لا يشكل سببا حقيقيا لهذه الحياة، بل الله هو المحيي هنا، والماء عارض في عملية الاحياء، إحياء الارض بعد موتها، ومن هنا نشات مشكلة كلامية بين المسلمين، حيث يتساءل بعضهم، ترى هل الماء بما هو ماء يخزن هذه القابلية، بحيث لا تنفك عملية الاحياء المذكورة عن الماء، أم الله أراد له أن يحي وليس لطبيعة فيه؟ وقد اخذت هذه الاشكالية من جهود المسلمين كثيرا، دون جدوى، ولكن بلا شك هنا إيمان مشترك بإن تسلسل العملية ينتهي إلى الله، خاصة وإن القرآن ينسب الأحداث والوقائع إلى الله بشكل مباشر في كثير من الآيات الكريمة.

2:
هذا الاحياء عبّر عنه القرآن الكريم بصيغ أكثر كثافة، بحيث يربط علاقة بين الماء والاحياء مباشرة ومن دون المرور على الارض.
قال تعالى: (وهو الذي أنزل من السّماء ماءً فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خّضِراً..).
قال تعالى: (... حتى إذا أقلَّت سحابا ثِقالا سقناه لبلد ميِّت بشرى بين يدي رحمته...).
قال تعالى: (وأنزلنا من السَّماء ماءً فاخرج به من الثمرات رزقا لكم).
قال تعالى: (وأنزل من السَّماء ماءً فاخرجنا به أزواجاً من نبات كل شيء).
قال تعالى: (أمّن خلق السموات والأرض وأنزل من السّماء ماءً فانبتنا به حدائق ذات بهجة مَّا كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله...).
قال تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السّماء ماءً فأخرجنا به من الثمرات مختلفا ألوانه...).
قال تعالى: (والّذي نزَّل من السَّماء ماءً بقدر فأنشرنا به بلدَّة مَّيتا كذلك الخروج).
إن النص القرآني المجيد في هذه الآيات يقفز من الماء النازل إلى عملية الإحياء، أو النشر، أو الإخراج من دون أن يمر على الأرض أو التراب أو البلدة الميتة، وما ذلك إلاّ لأن غايته الإشارة إلى الاحياء بحد ذاته في سياق دلالته على القدرة الإ لهية المطلقة التي تتضمن أيضا ا لقدرة على نشر الأجساد بعد موتها، وربما هذه النقلة العابرة لمادة الأرض أو التراب تسبب للعقل الدهشة، إذ حقا من المدهش أن يكون الماء سببا بكل هذه الثروة الخضراء، ممّا يستدعي المزيد من التفكّر والتبصر، والقرآن يتحدث عن هذا الإحياء وهو عملية تجري بين أيدينا وأمام أعيننا، ثم يرتب على ذلك مقوده الكوني الشريف.
إن القرآن يذكِّر بأهمية هذا الاحياء من خلال ثورته الخضراء، ثورته الزراعية، ثورته الجميلة، كي يعزز من قيمة هذه العملية، وأهميتها، وخطورتها، وعمق دلالتها على القدرة الإلهية الجبارة، ولم يكن يخاطب ملحدين، أو معطلين، بل يخاطب أناسا مؤمنين بإن الله هو الذي ينزل المطر من السماء، وهو الذي يحي بهذا المطر الأرض بعد موتها، فما عليهم سوى أن يؤمنوا بقدرة الله على إحياء الأجساد بعد موتها، أي يوم الحشر والنشر.

