في عامها السادس والثلاثين بعد المئة تثبت الصحافة الكردية يوماً بعد يوم أنها دون جدال صحافة الكم لا النوع، فمع الانفتاح الفكري والمعرفي الواسع الذي سبقت به كردستان مناطق العراق الأخرى بأعوام، ووفرة الوسائل التكنولوجية الحديثة المتاحة، والأدوات المساعدة، وتعدد القنوات والمؤسسات الإعلامية الكردية مقارنة بالعقود القليلة الماضية، وكثرة من يمتهنونها في الإقليم وعديد الكليات والمعاهد التي تدرِّس الصحافة وخريجي أقسامها المختلفة، لا يوجد من الصحفيين المهنيين إلا قلة قليلة، فيما تتجاوز أعداد من يسمون أنفسهم إعلاميين الآلاف.
هذا التطور الصحافي والإعلامي لم يأت متوازناً ليشمل جميع الجوانب، بل تركز على الكم دون النوع، فنتج عنه افتتاح كليات الإعلام والصحافة والمعاهد المتخصصة وإنشاء نقابة للصحفيين وتوسع دائرة نشاطات المنظمات المدافعة عن الصحافة والصحافيين ومصادقة برلمان كردستان عام 2007 على قانون تنظيم العمل الصحافي وتسخير الوسائل والأدوات الفنية والتقنية الحديثة المساعدة، إلا أن النوع الصحفي أصبح مهمشا ومن الأمور الثانوية متروكا بلا اهتمام إلا ما ندر من حالات خاصة أو في بعض المؤسسات غير المسيسة أو غير الربحية.
إقرأ أيضاً: الصحافة العراقية.. جدل القديم والجديد والتسييس المفرط
ولعل أبرز سمات الصحافة الكردية الآن هي فقدان ثقة المتلقي بها، وعدم الاعتماد عليها في البحث عن المعلومة، فوسط الكم الهائل من الوسائل الإعلامية العاملة في إقليم كردستان والبون الشاسع في أساليب عملها يفتقد المتلقي معرفة دقائق الأحداث وتفاصيلها كما هي إذ إنه من الملاحظ أن التفاوت واضح في نقل المعلومة العادية فما بالك باحداث كبيرة وحساسة تتداخل معها المصالح الاقتصادية والسياسية والشخصية، عليه فإن هذا الإعلام في نظر الكثيرين غير قادر على خلق رأي عام في قضايا مهمة تمس حياة أكبر فئات المجتمع وأوسعها.
إقرأ أيضاً: كردستان تواجه أسوأ مراحلها والآت أصعب
وقد يوضح مجرد متابعة سريعة يومية للقنوات المرئية والمسوعة والمكتوبة في كردستان حجم ما تعانيه الصحافة الكردية من فقدان التأثير وتراجع القدرة على الإقناع، فالمتلقي لا يستوقفه أكثر المواضع المهمة المطروحة في القنوات لا لسبب سوى أنه لا يجد نفسه مقتنعا بما يطرح عليه إما لضعف المحتوى الصحفي أو لعدم وضوح الرسالة أو لضعف مستوى موصلها (الصحفي) الذين يسمون من باب السخرية بحاملي وحاملات المايكات.
الاعتماد المفرط على الكم في وسائل الإعلام الكردية ربما أكسبها القدرة على مواكبة نمط الصحافة الإقليمية والعالمية (شكلاً لا مضموناً)، ولكنه من ناحية أخرى أضر بها كثيرا من حيث تحسين النوع وكيفية المحتوى، لذلك قلما تجد صحفيا مطلعا ذا ثقافة عالية ومتمكنا قادرا على جذب المتلقي لمتابعة المواضيع التي يثيرها، في حين تتميز التجارب الصحفية في المحيط الإقليمي على الرغم من افتقارها للكثير من مقومات الصحافة الحديثة وفقرها المادي، تتميز بغزارة الانتاج الصحفي وتنشئة صحفيين بارزين بإمكانهم ترك بصمة واضحة في القضايا التي تهم دولهم وشعوبها وصنع رأي عام حول الأحداث المحلية اليومية.
إقرأ أيضاً: العراق الاتحادي في خطر!
المشهد الطاغي على الصحافة الكردية اليوم يكاد ينحصر في التباهي بجمع أكبر عدد من المشاهدات والمتابعين في مواقع التواصل الاجتماعي، وسرعة النشر دون الاهتمام بالدقة، واستخدام أكثر الأجهزة التكنولوجية تطورا، والتنافس غير المجدي على الأسبقية، والتركيزعلى الشكل لا المضمون، ما يدعو للتخوف من مستقبل هذه الصحافة إن لم تشهد تحولا جذريا في القريب العاجل وهو حسب المعطيات من الأمور المستبعدة.
التعليقات