3:
هنا نسجِّل الملاحظات التالية: ــ
الملاحظة الأولى: إن هدف القرآن من إثارة هذه الظاهرة أمران، الأول: إثبات قدرة الله بشكل عام، الثاني: إثبات إمكان يوم الحشر والنشر، وكلا الأمرين كانا مهمين بالنسبة للنبي الكريم في بداية دعوته المباركة، وهما الهدفان اللذان كانا مسيطرين على لب القرآن المكي في مراحله الأولى،، فهو استعراض براغماتي، أيديولوجي، واللغة فيه تنحاز بشكل واضح باتجاه الهدف.
إن وجه القدرة هو تحويل الأرض من جدب إلى عطاء، أو هذه القدرة على إيجاد آثار متنوعة متحركة من مصدر جامد، متجانس الآثار، أو وجه القدرة ذات الإخراج، ذات الإحداث، وبالتالي، تكون دلالتها على قدرة الله النشورية أكثر وضوحا.
الملاحظة الثانية: إن هذا التوكيد على إحياء الأرض بعد موتها ليس بعيدا عن محيط النبي الجغرافي والبيئي، لما نعرفه من أن (مكّة) كانت تعاني من شح في المياه، وكان نزول المطر إنذارا بالخير والعطاء، وكثيرا ما تقحط الطبيعة عليهم بهذه النعمة، فيعيشون القلق والتبرم، وبالتالي، تشكل علائم إنبثاق الحياة من الأرض بواسطة الماء النازل من السماء نقلة في داخل نفوسهم من الفرح والبهجة، كما أنها تثير حقا مشاعر الفكر والتفكر، وهي مثار العجب بسبب هذه المقتربات، أي ندرة الماء، وما يترتب على توفره من السماء من تحول نوعي على سطح الارض، وكيف أن ذلك خارج مقدورهم الطبيعي المألوف، فالاستشهاد بهذه الظاهرة قريب لحس العرب آنذاك، عرب الحجاز بشكل عام، أذكر هذه الملاحظة لأن عملية إحياء الأرض الميتة بالماء جاء التركيز عليها في القرآن المكي أكثر مما هو في القرآن المدني.
الملاحظة الثالثة: وهي نقطة جديرة بالانتباه، إن القرآن يخاطب بهذه الظاهرة من يؤمن بالله، بل أكثر من ذلك يؤمن بإن الظاهرة ذاتها من صنيع الله وحده (ولئن سألتهم منْ نزّل من السّماء ماءً فاحيا به الأرض بعد موتها ليقولن الله...)، فهي حجة على ما يريد لأن المخاطَب يؤمن بالظاهرة، أو لنقل بالمقدمة، فكما أن الله يحي بالماء الأرض الميتة،ويخرج بالماء الواحد الجامد التنوع الهائل من الأشجار والثمرات كذلك (النشور)، على أن هذه الظاهرة وحسب منطق القرآن الكريم لا تُفهَم بشكل أعمق دون التطرق إلى معنى الحياة في ذات الكتاب، وهذا يحتاج إلى جهد مستقل.
القرآن في طرح هذه الظاهرة وبلحاظ الهدف من طرحها يتحدث إلى مؤمنين، أو مقرين بأن الله موجود، وإن الله هو الذي ينزل المطر من السّماء إلى الارض، وإن الله هو الذي يخرج الأرض من مواتها إلى حياتها بهذا الماء.
الملاحظة الرابعة: تعامل القرآن الكريم مع الظواهر الكونية بلغة المركب في كثير من الأحيان،كما هو واضح في طرح العلاقة بين هبوب الرياح، وسوق السحاب، ومن ثم دور الماء الجوهري في عملية الإحياء، وكل ذلك درس للوجدان البشري للتعامل مع الكون في إطار التفاعل بين المكونات والعناصر التي تشكل هذا الكون الرحيب، كما أنّه يتناسب مع أسس التربية الحديثة التي تقر بأن سير العملية التربوية يجب أن تسير من المركب إلى الاجزاء.
الملاحظة الخامسة: إن عملية الاحياء، إحياء الأرض بعد موتها بالمطر تكاد أن تكون موضوعا مكيّا، أو لنقل إن القرآن المكي كان أكثر إهتماما بهذه الظاهرة الكونية العظيمة من القرآن المدني، ولعل هذا واضح من خلال مقارنة سريعة بين مسافة الاستعمال في ذات القضية بين كل من القرآن المكي والقرآن المدني، وربما ذلك لأن القرآن المكي تخصص تقريبا لمسائل العقيدة، وقضية الإحياء هذه إنما سيقت لهدف عقدي، أو أكثر من هدف عقدي.
الملاحظة السادسة: إن السَّماء المذكورة في هذه الآيات هي السَّماء بمعنى العلو في مقابل السفل.
ملاحظة: فصل من كتاب بعنوان (موضوعة الخلْق في القرآن الكريم)،يصدر قريبا بإذن الله.

شكر وتقدير: أشكر الاخ الكاتب ابراهيم العبادي على بعض مقترحاته القيمة التي أتحفني بها وأنا أعد هذا البحث.